د. عزمي بشارة: للثورات العربية منطق

"هناك شيء يمكن أن نسميه "روح الثورة"، تغلغل داخل المؤسسات، فأصبح الناس يشعرون بأنهم أمينون عليه. وبالتالي تحقق شيء عزيز على النفوس أشعر الناس بالكبرياء والاعتزاز معا"

د. عزمي بشارة: للثورات العربية منطق

يقف المفكر العربي عزمي بشارة في صف الثورات العربية، منطلقا من أن المثقف العضوي مرتبط بطموحات الجماهير خصوصا جيل الشباب الذي فجر الربيع العربي. ورافق بشارة هدير الجماهير، ليس فقط عبر إطلالته الإعلامية في تحليل الثورات، بل -وقبل ذلك- من خلال تطوير خطاب ديمقراطي ثوري وعقلاني في الوقت نفسه، استطاع فيه أن يعمل المبضع في التراكيب الاجتماعية السياسية والفكرية العربية.

وليس غريبا والحالة هذه أن من تابع الثورات العربية يستطيع أن يلمس أن كتبه الأخيرة مثل "أن تكون عربيا في أيامنا" و"المسألة العربية"، إضافة الى مقالاته وخطابه المعروف منذ نهاية التسعينيات مما روج لفكرة "دول المواطنين"، كانت في العديد من الحالات مراجع وبيانات للتغيير استند لها المنتفضون في تحليل الأوضاع التي ثاروا عليها.

الآن، والعيون شاخصة إلى ليبيا واليمن والبحرين، والثورات المحتملة في البلدان العربية الأخرى، يبدو الحوار مع بشارة ضرورة ملحة، خصوصا أنه اشتبك مع الشؤون العامة من خلال التثوير الفكري ضد أنظمة ترى أي تحليل نقدي عملا تحريضيا ضد سيادتها.

كما أن اشتباك بشارة في نقد الفكر اليومي يضعه في دائرة الضوء ويجعله مادة خصبة للتحليل، وحتى الخصومة من قبل أنصار الوضع القائم ربما، وهذا ما يجعل هذا الانحياز لقضايا الناس بالعمل اليومي تورطا وتضحية من المفكر لهما ثمن. فمن الأسهل للمثقف العربي البارز أن يجلس ويكتب وينشر فقط، ويتعالى على الخصومات، ولكن كيف يستقيم ذلك مع التنظير للديمقراطية ودور المثقفين.

وإذا اختار المثقف ألا يقف على الحياد في هذه اللحظة التاريخية ولو كلفه الأمر ثمنا، فلا بد أن تتوالى الأسئلة، كيف يستقيم مثلا أن يحمل هذا المفكر لواء العروبة، ثم ينحاز للثورة على القذافي "أمين القومية العربية"، وكيف يدعو بشارة إلى دولة مدنية ديمقراطية لجميع المواطنين، وهو يدرك قبل غيره أن دولا عربية عدة تتكون من فسيفساء إثنية وطائفية ستنفجر إذا أرخت الدولة العربية قبضتها أمام "خطاب الأماني"، فتتهم الأنظمة الفكر الديمقراطي بالتخريب، تخريب التوازنات التي لا يحرسها الا الاستبداد. وتاليا الحوار:

ما أنجزه التونسيون والمصريون كبير جدا بمقياس التاريخ، فقد استطاع الشباب تغيير رؤوس الأنظمة، ولكن إذا نظرنا إلى الموضوع من زاوية التحولات الاجتماعية الاقتصادية للثورات التاريخية، فما جرى في مصر وتونس ثورات ناجزة أم حركات يمكن الارتداد عليها؟

بشارة: حتى الثورات الناجحة في التاريخ حدثت ضدها ارتدادت أحيانا، لكن ذلك قطعا لم ينقص من كونها ثورات، والسؤال الآن هل ستنجح هذه الثورات في صنع التحولات! وأذكرك هنا بأن الثورة الفرنسية استمرت سنين طويلة، فهي لم تكن مجرد الهجوم على سجن الباستيل، بل تشكلت خلال سنوات طويلة، موجات إثر موجات من الحكام الذين وصلوا إلى الجمعية الوطنية (البرلمان) في باريس، وغيروا صيغة النظام، ثم حصلت ردة طويلة من النظام الملكي.

ولم تنتشر مبادئ الثورة في عموم أوروبا إلا عام 1848، أي أن الثورة الفرنسية مرت منذ قيامها عام 1789 وحتى العام 1848 بمراحل من الانتصار والارتداد.

