بعد جورجيا.. بل "بعد جورج" (2)../ د.عزمي بشارة

بعد جورجيا.. بل
مهما حاول الإعلام الغربي التمييز بين حالة كوسوفو من جهة، وحالتي أبخازيا واوسيتا الجنوبية من جهة أخرى، فإنه سيخرج خاسرا، وذلك ليس بسبب التوازي الذي وضعه الرئيس الروسي ميدفيديف بين الحالتين على حساب صربيا. فهو باستخدامه سلوك الغرب في كوسوفو لتبرير سلوك روسيا برر للغرب بأثر تراجعي الاعتراف باستقلال إقليم كوسوفو.

يشكل إقليم كوسوفو تاريخيا قسما من صربيا، وكون غالبية سكانه من الألبان لا تشكل فرقا... فقد كان هنالك تسامح دولي مع العكس، أي مع الانفصال، حتى حين كانت غالبية السكان صربية. فغالبية سكان البوسنة هم من الصرب الذين أسلموا في مرحلة من التاريخ العثماني في البلقان، ورغم كونهم من الصرب إلا أن استقلالها كان أسهل تبريراً، لأنها شكلت إمارة في يوم من الأيام. أما إقليم كوسوفو فرغم كون غالبية سكانه من الألبان، إلا أن الصرب وروسيا لا ينظرون إليه كصربي فحسب بل يعتبرونه مهد تشكل القومية الصربية. ولو طالبت أقاليم باستقلالها لمجرد تركيبتها السكانية لتمزقت روسيا نفسها وليس الاتحاد السوفييتي وحده، ولتمزقت دول غربية مثل اسبانيا. ولذلك ليس صدفة أن الأخيرة قد عارضت استقلال كوسوفو في شباط 2008.

على كل حال لم يحاول ميدفيديف ولا بوتين ولا ما تابعنا من الإعلام الروسي الادعاء أن الخطوة الروسية في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية أكثر عدالة من الخطوات الغربية في كوسوفو، بل برر هذه بتلك في حالات، واعتمد خطاب الأمن القومي على حدود روسيا، ومصالح روسيا الحيوية في ما كان يشكل يوما الاتحاد السوفييتي في حالات أخرى. وهذا بالطبع ليس خطاب معسكر سياسي أيديولوجي يقدم أو يدعي أنه يقدم قيما بديلة عن معسكر آخر. بل هي دولة تعتمد في خطابها لغة الأمن القومي ومصالح الدولة والسيادة الوطنية لا أكثر. ليست هذه عودة الحرب الباردة.

ولكن لماذا نقول ذلك؟ فكلمة الحرب الباردة لا تعني بالضرورة وجود معسكرين بخطابين عالميين. ولا يستنتج من العبارة هذه المعاني.
يعني استخدام مصطلح "الحرب الباردة" لوصف العلاقات الدولية التي سادت بين المعسكرين بين الأعوام 1949 (عام تأسيس حلف شمال الأطلسي الناتو وكسر احتكار أميركا النووي بالتجربة النووية الروسية الناجحة) و1989 (عام انهيار جدار برلين) يعني الكثير، ما عدا ما تدل عليه كلماته حرفياً. فما يفهم من الكلمات ذاتها أن التوتر بين المعسكرين لم يتخذ شكل حرب مباشرة بينهما.

ولكن أولاً، وفي الواقع، أنجبت فترة توازن الرعب بين المعسكرين اللذين نشآ بعد الحرب العالمية الثانية حروبا دموية ساخنة عدة في كوريا وفيتنام وأفغانستان وفي أميركا اللاتينية وفي الشرق الأوسط وفي أفريقيا. لم تكن هذه حرب باردة فعلاً إلا في أوروبا. فقد سفكت دماء الفيتناميين والكوريين والعرب والأميركيين والأفارقة والهنود والباكستانيين. ولم تسفك دماء الأوروبيين خلالها. وكان أحد أسس الاتفاق بين المعسكرين الحفاظ على الأمن الأوروبي بعد حربين عالميتين. وقد توّج هذا التفاهم الضمني بمعاهدة هلسنكي. كان هذا من نقاط التوازن القليلة بين المعسكرين والتي شملت إضافة للأمن الأوروبي وأوروبا، الاتفاق بين المعسكرين على الحفاظ على أمن إسرائيل حتى إبان دعم الاتحاد السوفيتي للأنظمة العربية القومية. وفي النهاية فقط شمل الاتفاق التخلص من نظام جنوب أفريقيا العنصري...

