طبائع التخلف ومصارع التزلف..

طبائع التخلف ومصارع التزلف..
ليبرمان هو يميني متطرف أكثر خطورة وفظاعة في آرائه القومية المتطرفة من هايدر النمساوي. ومثل العديد من الفاشيين نال شهرة لا يستحقها. وفي خضم النقاش الدائر على تعيينه نائبا لرئيس حكومة إسرائيل لفت النظر اجتماع المسؤول الأوروبي خافير سولانا به في الكنيست حتى قبل أن يصبح وزيرا، وكأنه يبارك خطوة أولمرت. وهو الذي زار لبنان ولم يجتمع برئيسه، وقفز عن سوريا في زيارته للمنطقة... وهو نفس سولانا الذي نشرت الصحف الإسرائيلية انه، كما يليق بديمقراطي تمول صناديق مفوضيته مؤتمرات لا حصر لها ولا عد حول الديمقراطية، التقى سرا مسؤولين في أجهزة المخابرات الإسرائيلية ليستمع إلى تقييمهم للحالة الفلسطينية ولبنان، ولكنه لم يلتق الحكومة الفلسطينية المنتخبة. وهو نفسه الذي سارع إلى تبني خارطة الطريق في الرباعية، ولم يعترض على تفريغها من المضمون بفعل رسالة الضمانات من بوش إلى شارون، ثم تبنى فك الارتباط الشاروني.

لكن هذا لم يمنع أحدا من العرب من التزلف له. ولم نسمع عن أحد احتج، لا على اجتماعه بليبرمان ولا على عدم اجتماعه بمسؤولين عرب منتخبين... سولانا زار إسرائيل ثلاث مرات خلال الحرب على لبنان. ولكن العرب صامتون حتى حسبت العرب لا يريدون أن يروا أو يستوعبوا خصوصية كلامنا عن ليبرمان. والآلية المتبعة لعدم فعل أي شيء ضد أي تطور خطير هو أن الأمور سيئة على كل حال، وكلهم مثله. ولا تدري هل المقصود أن جميعهم، أي جميع المسؤولين الإسرائيليين، سيئون، ولا بأس، أم أنه لا مشكلة لديه مع أي منهم. وربما لا تخيف عقلية ليبرمان أحدا لأن بنية خطابه وتوجهاته تشبه خطاب الكثيرين من العرب، مع الفرق الجوهري بالنسبة لنا أنه مستعمر وعدواني يمثل سياسية استعمارية.

وقد تعلمنا من التجربة أن التخلف في عدم رؤية خطورة ليبرمان أو أي تدهور آخر في سياسات الاحتلال، تحت شعار كلهم صهاينة، كانوا وما زالوا، والتزلف لأمثال سولانا أي قبول تقبله ومباركته ليبرمان وغير ليبرمان، هما وجهان لعملة واحدة. التخلف والتزلف لما يعتبره التخلف تقدما وحداثة، هما وجهان لعملة واحدة.

وقبل أن أستمر أود أن أذكِّر هنيهة بما يميز ليبرمان، وليس من ناحية مصادره الفكرية، فهو أقل من أن يستحق مثل هذا التقييم، بل لأنه ماضٍ إلى مجده غير المجيد عبر التحريض على المواطنين العرب والدوس على حقوقهم، وعلى التصعيد ضد الدول العربية المحيطة. وليس لديه أمر آخر يقدمه. فهو فاشي بمعنى اتهام الأقليات كأنها طابور خامس في مراحل الأزمات، وطرح علامة سؤال كبيرة حول المواطنة كمصدر للحقوق مؤكدا على الانتماء القومي الذي يعني بالنسبة له إما اليهودية الدينية أو الانتماء لها بالخدمة العسكرية. وأخيرا لأن ضمه إلى الحكومة في عصر التحضير لمواجهة مع إيران في نهاية فترة بوش يعني بناء ائتلاف حربي، فللتسوية ائتلافات أخرى..

وإذا ضعف أولمرت أكثر نتيجة لاستنزافه هو شخصيا بتهم الفساد فسوف يكون ذلك بموازاة لتحول ليبرمان بالمقابل إلى سياسي فاشي قوي كسب من الحكومة تحويل أفكاره إلى أفكار رسمية قبل أن يحاول حل الحكومة والمنافسة انتخابيا. وسوف يكون الوحيد غير المتضرر من تأليف هذه الحكومة خاصة وأن وزارة التهديدات الإستراتيجية التي فصلت على مقاسه لا تشمل صلاحيات ولا تنفيذ سياسات لتغضب أحدا أو لتشكل مصدر خيبة أمل منه، وفيها في الوقت ذاته مجال واسع للتحريض والتصعيد وتوظيف الخبراء لاستنفار الدولة لمواجهة المخاطر التي تواجهها.

