بعد جورجيا.. بل "بعد جورج" (1)../ د.عزمي بشارة

بعد جورجيا.. بل
كان العالم قد بدأ يضيق ذرعا بما يسمى "العالم الأحادي القطب" في نهاية فترة كلينتون. فبعد التدخل العسكري المباشر في يوغوسلافيا والصومال وأفغانستان والعراق (في حرب الكويت وفي الحصار المتواصل لذلك البلد)... بدأ الكثيرون في العامين 1998 و1999 ومنهم حتى وزير الخارجية الفرنسي هوبرت فيدرين بالحديث عن مخاطر "الدولة المفرطة القوة" (hyperpower (1. جرى ذلك خاصة في مرحلة ضعف روسي عام سياسي واقتصادي، وانكفاء صيني عن السياسة الدولية وعلى الاقتصاد، وبعد أن بدا أن ما وحّد القوى الغربية وحلفاءها وهو الخوف من السوفيات ومن "خطر الشيوعية" لم يعد قائما منذ العام 1989 أي منذ انهيار جدار برلين.

لقد تضمن النظام العالمي الجديد، في نظر الساسة الأوروبيين كما في نظر الكثير من المنظرين اللبراليين وما بات يسمى خطأ بـ"نشطاء" أو "منظمات المجتمع المدني" في العالم عملية تنازل طوعي نسبي عن سيادة الدولة (كما فعلت دول الاتحاد الاوروبي مثلا)، لكن هذه المرة وبعد نهاية نظام المعسكرين، لا بد من أن يجري التنازل لصالح مبادئ عالمية مثل الانصياع للقانون الدولي ومبادئ حقوق الإنسان والحفاظ على البيئة... وإذا كانت العلمنة الاقتصادية والسوق العالمية وهيمنة أذرع الاقتصاد الأميركي بصورة البنك الدولي وصندوق النقد هي الوجه الأول لعملية العلمنة، فإن تهميش القومية وسيادة الدولة لصالح مبادئ كونية عامة هو الوجه الآخر للعلمنة... لقد روّج لهذا الكلام طيلة التسعينيات كأنه جزء من النظام العالمي الجديد، وهو الجزء الذي يوازن القطب الواحد.

ومن هنا بدأ العمل على بروتوكول كيوتو، وعلى إقامة محكمة الجنايات الدولية، بعد جلد ذاتي عالمي، منافق أو غير منافق، حول ما حصل في وضح نهار العولمة والنظام العالمي الجديد والعالم يتفرج، من جرائم إبادة في رواندا...

وطبعا دار حديث لا ينتهي في أروقة الأمم المتحدة حول تجديد معاهدة منع التجارب النووية، وتوقيع معاهدة أخرى تمنع زرع حقول الألغام. وانطلقت صناعة أكاديمية لها أول وليس لها آخر تزوّر مفهوم المجتمع المدني من مجتمع منفصل عن الدولة في الدولة، ومن مجتمع قوي يعيد إنتاج ذاته في اقتصاد السوق ويوازن دولة قوية في مؤسسات ديمقراطية، إلى جمعيات غير حكومية تتلقى تمويلا من مؤسسات دعم مقرها في الدول الصناعية الكبرى.

وبدا أن البعض في المنطقة العربية يراهن على فقدان إسرائيل لوظيفتها بعد نهاية عالم القطبين، خاصة بعد تجربة الحرب الأميركية المباشرة على العراق عام 1991 من دون تدخل إسرائيلي، وبإصرار أميركي على امتناع إسرائيل عن الرد حتى حين قصفت بالصواريخ. وتوسع الرهان على أن يقوم المجتمع الدولي بفرض اتفاق سلام على "أطراف النزاع في الشرق الأوسط" بوساطة أميركية حصرية، من رهان مصري ناجم عن انضمام مصر إلى معسكر ضد آخر في عالم الحرب الباردة، إلى رهان رسمي عربي شامل بعدها.