وثانيا، تجلت الحرب الباردة في تقسيم دولي أفرزته الحرب العالمية الثانية لا يحترم نظام الدول القومية التي قامت في أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى الذي نشأ بتشجيع من مبدأ ويدرو ويلسون في حق تقرير المصير. فقد قامت التوازن الدولي في الحرب الباردة على احترام ولاء الدول لأحد المعسكرين في مناطق نفوذ، وليس على احترام الحدود القومية. ولم يكن مهماً لهذا الغرض عدد القوميات التي تتألف يوغوسلافيا أو تشيكوسلوفاكيا أو الاتحاد السوفييتي منها (خاصة مناطقه الغربية وضم دول البلطيق بعد الحرب، ووضع جمهوريات القفقاز حيث أدت سياسات ستالين التهجيرية في حل "المسألة القومية" في الثلاثينيات والأربعينيات إلى البنية الكارثية المتفجرة حالياً)، بل كان المهم في أي منطقة نفوذ تقع. وجرى صراع دموي على مناطق النفوذ في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. ليس صحيحاً إذاً أن الدولة القومية شهدت أفولاً بعد انهيار نظام القطبين، بل من الواضح أنها شهدت انتعاشاً، وكنا قد ادعينا في مكان آخر أنه لم يكن صدفة أن يجري ذلك تحت عناوين مثل المجتمع المدني.

ثالثا، وهو الأمر الأهم. كانت الحرب الباردة، التي بينا أنها كانت في الواقع ساخنة فيما عدا في أوروبا، حرباً بين معسكرين يدعي كل منهما انه يحمل نظرية لنظام اقتصادي اجتماعي صالح للبشرية كلها، وهي تدعي على الأقل صلاحيتها لبناء دول إن لم يكن لإعادة بناء الإنسان نفسه (في حالة الشيوعية).

ويبدو اليوم سخيفاً تناول تلك الأدبيات المتحمسة من انهيار الاتحاد السوفييتي إلى درجة الإعلان عن نهاية التاريخ، ولكننا في هذه الورقة ندعو إلى التريث في السخرية والتسخيف. فحتى النظرية التي ثبت بطلانها تستحق اسم نظرية إذا كانت تعبر عن جهد علمي وتتضمن نواة حقيقة. ونواة الحقيقة عند فوكوياما ليست في مقولة نهاية التاريخ، بل في تقديره انه مع انهيار الشيوعية لم يعد هنالك بشكل عام برأيه (وحتى الآن برأينا) دول تحمل نظرية سياسية اجتماعية تدعي أنها صالحة لكل دول العالم. وما أكده هنتجتون في صراع الحضارات نفاه فوكوياما. فلا الحضارة الكونفوشية تطرح فكرا عالميا بديلا للبرالية الرأسمالية في المرحلة الراهنة، ولا حتى الحضارة الإسلامية. ولو وضعنا التمنيات والشعارات جانبا فإن الإسلام السياسي الحركي النشط والذي بلغ صيته الآفاق بالكاد يطرح نفسه بديلاً في الدول الإسلامية وللمجتمعات الإسلامية ذاتها، ولا يحمل نظرية سياسية اقتصادية محددة. وهذه إحدى نواقصه بعين نقاده في المجتمعات الإسلامية ذاتها. هو إذا متورط في صراع على جزء من الهوامش، وبين الهوامش والمركز، وليس في صراع عالمي يطرح فيه لشعوب العالم بديلاً في صراع مع اللبرالية والرأسمالية خلافا لادعاء المحافظين الجدد، والمحافظ هنتجتون وتلامذته. لا، لا يوجد تحدٍّ كهذا.