يعني أن علينا أن نمر بنصف قرن من التحولات في العالم العربي حتى ينتشر ربيع الثورات والانتصارات الديمقراطية؟

بشارة: لا، قطعا لا، لن نمر بنصف قرن ولا حتى بخمس سنوات، لأن طبيعة العصر والمرحلة تختلف، فهناك حاليا مؤسسات دولة، وجيوش حديثة ووسائل اتصال متطورة، وفئات المثقفين والطبقات الوسطى، وصيرورة تشكل الأمم. من المفيد أن نسترجع الثورات الكبرى كي نفهم الثورتين المصرية والتونسية، وإذا أخذنا الأمر من باب الشمولية واتساع وعمق المشاركة الشعبية، وطرحها مسألة نظام الحكم، فسوف نرى أن ما انطلق من تونس ومصر هو ثورات.

حجم المشاركة الشعبية عميق ومتسع، والشعب كله خرج إلى الشوارع وأسمع صوته بوضوح، وخلال مسيرة الثورة همش الشعب الأحزاب القائمة بل واضطرها إلى اللحاق به، كما اضطرت هذه الأحزاب القائمة إلى تغيير ثوبها حتى يقبلها الشعب. لقد كان الشعب هو الذات السياسية الفاعلة في اللحظة التاريخية، لا النظام ولا الأحزاب ولا الطوائف ولا الولايات المتحدة، إن الثورة هي اللحظة التاريخية التي لا يكون فيها الشعب مجازا بل حقيقة ملموسة وذاتا فاعلة وواقعا عمليا.

لقد أطلق كفاح الشباب المارد الشعبي، وما قام به الشعب هو أنه ثوّر النظام والمعارضة معا، أي أن ما حدث هو ثورة شاملة بكل معنى الكلمة، وسوف تعقبها ثورة ثقافية وفكرية أيضا، فمثلا قام شباب الإخوان المسلمين المشاركون بالثورة بتغيير طبيعة هذه الجماعة التاريخية نفسها، وسوف يستمر هذا التغيير برأيي، وحدث هذا أيضا في صفوف حزب الوفد وحزب التجمع وداخل صفوف الناصريين، إنها ثورة شاملة، وأهم عامل فيها هو الشعب نفسه، وليس أميركا ولا أوروبا ولا الرأي العام العالمي ولا المجتمع الدولي.

لقد أعلن الشعب عن نفسه دون وسطاء ولا أيديولوجيا، وفي الحالتين المصرية والتونسية هما ثورتان دون شك، لكنهما تختلفان عن الثورات التاريخية في العالم خلافا لما يعتقد، وذلك لأنها انطلقت أولا بشكل غير مخطط، أي بدأت بحوادث احتجاج وانتهت إلى شيء آخر، وثانيا أنها كانت عفوية وبلا قيادة قبل أن تنتج لها لاحقا قيادتها بالتدريج، وليس واضحا بعد إذا كانت الثورة قد وفقت ببلورة قيادة تمثلها، لأن الثورة بدأت وحققت منجزات بسرعة، ولم يتضح إذا كانت الأحزاب القديمة قد تطورت بما يكفي لتحمل رسالة الثورة ولكي تكون أمينة عليها، يبقى أن تتبلور قيادة الثورة من خلال الثورة الثانية الجارية حاليا، أي بعد رحيل رأس النظام أمام إرادة الشعب، وهي الثورة اليومية لترجمة هذا المنجز إلى تغيير ديمقراطي في قطاعات الدولة والمجتمع المختلفة.

 ولكن ألا يعد غياب القيادة والعفوية ضعفا؟ أي جمع هاتين الصفتين مما قد يقود بالتالي إلى إمكانية انعكاس ذلك سلبا على مستقبل هذه الثورات؟

بشارة: هذا يعد عنصر ضعف وعنصر قوة معا، فلو كانت هناك قيادة للثورة منذ البداية لاختلفت الأحزاب عليها وشككت بها، وهذا يعيدنا إلى مرضية الحياة الحزبية في ظل الأنظمة العربية، لأن الأحزاب العربية تقصي بعضها بعضا، وكل طرف يشكك بالآخر، مما يشكل عائقا أمام هذه الأحزاب في أن تعمل معا. وعنصر القوة في غياب قيادة وتركز المبادرة بأيدي الشباب، وما أطلق عليه "الثوار"، هو الذي مكن من الوحدة حول الثورة.