تضمنت هذه النظرة الأوتوبية للعالم بعد الحرب الباردة معسكرا منتصرا يرى نفسه أيضا محقا وخيّرا طبيعيا، وان قيمه تستحق أن تعمم على الإنسانية جمعاء، وذلك بعد تبسيط شديد وانتقائية اشد في طرح وعرض هذه القيم... لكنها تضمنت أيضا إمكانية أن يطرح القوي نفسه كشرطي دولي قادر على تنفيذ هذه "الشرعية الدولية" الجديدة الواعدة. وكأنه يحمل هذه الرسالة التاريخية بيد والسيف باليد الأخرى... وكأنه الوريث الطبيعي لإمبراطورية روما القديمة.

وينسى العديد انه في حينه انقسمت الولايات المتحدة بشكل معكوس عما يبدو بديهيا اليوم. فالمحافظون تاريخيا هم الذين ترددوا عادة في مسألة التدخل وراء الأطلسي وخارج الأميركيتين. لكن في هذه المرحلة زاد انهيار الاتحاد السوفياتي من ترددهم. فقد اعتبروا الولايات المتحدة قد انتصرت في الحرب على السوفيات وأن عليها أن تهتم بشؤونها، وان "عملية بناء الأمة" في القارات الأخرى ليست من مهماتها.

والأدلة على ذلك لا تحصى في الصحافة والإعلام. لكن من المشوق أن نذكر في سياق الحملة الانتخابية الحالية في الولايات المتحدة، انه حين شن هؤلاء الحرب على العراق عام 2003 بقي الديمقراطي جوزيف بايدن (المرشح لنائب الرئيس في حملة اوباما التي تستخدم الحرب في العراق للهجوم على الإدارة الأميركية)، وهو المؤيد بحماسة لهذه الحرب العدوانية في التصويت الذي جرى في أكتوبر 2002، بـ73 ضد 23، عبر عن تشكيكه في نيتهم أن يذهبوا حتى النهاية، فقد شكك بالتزامهم لعلمية "بناء الأمة" في الدول الأخرى(2).

فالمحافظون الأميركيون مثل جورج بوش وتشيني ورامسفيلد كانوا يمثلون الموقف الذي يبني على المصالح الحيوية الأميركية والأمن القومي الأميركي دافعا للعمل في الخارج. ولكنهم لم يقبلوا أن دور أميركا هو تنفيذ مبادئ العدل أو القانون الدولي أو الديمقراطية، أو ما يسمى منذ التدخل الأميركي في الفيليبين، وكوبا في القرن التاسع عشر بـ"عملية بناء الأمة".

أما الليبراليون فهم تحديدا الذين تحمسوا للمهمة في كوسوفو وللحصار على العراق... وكانوا من اشد المتحمسين للحرب على العراق في ما بعد. ورغم أن جزءا من المحافظين من بقايا إدارة بوش الأب رأى أن مهمته لم تنته في الحرب التي شارك في تخطيطها عام 1991 دون إسقاط صدام حسين، وتنظم في لوبيات مثل (مشروع أميركي جديد وغيرها من المؤسسات) تدعو إلى الحرب على العراق عند كل منعطف، فإنه حتى أحداث 11 أيلول 2001 بدت الصورة في الولايات المتحدة مقلوبة عما نراه حاليا طبعا. فالمحافظون لم يرغبوا بالتدخل و"بناء أمم"، لا في البلقان ولا في هاييتي، ولا في العراق. ولم يتحمسوا لسياسة كلينتون في هذه المناطق، وعزفوا حتى عن التورط النشط في ما يسمى بـ"عملية السلام في الشرق الأوسط". ولذلك تميزت مرحلة بوش الأولى حتى 11 أيلول بالانغلاق والانعزالية، والانسحاب من بروتوكول كويوتو، ومما يسمى بعملية السلام مع الفلسطينيين.

وفقط بعد 11 أيلول وبمبررات الأمن القومي الأميركي والحرب على الإرهاب والنفط وأمن إسرائيل، خرجت الإدارة المحافظة للحرب ضد أفغانستان ثم العراق. ومنذ البداية كانت الرغبة هي إيجاد المبررات لضرب العراق، وذلك ليس بهدف بناء دولة جديدة. وقد ظهر ذلك التردد في قلة عدد القوات التي زج بها رامسفيلد في العراق، وفي عدم وجود خطة أو تصور لإدارة تلك البلاد بعد سقوط النظام. خرج المحافظون للحرب بعد أن روجوا (بتواطؤ من الصحافة الليبرالية) سلسلة خرافية من الأكاذيب التي لم يحاسب عليها احد من مختلقيها ومروجيها حتى الآن، مع أنها قدمت غطاء لهدم دول قائمة ولارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