هذا لا يلغي طبعاً أنه حتى بعد احتلال العراق وأحداث جورجيا لم يتعلم فوكوياما الدرس. وما زال مؤيدا لاضطلاع أميركا بمهمة تاريخية هي نشر الديمقراطية في العالم. والجديد فقط أنه يميز بينها وبين توسيع الناتو والمخاطرة في حروب لهذا الغرض، لأن مسؤولية حلف الناتو أن يحمي أعضاءه من أي عدوان.(6)

وهنالك قدر من الرمزية في حقيقة أن صعود بوتين إلى مجده الوطني في روسيا جاء مرتبطا بموقفه الحازم في تشيشنيا بعد أن عينه يلتسين رئيسا للحكومة واجتاحها مباشرة في العام 1999. ومهدت خلفيته الأمنية التي تذكر بالأمجاد، وربما موقف القوى الأمنية لمصلحته، وأيضا قراره كسب الحرب ضد الانفصاليين هناك مهما كان الثمن وعلى خرائب غروزني لشعبية قادته بعد اقل من عام إلى سدة الرئاسة. في العام نفسه الذي بدأت فيه محاولة بوتين وقف التدهور في مكانة روسيا، أي في العام 1999، انضمت دول بولندا وتشيكيا وهنغاريا إلى حلف الناتو، مكملة عملية بدأت في الأعوام 1989-1994 في انسلاخ دول البلطيق وقيام الدول الآسيوية الإسلامية، وروسيا البيضاء وأوكرانيا. وبدأ تفكك يوغوسلافيا أيضا بتشجيع من أوروبا الغربية، خاصة ألمانيا التي حققت أحلاماً قديمة بالهيمنة الاقتصادية على أوروبا الشرقية، ثم بتشجيع من الولايات المتحدة أيضا. فمع تمرد تشيشنيا بدأت عملية التفكيك تدخل في صلب روسيا ذاتها. وكان يتوجب وقف هذه العملية. وهذا ما بدأ العمل عليه منذ ذلك العام، وبنفس طويل، ووصل درجة التدخل العسكري بعد تسعة أعوام فقط.

وتحمل الصيرورة هذه مغزيين في رحمها: الأول أن قوة بوتين السياسية لا تكمن في أيديولوجية عالمية تميز معسكرا عالميا، بل في وطنية تخاطب ما تبقى من وعي الدولة العظمى في روسيا وترفض ما بدا كأنه استغلال الغرب لفترة ضعفها لسلخ مناطق متزايدة عنها، والثاني أن الموقف الوطني والقومي خلافا للأيديولوجي ليس مثابرا في السياسة الخارجية بناء على مبدأ فكري أو سياسي، بل بناء على مصلحة البلد وأمنه القومي. فبإمكان السياسي الوطني أو القومي الروسي أن يقمع حركة انفصالية بقوة السلاح من جهة، وبإمكانه أن يدعم حركة انفصالية أخرى بقوة السلاح في جورجيا.

وصحيح أن قادة جورجيا القوميين قد ارتكبوا جرائم منذ التسعينيات في ابخازيا وأوسيتيا الجنوبية، وصحيح أيضا أن هجوم ساكاشفيلي الأخير تضمن قصفا إجراميا للعاصمة تسخينفالي، ولكن لا بد أيضا من الإشارة إلى أن الابخازيين نفذوا عملية طرد 200 ألف جورجي من الإقليم.(7) ليس من أخيار وأشرار هنا، ولا صراع أيديولوجي حول النظام الاقتصادي الاجتماعي الأمثل في هذه المناطق. بل إن ما نشهده هو عودة روسيا، ولكن كدولة وطنية، ذات مصالح وأمن قومي ترفض استمرار الهجمة الأميركية على حدودها من نصب الصواريخ في بولندا إلى ضم أوكرانيا وجورجيا لحلف شمال الأطلسي الى وضع قواعد عسكرية في دول آسيا الوسطى السوفياتية سابقا بحجة الحرب في أفغانستان.