ولك أن تتخيل لو أن هذه الثورات قادها القوميون، إذن لما شارك فيها الإخوان المسلمون، وفي المقابل لو قادها الإخوان المسلمون لما شارك فيها أكثر من نصف المجتمع، إذن لم يكن هناك بد من ألا يقود الثورات إلا الشباب، ومن هنا تبع أهمية تعبير "الشباب" الذي انتشر أيضا للتدليل على ان المقصود ليس حزبا بعينه.

ولكن هذا يتركنا في مأزق، إنه سؤال الاستمرارية، بمعنى إذا كان الشباب ليس منظما، على الأقل في البداية، الآن: ما الذي يضمن أن تستمر هذه الثورات وتحقق فعلا تحولاتها النوعية؟

بشارة: هناك شيء يمكن أن نسميه "روح الثورة"، تغلغل داخل المؤسسات، فأصبح الناس يشعرون بأنهم أمينون عليه. وبالتالي تحقق شيء عزيز على النفوس أشعر الناس بالكبرياء والاعتزاز معا، كما أشعر الناس أنهم حماته، وهذا أمر حصل قطعا في تونس ومصر.

لقد مرت لحظة تاريخية في تاريخ الشعبين المصري والتونسي -لا تحلل اقتصاديا- وهم يشعرون بالكبرياء بسببها، وهو نوع من الوطنية، إنه شعور عام بالانتماء للوطن، وهو أهم ضمان للثورة، ويجب أن يبني شباب الثورة عليه لكي يطرحوا قيادات أمينة لمبادئ الثورة، ولكي لا تحتوى من جديد من قبل أشخاص وقوى من فلول النظام. المهم الآن هو طرح رؤية الثورة بشكل منظم ومثابر ومحاسبة التطورات والإجراءات بموجبه.

 ألا يحتاج الأمر وجود ميكانيزمات تترجم هذا الشعور العام، خصوصا في ظل الخشية من ترهل الأمور مجددا أو من خطر ثورات مضادة؟

بشارة: نعم، الأمور أكثر تعقيدا وتحتاج إلى تخطيط وإستراتيجيات وأحزاب، وينبغي تطوير الشعور العام، مثال على ذلك الاقتصاد والقضاء والجيش، ينبغي وجود خطة بشأن كل قطاع منها، كان بالإمكان الإطاحة بالرأس عفويا، ولكن لا يمكن حكم البلاد عفويا، وإذا لم يتوفر جسم منظم لديه فكر وإستراتجية للقيام بتغيير تدريجي ولكن مثابر، فسوف تستمر بالحكم عناصر النظام السابق المنبثة في كل قطاع من قطاعات الدولة والمجتمع.

إن أي نظام مقبل ينبغي أن تكون لديه خطة بشأن الجيش ودوره، وهذا يحتاج إلى إستراتيجية وحزب وأفراد وضباط يدخلهم إلى المؤسسة العسكرية إضافة إلى خلق حالة من التأثير الفكري على المواطنين الذي يرتدون الزي العسكري، وفي الوقت نفسه يجب أن يملك القدرة على التأثير في البرلمان ومؤسسة الرئاسة، كما فعل حزب العدالة والتنمية في تركيا، صحيح أن الأخير جاء إلى الحكم في ظل جيش قوي وعات، لكن الحزب استطاع بالتدريج وبوجود خطة مسبقة أن يعيد الجيش إلى الثكنات، وأصبح الجيش نفسه جزءا من النظام الديمقراطي ومن دون أن يفقد قوته، هنا يلزم أن تكون لمن يتحكم بالسلطة التنفيذية والتشريعية خطة متناسقة تنفذ بالتدريج، هذا غير ممكن من دون تنظيم.

ولا بد أيضا من مراجعة الإستراتيجيات والسياسات المصرية الخارجية والعلاقة مع إسرائيل، ودور مصر تجاه القضية الفلسطينية، والدور الذي تقوم به على المستويات الإقليمية والدولية.

وأبسط مثال على ذلك أن أمرا بسيطا مثل تخفيف الحصار على غزة لم يتم بعد، فما بالك برفعه تماما والانحياز للمقاومة الفلسطينية كما يتطلب دور مصر الديمقراطية التاريخي.