والمخيف في صناعة الأكاذيب هذه التي تستغل الإمبراطورية هيمنتها على سوق الإعلام والتسلية كي تروجها أن كشفها في كل مرة لا يمنع من إعادة الكرة حين تتوفر ظروف شبيهة مثل القرار بشن حرب امبريالية بغطاء أنساني. فالأكاذيب التي كررها جورج بوش الأب بشكل تصويري حول قتل الجنود العراقيين للأطفال في الحاضنات في مستشفى بالكويت (مع التأكيد على العدد "الدقيق" 318!!)، والتي شهدت عليها كذبا كما اعترفت في ما بعد من تبين انها ابنه سفير الكويت في واشنطن تبين أنها جميعا افتراءات مختلقة من شركة علاقات عامة أميركية، "هيل أند نولتون"، (Hill & Knowlton) مقرها واشنطن استأجرتها حكومة الكويت كي تساهم في إقناع الرأي العام الأميركي بضرورة الحرب، وقد دربت الشركة جميع الشهود حرفيا على الأداء في الإعلام وأمام مجلسي النواب والشيوخ... يمكن الاستطراد كثيرا هنا، من دون توقف.

ولكن ما يهمنا أن "امتياز" الإمبراطورية هذا، والمتلخص بسهولة تعميم الكذب ما دامت تسيطر على الدموع والأمزجة والأذواق عبر صناعات الإعلام والتسلية، ما زال قائما بغض النظر عن قوة روسيا والصين. هنا في صناعة وترويج الثقافة والتقليعة والأمزجة والكذب، إضافة إلى صناعة الحواسيب والأبحاث العلمية المتطورة والصناعة العسكرية والانترنت، ما زالت الأحادية القطبية قائمة تؤثر وتسيطر حتى على عقول المعادين لأميركا. ولم يعرف العالم نظاما إمبراطوريا يحكم السيطرة بهذا الشكل الشمولي على الإعلام.

لقد دفعت أحداث 11 أيلول وقراءة المحافظين الجديد والليبراليين لها المحافظين إلى الخروج إلى الحرب بهذا الحماس. فلكيلهما تصور لدور أميركي ولرسالة تاريخية أميركية في ما يجب أن يبدو عليه العالم. لقد وقع فرنسيس فوكوياما ورتشارد ارميتاج وروبرت زوليك على نفس العريضة التي دعت للتخلص من نظام صدام حسين بالقوة، كما دعمها العديد من كتاب الأعمدة المعروفين في الصحف الرئيسية، بل دعمها خط الصحيفة الرسمي في الـ"واشنطن بوست" و"نيويورك تايمز" و"نيو يوركر" و"نيو ريببليك"، كما أيد الحرب مسؤولون سابقون في إدارة كلينتون، ودعمتها السيناتور هيلاري كلينتون... لقد اجتمع المحافظون الجدد والديمقراطيون على السلوك الإمبراطوري والدور العالمي للولايات المتحدة، بدءا من حماية المصالح وتأمين النفط وحتى حق وواجب الولايات المتحدة في فرض ما يجب أن يكون.

ولا شك في أن دور المحافظين الجدد وتصورهم للعالم قد التقيا مع موقف ليبراليين محليين عديدين من اليسار السابق في العالم والتقيا معهم في البحث عن نظرية خلاصية جديدة بدلا من الشيوعية، وتعاملوا مع نظرية الديمقراطية كعلاج سحري كأنها هي الحل لكافة الأعراض والأمراض والآفات... كما تطلعوا إلى تدخل أميركي عسكري حاسم وسافر.(3)