والسلاح الذي يتم استخدامه ليس أيديولوجيا ولا تبشيرياً، ولا هو على صراع على كسب الرأي العام، بل يدور بأساليب مثل التلويح بقطع الغاز عن أوكرانيا، واستخدام السلاح مباشرة في جورجيا، والاعتماد على انتهازية السياسية الأوروبية التي رفعت الانتهازية إلى مستوى المبدأ والأيديولوجية، إلى درجة أصبح بالإمكان الاعتماد عليها. فبإمكان الروس الاعتماد على تقدير مفاده انه حالما وصلت الأنف الأوروبي رائحة التراجع الأميركي فان صاحبة الأنف لن تفعل شيئاً، فهي تخشى التوتر مع روسيا أمنيا، كما تخشى آثار ما تطور من علاقات مع روسيا ليس فقط في مجال استيراد النفط والغاز بل على الاستقرار في ساحتها الخلفية، شرق أوروبا، كما تخشى أي شيء يمكن أن يسبب خسارة لأي حزب حاكم في الانتخابات. لأن هذه الشعوب لا تريد حروبا ولا توترا على الأرض الأوروبية، ولا انخفاضا في مستوى المعيشة... اللهم إلا إذا وعدتها الدولة بحروب لا تجبي منها قتلى، ولا ينخفض فيها مستوى المعيشة. ولذلك فإن ألمانيا وفرنسا غير متحمستين لانضمام أوكرانيا وجورجيا إلى الناتو بتعبير متواضع. ولذلك أيضا توجه ساركوزي إلى روسيا حالما بمجده الشخصي كصانع سلام في إطار المعسكر الأميركي. وكما تقول بعض الصحف الروسية فانه غضب فقط، لأن ميدفيديف قد أعلن وقف الحرب يوما قبل وصوله، فقد كان يود لو طالت الحرب أياما أخرى لتتوقف بفضل زيارته. (8)

وما يجري حاليا هو تراجع السياسة الأميركية في نهاية مرحلة بوش التي شهدت قمة عدوانية القطب الواحد بين الأعوام ( 2001 -2005 ) مقارنة ببداياتها: في حرب الكويت وبداية تفكيك يوغسلافيا، في فترة حكم بوش الأب، وتدخل إدارة كلينتون في صربيا والصومال وأفغانستان. ولا يتخذ هذا التراجع شكل نشوء معسكر بديل يحمل نظرية بديلة... بل يفسح المجال لفاعلية أكبر للدولة الوطنية ولإرادة الشعوب.

فلسنا أمام تعدد أقطاب متحالفة سوية ضد قطب معين، بل لدينا دول كبرى لا تطرح خيارا سياسيا أيديولوجيا للعالم أجمع ضد الولايات المتحدة، ولدينا سيادات متعددة وتصورات متعددة لمصالح قومية وأمن قومي لا يحاول أصحابها فرضها على العالم كما تفعل أميركا، بل تكتفي بوضع حد للقوة غير المنضبطة وغير المراقبة دوليا للولايات المتحدة. ليست هذه قوى ديمقراطية، ولكن يمكن لقوة ديمقراطية متضررة من الهيمنة الأميركية أن تتحالف معها بناء على لقاء مصالح، ويمكن أن تفعل ذلك أيضا قوى غير ديمقراطية.

لم ينشأ معسكر جديد يطلق حربا باردة جديدة، بل عادت الحيوية إلى مفاهيم السياسة والأمن القومي في دول كبيرة واثقة من نفسها أمام دولة عظمى واحدة. وهي لا تريد أن تسيطر تلك الدولة العظمى على سياستها ومقدراتها، وترغب بوضع حد لحريتها في فرض إرادتها على الآخرين وتوسعها الأمني غير المنضبط بقانون.