بعد وقت من بدء تنفيذ الضربات الجوية ضد معاقل القذافي، خرجت مواقف تتحفظ، منها تصريحات الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى، كما ظهرت آراء في الشاعر العربي كما حصل في تونس علاوة على بعض الكتابات ممن يعدون أنفسهم قوميين ترى أن الأمر في تطبيق قرار مجلس الأمن تجاوز من كونه حماية المدنيين إلى مهاجمة دولة عربية، خلافا لما كان يؤمل من القرار الدولي؟

بشارة: في عملية تغيير النظام الليبي حصلت تعقيدات كثيرة، ومرت الثورة بتعقيدات نتيجة لبنية النظام الليبي الحاكم أو ما أسميناه في تحليلات كثيرة سابقة "اللانظام الفاقد البنية" التي لم تتح قيام مؤسسات مجتمعية شاملة، ولا أتحدث هنا عن برلمان فقط بل عن نقابات واتحادات وأحزاب ونواد، ناهيك عن وجود معارضة منظمة مسيسة.

إذن هناك في ليبيا حالة خاصة، أضف إلى ذلك اتساع البلاد الجغرافي، وعدم وجود مراكز مدينية كبرى يمكن أن يتجمع الناس فيها للتظاهر وإسقاط النظام، لقد نشأ فيها وضع استخدم فيه العقيد القمع وإطلاق النار على المواطنين من دون روادع، ثم أمسك فيه النظام بالمركز، وبالتالي كان متنفس المعارضة في الأطراف، مما ترتب عليه وضع مخالف لوجود حركة سلمية احتجاجية في المدن، وإنما أطراف انسحبت منها الأذرع المسلحة لنظام القذافي، فاستولت المعارضة على أسلحة خفيفة، وتمكنت من السيطرة على المدن بسهولة نسبية.

لكن النظام استرجع أنفاسه، وعاد ليخوض حربا شاملة مع المعارضة التي لم تكن جاهزة لحرب.

إذن هناك حركة معارضة لم تتمكن من التحول إلى قوة سلمية ضاغطة نتيجة لطبيعة النظام، الذي لا يرى بشعبه مواطنين، بل معطى يضيق به ذرعا ويقلل من فرص تحقيق عظمته، فهو كان يود أن يكون زعيما لدولة أكبر، ولأسباب تاريخية وجغرافية تتعلق بالثقافة السياسية التي روجها النظام في البلاد، إضافة إلى عوامل الطبوغرافيا والتضاريس وبنية البلد السكانية، وهذه المعارضة في الوقت نفسه ليست قادرة على خوض كفاح مسلح مع النظام، لأن تضاريس ليبيا لا تمكن من شن حرب عصابات، فهي صحراء مفتوحة.

وعليه وجدت الثورة نفسها شبابا متفرقين على مساحة شاسعة مسلحين بسلاح خفيف أمام دولة تتسلح بسلاح ثقيل، هذا هو الوضع الذي نشأ، إنها حالة من عدم التكافؤ في القوة، وفي ظل مخاوف من احتمالية قيام مذابح اضطرت الجامعة العربية إلى التدخل، وهي تجنبت ذلك في أماكن أخرى، وبعد ثماني سنوات على تجربة العراق ما كان لمجلس الأمن الدولي أن يتدخل أو يتخذ قرارا لولا قرار الجامعة العربية، كما أن جميع الأنظمة سواء الملكية أو الجمهورية تعرف فعلا ما هي طبيعة القذافي.

يعد القذافي نفسه حالة رسولية فوق مفهوم الدولة، وهذا ما رماه إلى ما قبل مرحلة الدولة عمليا، لم تنشأ دولة في ليبيا بظل القذافي، هو يعتقد أنه تجاوز مفهوم الدولة إلى الأمام، لكنه فعليا عاد إلى القبلية المحضة، وهكذا حكم ليبيا بآليات قبلية، وهو يعد نفسه فوق الأخلاق مع أنه عمليا وصل إلى وضعية ما تحت الأخلاق، وهذا ما يصيب كل من يعد نفسه فوق الأخلاق.

إذن نشأت حالة من الدكتاتورية المطلقة وأصبح الرجل حاكما بأمره؟

بشارة: ليس هناك مؤسسات تردعه، والجميع يعرف ذلك، لم تكن هناك مؤسسات ليبية يمكن مخاطبتها، مثل الجيش مثلا في مصر أو تونس أو اليمن، بل هناك مجموعة مليشيات مسلحة يسميها كتائب، وهي تابعة لأبنائه وتنطوي هذه الكتائب على عصب قبلي، وهذا أمر ليس معقولا.