ما ميز المحافظين الجدد هو ليس محافظتهم بمعنى وجودهم في صفوف اليمين الأميركي المؤمن بقوة أميركا العسكرية واقتصاد السوق الذي تمثل بالوطنية الأميركية، بل توظيف القيم والمبادئ الليبرالية في خدمة مصالح الولايات المتحدة. وطبعا في الماضي وإبان الحرب الباردة استخدمت السياسة الأميركية "القيم والمبادئ" لتجنيد رأيها العالم في الحرب ضد الشيوعية، وأيضا في تجنيد شعوب العالم، كان ذلك الإيمان ضد الإلحاد تارة، والحرية ضد الطغيان والديمقراطية وغيرها، وذلك حتى مرحلة ريغان. فلم يكن ممكنا في يوم من الأيام قصر التوازن الدولي على الانفراج والمصالح والنفط، وغيرها وذلك في مقابل نظام يدعي أن لديه نظرية خلاص عالمية تشبه في بنيتها وطريقة تنظيمها الدين إلى حد بعيد، وهي الشيوعية... وهنا من المفيد أن نسترجع اللحظة التاريخية التي سمي فيها لأول مرة تأمين السيطرة على النفط في ما يسمى الشرق الأوسط، دفاعا عن الحرية.

لم يحصل ذلك في السعودية التي يعود تاريخ احتكار الولايات المتحدة النفط فيها إلى الثلاثينيات، في شراكة لم تتزعزع طورت الولايات المتحدة إزاءها حساسية فائقة ضد كل من يتدخل فيها أن كان حليفا أو خصما... فهنا اتخذ الدفاع عن النفط غطاء الدفاع عن الإيمان ضد الإلحاد والشيوعية. أما مقولة الحرية فقد وظفت ضد الشيوعية من قبل إدارة ايزنهاور لتبرير دعمها لبريطانيا في تخطيط الانقلاب على الزعيم الوطني الإيراني المتنور نسبيا محمد مصدق، حينما خافت بريطانيا التأميم. وقد كوفئت أميركا على جهودها في دعم الحرية ضد الشيوعية وإعادة الشاه، بـ40 من أسهم مجمع الشركات الذي أدار التنقيب والتكرير في إيران كحصة الشركة البريطانية ـ الإيرانية التي احتكرت النفط حتى ذلك الحين.(4)

ومع ذلك هنالك فرق وهو فرق جوهري مثله المحافظون الجدد وسيطر على الإدارة الأميركية بعد 11 أيلول. انه انتزاع اليمين فكرة الاوتوبيا والنظريات الخلاصية شبه الدينية من اليسار، والعمل الفعال باستخدام العنف لتنفيذها وتغيير المجتمعات، وتحميل المجتمعات مسؤولية فشلها في حالة فشلها. هذا ما قام به المحافظون الجدد، وهذا ما ميز سياستهم التي تبرر استثمار القوة في تغيير البشر والمجتمعات مثل اليعاقبة في التاريخ ومثل البلاشفة والتروتكسيين وغيرهم في عملية تغيير للمجتمعات.(5)

الأوتوبيا هنا صالحة لكل زمان ومكان، ولذلك يبدو حملتها معادين للعنصرية، ورافضين للتفريق بين صلاحية المجتمعات الثقافية لتقبل اوتوبياهم الديمقراطية، كما تبدو نظرياتهم شبيهة بالنظريات الخلاصية الكثيرة الاستخدام لتقسيمات الخير والشر المطلقين في العالم، بما فيها من تبسيط وإطلاق، وبما فيها من تبرير لارتكاب الجرائم ضد "الشر" وفي سبيل "الخير". وفي ما عدا الاوتوبيا العنيفة التي مثلها راديكاليو المحافظين الجدد وأرادوا أن تمثلها أميركا تابع "العالم المتنور" كله بقلق تأثير الأصولية الدينية المسيحية نفسها على السياسة الخارجية الأميركية.

ولا يكفي انه بموجب كل الاستطلاعات أن 90% من الأميركيين مؤمنون، ولا يكفي أن 80% منهم يؤمنون بالعجائب بشكل ما، فقد ازداد تأثير الكنائس الأصولية وتصوراتها للخير والشر على السياسة الأميركية، وذلك ليس في شؤون الحمل والإجهاض وزواج المثليين والتعليم الديني في المدارس فحسب. فقد تفاقم دورها في طرح تصوراتها لما يجب أن تكون عليه السياسة الخارجية ودور أميركا الرسولي في التاريخ في مقابل "الشر" أو الإسلام مثلا، بل تصورها لدور أميركا وإسرائيل في نهاية التاريخ.