حمّلت مجلة الايكونوميست، المدافع الرصين عن اقتصاد السوق في العالم، والتي تتميز منذ سنوات بكرهها الشديد لبوتين لمحاولته إعادة عجلة اقتصاد السوق إلى الخلف، حمّلت روسيا المسؤولية عما جرى. واتهمت بوتين "بالعداء المثابر لأي بلد مجاور، مثل أوكرانيا وجورجيا" يصادق الغرب أو "يتبنى السوق الحرة والديموقراطية" (9)، ولكنها وصفت ميخائيل ساكاشفيلي كما يلي: "السيد ساكاشفيلي هو قومي مندفع وقد تلطخ مؤخراً رصيده الديمقراطي. واجتياحه أوسيتيا الجنوبية كان عملا أحمق وربما أيضا إجراميا. ولكنه خلافا للسيد بوتين قاد بلاده باتجاه ديمقراطي بشكل عام، طوق الفساد، وقاد نموا اقتصاديا متسارعا لا يعتمد على ارتفاع أسعار النفط والغاز كما في حالة روسيا...". (10) علينا أن نذكر أن جورجيا تشارك في القوات التي تحتل العراق. أي تشارك في عدوان غير مبرر دولياً على بلد اكبر منها حجماً ويقع أبعد بكثير من بعدها عن روسيا.

لقد انضمت دول كثيرة من أعضاء حلف وارسو سابقا إلى حلف الناتو، ولكن من بين الجيران المباشرين لروسيا تسربت إلى حلف الناتو دول البلطيق فقط، حدث ذلك في تسعينيات القرن الماضي عندما كانت روسيا ضعيفة جدا. وخطوة روسيا الأخيرة تدل على أن الأوضاع تغيرت، فهي ترفض نصب الدرع الصاروخي في بولندا المجاورة، وترفض عضوية دول الاتحاد السوفييتي السابق في الناتو، وتشدّد من قبضتها على القفقاز.

يمر في جورجيا خط النفط المفضل على الغرب، باكو تبليسي ومنها يتشعب إلى سويسرا على شاطئ البحر الأسود وعبر تركيا إلى ميناء شيهان على المتوسط. وكان يفترض أن تشكل جورجيا ممرا آمنا ويمكن الاعتماد عليه لشحن النفط من بحر قزوين إلى البحر الأسود أو عبر تركيا إلى المتوسط دون المرور بإيران وروسيا. ولو تم حل المشاكل العالقة بين أرمينيا وأذربيجان لأمكن أن تلعب الأولى هذا الدور في الطريق إلى تركيا على الأقل. وقد بدأت تركيا تفهم أهمية هذه الإمكانية فبادرت إلى خطوات تاريخية لتحسين العلاقات مع أرمينيا.
فخلال الصراع في جورجيا كان الأنبوب الوحيد الفاعل هو ذلك الذي يمر من بحر قزوين عبر الأراضي الروسية إلى ميناء نوفوروسيسك على البحر الأسود.

ولكن روسيا لم تكتف بأنبوب الغاز من أذربيجان عبر أراضيها فهي تستثمر مع إيران في أنبوب نفط مشترك إلى باكستان والهند والصين. هذا عدا استثمارات لتطوير إنتاج وضخ ونقل الغاز والنفط في إيران من قبل روسيا والصين. يميز هذا النوع من التصرف المرحلة الجديدة. فرأس المال الروسي والصيني يبحث عن آفاق استثمارية دون التزام بتفاهمات الدول الغربية فيما بينها، وبتناقض بيّن مع مخططات محاصرة إيران أو شن الحرب عليها.