من هنا نشأ وضع لا يمكن احتماله وقاد إلى تدخل الجامعة العربية ثم صدور القرار الدولي، وانتبه إلى أنه رافق ذلك الوضع يأس مطلق من قبل الجامعة العربية في إمكانية محاورة هذا الرجل أو مفاوضته، أو تغير النظام، لأن القذافي يعد نفسه فوق الأنظمة وفوق الزعماء العرب، طبعا الوضع يختلف الآن، وهو يتوسل الأنظمة للتدخل، ليس هذا فقط، بل ينبغي أن نلاحظ أن من قاد الحملة السياسية في الغرب ضد القذافي هم سفراؤه في الخارج، وكان سفير ليبيا في الأمم المتحدة الأكثر حدة في هذا التحرك، وهذا يدلل على غرابة النظام الليبي وعدم مألوفيته في تعاطيه وتعامل العالم معه.

علي هنا أن أضيف أنه يبدو كما اتضح لي أن جزءا من المعارضة الليبية قد راهن منذ البداية على التدخل الغربي للأسف الشديد.

إذن أنت كمفكر عروبي لا تعد خطاب القذافي قوميا من الأساس؟

بشارة: قلت في الكثير من المواقع بما فيها كتبي الأخيرة إنني لا أتبنى الخطاب القومي أيديولوجية، وإن هنالك قومية ثقافية عربية أو عروبة ثقافية يمكن تسييسها لتلعب دورا هاما في توحيد المجتمعات العربية على أسس حديثة. وطبعا كثيرون من أعداء القومية العربية يقولون ذلك الآن بعد الثورات من دون أن يعترفوا بخطئهم أو أن يعترفوا بصحة ما قلته طيلة السنوات الأخيرة والذي تحول إلى ثقافة معممة، تماما كما تحولت "عبارة دولة المواطنين" التي رفعتها بداية في وجه الصهيونية إلى شعار رائج عربيا.

وفي كل حال لم أر قط بالقذافي رجلا يتبنى أي أيديولوجية قومية أو إسلامية أو أفريقية، بل رجلا وصل إلى الحكم شابا في زمن المد القومي وعبد الناصر، واستلم الحكم وهو غير ناضج، ثم تحول إلى حالة ليست طبيعية، حالة نرجسية يتبنى فيها الخطاب القومي لمجده الشخصي، وهو لم يتفهم أو يتذوت أو يستدخل الخطاب القومي ولا فكرة العروبة حتى، بل بقي في بنيته الاجتماعية وفي تعامله مع ليبيا قبليا بالكامل، واستخدم الخطاب القومي في تعامله مع الخارج، لأنه يشعر أن ليبيا صغيرة عليه.

لقد نشأ القذافي في زمن عبد الناصر ووجود فكرة الزعيم القائد الملهم فأراد أن يكون كذلك، وأصبح في الواقع كاريكاتيرا عن هذا النوع من الزعامة، وحين لم ينجح غضب على العرب الذين لم يقبلوه قائدا واستخدم الخطاب الإسلامي ثم الخطاب الأفريقي، وعلينا الانتباه هنا إلى أن القذافي كان دائما يستخدم خطابات توسع رقعته بوصفه زعيما، ولاحظ كيف يعرف القذافي نفسه -وأنا لا آخذ هذا الكلام مزاحا- هو وصف نفسه بأنه عميد القادة العرب وملك ملوك أفريقيا وإمام المسلمين، هذا يدل على أنه مصاب بالحسرة من أنه زعيم ليبيا وليس بلدا أكبر، وهذا أنشأ حالة من الاغتراب بينه وبين شعبه لا يريد زعيما يتعالى عليه.

 أنت الآن فككت فكر القذافي لجهة رفضه، ولكن هناك من كتب -لسبب ما- وقال إنك كنت يوما صديقه، وبينكما لقاء فكري، فالقذافي يطرح نفسه قوميا عربيا، وكذلك يصور نفسه مفكرا، كما أنك زرته وتعرفه شخصيا.

بشارة: دائما يوجد من يكتب، لا بأس بالنقاش والخلاف بالرأي، ولكن لا أدري لماذا قد ينشر كاتب معلومات كاذبة لا أساس لها.