وحتى بعد ذهاب بوش سوف يترك كل ذلك أثرا على الثقافة السياسية الأميركية المتسامحة عموما. ونحن هنا نمر مرورا على ذكر محاولات مرشح الرئاسة اوباما المستميتة إثبات انه "قبل يسوع المسيح مخلصا شخصيا" و"انه فتح قلبه له"، في دولة يفترض أنها علمانية، لنصل إلى تغلغل خطاب "الخير والشر" الديني في المجال السياسي والعلاقات الدولية لأميركا.

ولو راجع إنسان عادي المواجهة التلفزيونية أمام الجمهور في كنيسة في كاليفورنيا بين أوباما وماكين والتي أدارها الواعظ ريك وارن الذي يرغب بوراثة بيل غراهام، لأصيب بصدمة من كيفية إدارة الحملة الانتخابية الرئاسية وجدية دور الواعظ الديني، ولغة هذه الحملة في ما يفترض أنها دولة علمانية. فلم يكف أن المواجهة العلنية الأولى بين المرشحين جرت في كنيسة، وان قسا وواعظا يفرض إيقاعها، بل دار قسم كبير من النقاش حول برنامج كل مرشح لمواجهة الشر.

هكذا حرفيا، وجه الواعظ بجدية سؤالا للمرشحين: "ما هي خطتك لمواجهة الشر؟". هذا التبسيط في التعامل مع القضايا عند شرحها للرأي العام يشوه موقف الرأي العام وثقافة الناس السياسية، كما يؤدي إلى تعامل شبه ديني مع تعقيد القضايا التي يواجهها العالم، هذا عدا شيطنة الخصم السياسي.

لقد أدت الأدوات والأهداف التي وضعت، والتي اتفق عليها في مرحلة قصيرة الليبراليون والمحافظون الجدد، إلى كوارث. وهذه الكوارث هي التي فصلت بين المعسكرين، والى تراشق الاتهامات. إن آثار انهيار الدولة في العراق، وتطور المقاومة العراقية، والنفور الإقليمي والدولي من نتائج هذا العدوان، وفشل ما يسمى بالحرب على الإرهاب، هي التي أدت إلى تآكل الهيبة الأميركية دوليا والى المواجهة بين المعسكرين داخل أميركا... لقد أدى الاضطرار إلى تعديل هذه السياسة وليس صحوة ضمير، كما أدى إلى انفصال الليبراليين بحدة عن المحافظين الجدد. ومن هنا كانت الطريق قصيرة نحو نهاية مرحلة التسامح الدولي والأميركي الشعبي مع مرحلة ما بعد 11 أيلول. وتخبط المحافظون بين سياساتهم الانعزالية القديمة وبين ضرورات التورط الأميركي والمسؤولية تجاه الحلفاء الجدد. لقد ولت فجأة فرحة الضغط السريع على الزناد وفوريتها وسرعة إرسال الجنود، في حالة أزمات مثل لبنان 2006-2008 وجورجيا 2008، ففي الحالتين "مككت" مدمرات أميركية على الشواطئ لكنها اختفت ولم تفعل شيئا عند الضرورة. وبقي ذلك النوع من القيادات المحلية الذي نما وطفا على السطح في أجواء السياسات العدوانية الأميركية النشطة أسير الخيبات وضرورة تغيير سياساته والتعامل مع توازنات القوى المحلية التي لا تشبه توازنات القوى الدولية، والتي بدا كأنها حيدت فجأة. وإقليميا بدأت قوى حليفة للولايات المتحدة بالبحث عن استقلالية نسبية في صياغة تحالفاتها وعلاقاتها.

نحن نشهد نوعا من العودة للصيرورة التي بدأت قبل أحداث 11 أيلول، واقصد الضيق العالمي المتزايد بالأحادية القطبية، مع الفرق انه في هذه الاثناء نشهد عودة للدولة الوطنية عموما مع تأكيد اكبر على دور الدول الكبرى... بات بالإمكان التمييز بين دول كبرى وبين الدولة الأعظم super power، وهي ما زالت دولة واحدة... لكن هنالك بالتأكيد دولا تحاول ان تلعب دور الدول الكبرى الإقليمية وان تستقل بالقرار حين يتعلق الأم بمصالحها الوطنية... ويُحدث هذا الأمر تآكلا بالهيمنة الأميركية ويضع لها حدودا.