لا يوجد لدينا هنا معسكر عالمي جديد. بل قوى رأسمالية ورأسمالية دولة صناعية صاعدة ذات طاقة عسكرية معروفة وموروث هائل من سياسات الدولة الكبرى، وكل هذا خارج النفوذ الأميركي. ولا شك في أنه يخلق مجالات للعمل بناء على مصالح مشتركة مع دول وقوى أخرى خارج نطاق النفوذ الأميركي هذا ما يحصل مع الصين في أفريقيا. فهي تدخل بفائضها الاستثماري الباحث عن استثمارات وعن تأمين المواد الخام، حيث لا يوجد منافس غربي وهو غالبا في الدول التي يعتبرها الغرب مارقة، ولكن ليس فيها فقط. ولكن من الطبيعي أن يدخل هذا العملاق الجديد، حيث يمكنه أن ينافس وأيضا حيث لا يوجد منافسون لأسباب سياسية مثل المقاطعة والحظر الغربي... في إيران والسودان وزيمبابوي وغيرها... أما روسيا فغالبية استثماراتها في الخارج ما زالت تتركز في مجال الصناعة النفطية، وتوسيع سوق بيع السلاح.

جاء رد تشيني في بداية أيلول 2008 في زيارته لمناطق الأزمة وإصراره على ضم جورجيا وأوكرانيا إلى حلف الناتو باسم إدارة أميركية عرجاء. ورده هذا على تطور الأمور في روسيا لا يبشر بخير لعالم القطب الواحد. فمحاولته الطمأنة إلى قوة أميركا التي يمكن الاعتماد عليها في دول آسيا الوسطى وفي جورجيا وأوكرانيا لا تصمد في امتحان الواقع. فبعد عودته إلى بلده ثم مغادرة البيت الأبيض قريباً سوف يترك شعوب ودول هذه المناطق أمام الواقع الذي تواجه والمتمثل بقوى جارة بحجم الصين وروسيا لا يمكن تجاهل مصالحها وعودة الثقة بالنفس لتميز سياساتها. فقد بدأت تتصرف كدول عظمى في تخومها على الأقل، وقبل أن تبلور سياسات دول عظمى عالمياً. رأينا هذا في حالة الصين وبورما وكوريا الشمالية، ونرى هذا في حالة جورجيا وأوكرانيا، ولا بد أن نرى ذلك في حالة إيران في الحلقة الأبعد من هذه التخوم.

ولا شك في أنه في أميركا اللاتينية ذاتها بدأ اليسار التاريخي بالاستفادة من هامش الديمقراطية، ومن عدم قدرة الولايات المتحدة أن تستمر في نهج الحرب الباردة إزاء أنظمة منتخبة ديمقراطيا كما في فنزويلا وبوليفيا. والمهم أن الأنظمة الناقدة لأميركا والمعارضة لسياستها في تلك الدول باتت تبحث عن قنوات تنسيق مع الدول المتمردة على إملاءات القطب الواحد في الشرق... وليس هذا من بشائر معسكر جديد، بل هو من ملامح قوة الدولة الوطنية وقدرتها على التحرك بحرية أكبر في هذا العالم الجديد، مما يشكل حالة جديدة وليس معسكرا عالميا جديدا. في هذا الواقع تغيب الدولة العربية. ويغيب التنسيق القومي بين الدول العربية في محاولة لملأ الفراغ السياسي الذي ينشأ تدريجياً في المنطقة نتيجة لتآكل النفوذ الأميركي. إيران وتركيا تحاولان التفاهم ودراسة مشتركة لملأ هذا الفراغ، أما العرب فما زالوا يستثمرون أساطير وحقائق حول الخلاف بين العثمانيين والصفويين لتأجيج الخلافات فيما بينهم... في حين يتفاهم أحفاد العثمانيين والصفويين أنفسهم.

6ـ Francis Fukuyama, Financial Times, Sept.2 2009
6ـ The Economist, August 30th ? Sept. 5th..2008 pp. 27-29
8ـ مخائيل زيغار وفلاديمير سولفيوف، جريدة فلاست الروسية 18 آب،.2008
9ـ The Economist, Aug. 16th-22nd.2008 p.9.
10- نفس المصدر السابق
الجزء الأول

التعليقات