فمع أني لست ضد من يغير موقفه إذا غيره قناعة وليس تذبذبا، فإنه في هذه الحالة لم يتغير موقفي، فقد كنت دائما ضد القذافي كشخص وكظاهرة مسيئة للأفكار العروبية، وكنت ناقدا لمن يدور في فلكه من قوى سياسية وحركات بحثا عن دعم مالي أو غيره، فقد نجح بذلك في تخريب حركات سياسية في دول عربية عديدة وفي فلسطين، وهو دعم مؤخرا قوى سياسية "معتدلة" حليفة للغرب في فلسطين وغيرها، وحتى عند عرب الداخل بواسطة نجله وأصدقاء نجله على الساحة الفلسطينية. وقد سمعت القوى الوطنية بهذه الأمور من بعيد، فنحن لم نتصل به ولم يتصل بنا.

ووصلتني في الماضي دعوات لزيارة ليبيا لم ألبها، فقد تجنبت زيارتها طيلة حياتي السياسية -رغم كثرة الدعوات- إلا مرة واحدة لإلقاء محاضرة في طرابلس، وقد انتقدت النظام الليبي في تلك المحاضرة، أي أن جملتي التي قلتها مؤخرا في وسائل الإعلام وهي "الفوضى قد تكون أمثل غطاء للاستبداد"، كنت قد قلتها في محاضرة في طرابلس، وهذا أمر نادر الحدوث في ليبيا، وطبعا التقيته في هذه الزيارة اليتيمة وناقشته، ولم أصدر بيانا بعد اللقاء لا مدحا ولا ذما، أما سيف الإسلام فلا أعرفه ولم ألتقه في حياتي.

 في أي سنة حدث ذلك؟

بشارة: هذا فقط قبل أقل من عام، قبلت دعوة رغبة مني أن أثير ما بلغنا من أن سيف الإسلام فتح قنوات مع إسرائيل ونقدي لهذه الخطوات وللموقف الليبي من حصار غزة، وقد فعلت، وعملت على أن ينتقد ذلك آخرون أيضا، من داخل ليبيا وخارجها، وقد فعلوا، وكنت قد انتقدت علنا وفي الإعلام عدة مرات التهريج السياسي للنظام، والعلاقة بين القذافي ورئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير الذي عينه مستشارا له، واختلفنا كما هو متوقع، هي زيارة يتيمة، ولم أزر ليبيا لا قبلها ولا بعدها.

الغريب أن نفس من يثيرون الإشاعات لا يتطرقون إلى كثيرين ممن ربطتهم فعلا علاقة تعاون بالقذافي ونجله، ومنهم من يعارضه الآن، وأنا سعيد بانتقال من كان يدعمه ويحظى بتمويله من عرب وليبيين إلى معارضته، ولكن أنصار الواقع القائم يثيرون إشاعة حول من لم تكن له أي علاقة به، الهدف السياسي من ذلك مفهوم وواضح، ولكن الكذب ليس مسموحا، ومن هنا لم يأخذ أحد الأمر بجدية، وأنا لم أعلق حتى الآن، وأشكرك على السؤال على أي حال.

ولكن المهم أن كتاباتي وفكري كلها تقود باتجاه هذه المواقف النقدية، فأنا أرفض هذا النوع من الديماغوغيا القومية العربية، لقد أكدت في كتبي ذلك، ويصح ذلك عنه وعن غيره ممن يستخدمون القومية العربية أيديولوجيا، ناهيك عن مقالاتي في السنوات الأخيرة التي تحدثت فيها عن تحالف الأسر الحاكمة والأجهزة الأمنية ورجال الأعمال ووصفته بأنه "كارتيل" جديد يحكم الدول العربية، كما أن حديثي عن الجمهوريات التي باتت تشبه الملكيات واضح ومعمم، وقد أصبحت أسمعه يتردد في الإعلام، وطبعا أنا سعيد بذلك.

 هل تحيل هنا إلى أن هناك جهات متضررة من الثورات العربية تثير شائعات لغرض المس بمصداقية التحليل، بدلا من مناقشة التحليل نفسه؟

بشارة: هذا هو بالضبط، وهذا طبيعي أيضا، وبالتالي فإن تلك المحاولات لها أسباب سياسية، وهي ليست بريئة على الأقل عند من يعممها، لكنها لا تستحق أكثر من تكذيب لمرة واحدة، وليس لدي ما أضيفه، وقد قمت بالتكذيب لكي لا يقال لاحقا إني لم أنف.