نرى هذا ونلاحظ فراغ غياب الدولة الوطنية في العالم العربي.
وطبعا من بين هذه الدول القوية الصاعدة اقتصاديا الهند والبرازيل وهما ليستا في حالة خصومة بل في حالة تحالف مع الولايات المتحدة. ويمكن القول إن أميركا كسبت في الهند حليفا مهما في آسيا... ليست كل الحالات الصاعدة كروسيا والصين. لكن هنالك الصين وروسيا.

بالمنطق العلمي، دخلت السياسة الدولية مرحلة ما بعد بوش، بغض النظر عن اسم الوريث في البيت الأبيض. وهذا لا يعني طبعا مرحلة ما بعد أميركا... كما يتمنى البعض. فلم تصل الإمبراطورية هذه الدرجة من الانحلال والاهتراء بعد.

وطيلة عام الانتخابات الأميركية، وهو عام 2008 الانتقالي، شهدت المنطقة العربية، والشرق الأوسط عموما، وهي المناطق التي ارتبطت مرحلة بوش بسياسات الولايات المتحدة فيها، تراجعا في السياسة الهجومية لأميركا وحلفائها. وبدأ هجوم سياسي مضاد من قبل خصوم سياساتها المحليين. فقد توجت خسارة إسرائيل حرب تموز 2006، والتي سبق أن عرفناها كحرب أميركية بأدوات إسرائيلية، بإتمام عملية تبادل الأسرى الذين شكل تحريرهم بالقوة هدفا رسميا للحرب على لبنان.

وبعد تردد طويل حسم حزب الله الوضع القائم الساكن بين "موالاة ومعارضة" في لبنان لصالحه في اجتياح لمواقع "الموالاة" في بيروت وأقسام من الجبل يومي 7 و8 أيار، وقامت حكومة وحدة لبنانية. كان ذلك ردا على اختبار وضعه حلفاء أميركا لمدى حزم حزب الله في مسألة سلاح المقاومة، وفي محاولة من طرفها لتغيير الوضع الساكن القائم... وربما كانت هذه المحاولة صورة مصغرة، أو "بروفا"، لما سوف تقدم عليه جورجيا في اوسيتيا الجنوبية بعد ذلك بشهرين.

وفي نفس هذا العام أعلنت إيران أن استمرارها في تخصيب اليورانيوم هو موضوع غير خاضع للمفاوضات مع الغرب، وبدأت سوريا التي حوصرت غربيا بفك عزلتها بقوة. لقد بدأ مفعول ما خطط له ضد سوريا بعد 11 أيلول وبعد احتلال العراق بالنفاد أيضا. وكانت علامة الطريق في الحصار قرارا فرنسيا أميركيا اقره مجلس الأمن يحمل الرقم 1559 يؤكد على انسحاب القوات الأجنبية من لبنان وإنهاء دور الميليشيات المسلحة (وقصد بها حزب الله). كان هذا يجري بنفس واحد مع الهجمة على المنطقة في حرب العراق، كأنه إعصار زعزع أركان مسلمات، وغير مواقف الكثيرين من السياسيين والمثقفين، جرفهم نحو المعسكر الأميركي الذي بدا مبادرا ومهاجما ومنتصرا بسرعة خيالية. واشتد الحصار على سوريا بعد اغتيال الحريري.

وفي نفس فترة فك عزلتها الدبلوماسية عبر تجديد العلاقة مع فرنسا، وبعون من قطر من جهة وتركيا من جهة أخرى لم تتردد سوريا بالمبادرة بتأييد علني رسمي على لسان رئيسها للهجوم الروسي المضاد على جورجيا، كما أنها لم تخفِ رغبتها باستخدام هذا التطور في السياسة الروسية لتطوير تسلحها هي ضد إسرائيل... خاصة بعد أن تبين حجم التورط الإسرائيلي العسكري والسياسي في جورجيا.