استرداد الكرامة

 بعد الثورتين المصرية والتونسية سادت حالة لدى الشعوب العربية يمكن تسميتها "استرداد الكرامة"، مفادها أننا نحن العرب لسنا خارج التاريخ، ولا "ظاهرة صوتية" كما سمانا البعض، بل نحن قادرون على خلق أقدارنا، ولكن الثورة الليبية قدمت نموذجا مختلفا جعل الناس تحبس أنفاسها، في مصر وتونس قامت الثورتان على التظاهر السلمي، لكن ما قام به القذافي ضد شعبه فاجأ الجميع، بدا أن فاصل الدم وحجم العنف عكر نمط "الربيع" فاختل التنميط، هل الثورات العربية تستتبع أشكالا متعددة للتغيير؟

بشارة: أولا في الثورتين التونسية والمصرية كان هناك دم أيضا في الأيام الأولى، ما حصل في مدينة السويس المصرية مذبحة ذهب ضحيتها العشرات في يوم واحد، كما أن نظام زين العابدين ارتكب مجازر...

 نعم ولكن في الحالة الليبية سال الدم بغزارة، وكانت الكلفة بالآلاف في حالة القذافي؟

بشارة: دعنا نؤكد أولا أن الدكتاتوريات العربية أقل قمعية من مثيلاتها في الصين أو أميركا اللاتينية وروسيا، وهي هشة أيضا، هذا لا يعني أن نصاب بظاهرة الموضة بسبب وسائل الاتصال الحديثة ونعتقد أن الصورة هي "الكليشيه" الذي يمكن استنساخه، أي تعميم صورة ميدان التحرير وكأنه النموذج.

صورة ميدان التحرير لها علاقة بطبيعة الشعب المصري وخصوصيته، وقد تطورت الصورة بجدلية لها علاقة مع الشخصية المصرية، في حين أن اللحظة التاريخية في تونس كانت في اقتحام شارع بورقيبة الذي لا يقتحم، وكذلك المظاهرة أمام وزارة الداخلية ووقفة الجيش مع الشعب.

 إذن كل شعب يصنع ثورته الخاصة وفقا لشخصيته وهويته والمواصفات الخاصة به؟

بشارة: بالضبط، بالضبط. وهذا كتبته سابقا في كتابي "المسألة العربية"، وتحدثت مطولا عن المجتمع التونسي ثقافة وتعليما وهوية، وقلت إن المجتمع هناك لا ينقسم على أساس قبلي بل يجري الاختلاف سياسيا، لأن هوية المجتمع التونسي متجانسة.

إذن تاريخيا نشأت هوية عربية تونسية، وهناك هوية مصرية قوية، وهي أيضا عربية ولا يوجد تعارض، الآن أيضا يثبت لنا وجود هوية يمنية قوية تضاف إلى الهويات الجهوية والقبلية وربما سوف تتفوق عليها، ويجري الآن في صنعاء وتعز- وهما بؤرتا الثورة- عملية تشكيل هوية وطنية يمنية عابرة للطوائف، الآن يجري تشكيل هذه الهوية. وما فشلت فيه الدولة من تشكيل هوية سياسية متماسكة، فإن الثورة تفعله الآن.

 يعني أنت لا تخشى على المجتمع اليمني مما يشاع بأن البلاد قد تذهب إلى انفجار دموي؟

بشارة: لقد حصل انفجار دموي، لكن تماسك المعارضة وسيطرتها على ذاتها ثم تركها السلاح في البيوت والقدوم للتظاهر سلميا، هذا أمر يجب أن يكتب بمداد من الذهب، ففي ليبيا شعب أعزل ذهب وسلح نفسه، لكن في اليمن الشعب مسلح أصلا وتخلى عن سلاحه، وهذا أمر فائق.

لقد سئم الثوار اليمنيون تقسيم اليمن جهويا وقبليا، لكنهم يرتكزون إلى هوية ثقافية وحضارية، فالبلاد ليست كيانا مصطنعا، بل هو ضارب في عمق التاريخ، وهناك مشترك بين الشعب.  

 وفي حالة دول المشرق العربي؟ هل نستطيع الحديث عن هوية متجانسة؟

بشارة: في المشرق العربي هناك مشكلة أصعب، فالهوية الوطنية ليست راسخة الحدود، وهناك هويات طائفية وعشائرية مختلفة جرى تسييسها في فترات مختلفة وبدرجات مختلفة في ظل أنظمة استبدادية، في المشرق العربي تقع على كاهل المعارضة مهمة تجاوز الهويات الفرعية كي تتمكن من طرح نظام بديل ديمقراطي مدني، لا بد أن تقوم المعارضة بذلك وأن يبدو ذلك الجهد واضحا على بنيتها التنظيمية وعضويتها وقيادتها.

إن أي معارضة ذات طابع مذهبي أو طائفي أو عشائري سوف تفشل في معارضة النظام، لأن الأخير لن يستند فقط إلى أجهزته وأصحاب المصالح، بل إلى فئات سكانية واسعة ترى في نفسها متضررة إذا جاءت مثل هذه المعارضة إلى الحكم.

 وماذا عن الخليج العربي؟ هل سيمتد تأثير الثورات العربية ليطول الخليج هذا الربيع؟

بشارة: في الخليج دول كثافتها السكانية صغيرة، وهناك وضع اقتصادي اجتماعي معقول، ويمكن للدولة أن توفر رفاهية، ولا يلاحظ في هذه الحالات أن النقد السياسي وجودي بالنسبة للناس, والمطالب هنا تتفرق بين أمور مثل نيل حصة أكبر من الثروة، ومثل نقد مظاهر الفساد، ومن هنا يتوقف الأمر على الكثافة السكانية وحجم الثروة وحسن الإدارة وتوفر رؤية لدى الحكام.

وفي الخليج تفاوت، إنه ليس مصبوبا من مادة واحدة، هناك تفاوت من حيث طبيعة الأنظمة، وفي مسألة الشرعية وإدارة البلاد.

والمفارقة أن الثورات حدثت في الأنظمة الجمهورية، وتحديدا في الأماكن التي جرى فيها الحديث عن التوريث، فهذه الجمهوريات تستمد شرعيتها من سيادة الشعب، لكن الترتيب للتوريث أحدث تناقضا بين مصادر الشرعية، وهي في النظام الجمهوري سيادة الشعب، وبين سلوك النظام الجمهوري الوراثي بأسرة حاكمة ومزيج من "الأوتوقراطية" (السلطوية) و"نيبوتيزم" و"كليبتوكراسي" (حكم الأقارب وحكم اللصوص) مما أدى إلى الثورات.

في حالة الملكيات خصوصا التي تملك شرعيات وامتدادات عائلية وتقاليد وأعرافا ودينا فإن النظام أكثر قدرة على الاستمرارية وإجراء الإصلاحات في ظله. ولكن مع ذلك لا يوجد قانون يحميها من التغيير، فإن هذه الملكيات إذا لم تتجاوب مع متطلبات شعبها، فمن المؤكد أنه سوف تتطور معارضة. وإحدى هذه الحالات هي مملكة البحرين، ففي هذه الدولة وعد النظام بالإصلاح أكثر من مرة لكنه لم ينفذه، وما أنقذه حاليا ليس حسن إدارته للأزمة ولا إصلاحاته، بل حصول استقطاب طائفي، ولو كان المجتمع البحريني منسجما طائفيا لما خرج النظام سالما.

الاستقطاب الطائفي في البحرين أوجد تدخلا عربيا، ولكني أقول لك "هذا الاستقطاب أنقذ النظام الملكي هذه المرة، ولكنه قد لا ينقذه في المستقبل إذا لم يصلح حاله، وربما لن تسنح الظروف أن يتحرك درع الجزيرة مجددا لإنقاذه. ينبغي على النظام أن يجد طريقة لكسب غالبية شعبه، ولا يوجد مبرر في ألا يفعل".

من جهة أخرى يجب أن تحسم المعارضة البحرينية مسألة ولائها الكامل للبلاد، لأن التأثير الخارجي مذهبيا كان أم غيره سيتحول إلى تأثير سياسي كما حدث في العراق، وذلك سيقود قطعا إلى استنفار العالم العربي بأكمله، لأنه لن يسمح بتكرار تجربة العراق، إنه ولاء مذهبي يتحول إلى منفذ لدولة إقليمية تسيطر سياسيا في دولة عربية، وهذا لن يسمح به أحد، وما أقوله الآن لا يبرئ نظام الحكم في البحرين من المسؤولية، فهو المسؤول عن مواطنيه واستيعابهم، ويجب أن تكون الدولة في النهاية لجميع مواطنيها.

التعليقات