وفي يوم السابع من آب، وبروح فترة بوش وبجهل لنفاد مفعولها، اتخذ ميخائيل ساكاشفيلي قراراً بالهجوم على أوسيتيا الجنوبية. وهي تشكل مع أبخازيا أحد إقليمين انفصاليين عن بلاده جورجيا. وكان الرد الروسي فوريا وساحقا، حتى ليكاد المرء يشك في انه كان جاهزا سلفا... وكأن الحماقة الجورجية متوقعة هرولت اليها جورجيا بسهولة ويسر، أما الرد الروسي فجاء صاعقا ومفاجئا. ولم تكتف روسيا بطرد القوات الجورجية بل استعرضت قوتها بتجاوز الحدود الى أقاليم أخرى من جورجيا ذاتها. ولاحقا، ورغم إدانات الغرب المتلاحقة وجولات المدمرات الأميركية في البحر الأسود اعترفت روسيا أيضا باستقلال أبخازيا واوسيتيا الجنوبية... وقد صوّر ذلك علنياً كنوع من المعاملة بالمثل، بالرد على اعتراف دول غربية كثيرة باستقلال كوسوفو في شباط من العام نفسه. لقد أعلن ذلك الاستقلال بعد إعداد دام سبع سنوات منذ قصف صربيا عموما بما فيها كوسوفو عام 1999.

1ـ المفارقة ان هذا التيار في السياسة الفرنسية قد هزم لمصلحة الطرف الاكثر قربا من اميركا، ونقصد التيار المعجب بالمجتمع والسياسة الاميركيين بشكل غير مسبوق والذي يمثله ساركوزي. وهذا ما حصل في المانيا في المرحلة نفسها بخسارة جيرهارد شرودر لمصلحة المستشارة الحالية... من هذه الناحية لم تخسر اميركا في نهاية مرحلة بوش حلفاء في اوروبا بل كسبت حلفاء، ولكنهم حلفاء لديهم هامش حرية واسع بسبب ضعف السياسات الاميركية وتكبيل سياسة التدخل العسكري بعد العراق.

2ـ Robert Kagan, The September 12 Paradigm, Foreign Affairs, Sept.\ October .2003 (25-39.) p. .35 يورد روبرت كاغان المحافظ الجديد في مقاله هذا العديد من الامثلة لليبراليين دعموا الحرب بحماس. وهو يرود بايدن الذي يصف محافظي الادارة بأنهم غير متحمسين للحرب وانه يشك في التزامهم، وهو يصفهم قائلا:
?some of these guys don?t go for nation- building?.

3 ـ انظر بشكل خاص موقف ريجيس ديبرليه الراديكالي السابق. وهو الذي يحتفي به بعض اليسار العربي لاسباب تتعلق بالنوستالجيا، الحنين، مع ان نظرياته حتى في حينه ثبتت سطحيتها وفشلها وخاصة نظرية البؤر الثورية. ولكنه فاق حتى اليسار العربي السابق في تنظيره لدور اميركي عالمي يشبه الثورة الدائمة ومطلبه بضم اوروبا الى الولايات المتحدة ونوع من المواطنة العالمية في امبراطورية اميركا كما كان الحال في امبراطورية روما... وكله معلل بالخفو من برابرة العصر الاسلام (خوفه من الاسلام يصل هنا حد الاسلاموفوبيا الفعلية) والكونفوشية... تركيب هنتجتون على تروتسكاوية ونظرية الامبراطورية... في كتابه:
Regis Debray, Empire 0.2 (Berkeley: North Atlantic, 2004)
وصنفه كولن ميرفي من بين ما يسميهم التوسعيين الذي يبنون على توسع دور الامبراطورية الاميركية لا على انحساره.
Cullen Murphy, The New Rome- The Fall of an Empire and the Fate of America, (Cambridge: Icon, 2007), p.10.

4 ـ Chalmers Johnson, The Sorrows of Empire- Militarism, Secrecy and the End of the republic, (NY: Owl books, 2005), 220-221.

5 - ننصح حول هذا الجانب بقراءة تلخيص جيد لكاتب ليبرالي متنور هو جون جراي يضع المحافظين الجدد وادارة بوش في تصنيف الديانات السياسية التي تؤمن باوتوبيا وتببر استخدام العنف لتحقيقها مهما بلغت درجته:
John Gray, Black Mass- Apocalyptic Religion and the End of Utopia, (NY: Farrar, Straus and Giroux, 2007).

التعليقات