طبعا الحكومة يمينية وإجرامية دون ليبرمان، وجرائمها في غزة ولبنان في أشهر معدودة سبقت حتى حكومتي شارون. وقد سبق للترانسفيري رحبعام زئيفي، جاندي (ليس المهاتما طبعا، عاشت الأسامي!!)، أن جلس في حكومة إسرائيلية... ولكن انضمام ليبرمان هو مناسبة لتعرية هذه الحكومة ومهاجمتها دوليا، لمن يريد ذلك طبعا. ولم نسمع عن دولة عربية فاعلة في المجال الدولي التقطت هذا التحدي، إذا ليست مناسبة ولا فرصة لأنها لا تنتهز. وكلما زدنا الكلام عن هذا الموضوع يتنامى الشعور أن العرب يريدون أن نخلصهم من هذا الإحراج.

والملفت أن بعض الأخوة في الإعلام العربي عولوا على بعض عرب حزب العمل، ولا أقصد بذلك أنهم عولوا عليهم لمنع انضمام ليبرمان إلى الحكومة، بل لينتجوا خبر انسحاب أو تهديد بالانسحاب من هذا الحزب، وهذا بحد ذاته انجاز للإعلام، حتى لو لم يكن دقيقا أو صحيحا، ولا ادري من أين يأتون بهذه التوقعات، فمجرد التوقع هنا هو مديح، فهؤلاء لم ينسحبوا من الحزب أثناء المجازر في لبنان وغزة، فيما رئيسه وزير أمن إسرائيل المسؤول عن الجيش. وحتى صحيفة وطنية قومية وقعت في خطأ مثل هذا التوقع الذي لا يغتفر.

يضاف إلى ذلك أن بعض "المعتدلين" العرب عولوا عليهم أن يظهروا أن "للمعتدلين" في الداخل مواقف ومواقع ومآثر. ولكن هنالك فرق بين أن تكون "معتدلا" عربيا صاحب دولة تابعة أو حليفة لأميركا وبين أن تكون معتدلا عربيا عضوا في حزب صهيوني.

ثم اتضح لهم، ما هو واضح لنا، أن بعض أعضاء حزب العمل اليهود أكثر مبدئية من الناحية الحزبية أو في رؤية مصلحة حزبهم على الأقل ضد ليبرمان. فهؤلاء يتظاهرون على الأقل بمبدئيتهم كيسار صهيوني. ولكن من يقبل أن يكون عربيا فلسطينيا وعضوا في حزب صهيوني حتى في مرحلة شن الحرب على شعبه يقبل أي شيء، بما في ذلك ليبرمان وغير ليبرمان، وهذه ليست أكبر خطاياهم. ومن هذه الزاوية لا فرق فعلا أن تجلس كعربي في نفس الحزب مع ليبرمان أو مع بيرتس، فمجرد أن يكون العربي في حزب صهيوني هو تجاوز للتمييز بين الخير والشر. تماما مثلما نجد أميركيين اقل استعدادا للتسامح مع جرائم الجيش الأميركي في العراق وأفغانستان من بعض العرب من عملاء هذا الجيش ودوره السياسي الإقليمي. فسمعة الولايات المتحدة ومستقبلها ومستقبل الحياة فيها وما يقوم به أبناؤهم في الجيش تهمهم، أكثر مما تهم من جلب هذا الجيش ليرتكب جرائم في العراق أو أفغانستان أو ليمكنه من ارتكاب مثل هذه الجرائم. عملاء المستعمِرين الديمقراطيين هم عموما ناس غير ديمقراطيين. وهم يسمون "معتدلين" لا لأنهم يحكمون الدول العربية، أو يرغبون بحكمها باعتدال من أي نوع بل بسبب سياستهم التابعة للسياسة الأميركية الخارجية في بلادهم.

ثم حصل ما هو متوقع، استقال وزير من حزب العمل احتجاجا على موقف حزبه من الائتلاف مع ليبرمان في نفس الحكومة، ربما لأنه لم يحتمل ذلك، أو لأنه رأى في ذلك ضررا بمصلحة حزبه، أو لأنه يريد أن ينافس على رئاسة الحزب. المهم أنه انسحب. أما أعضاء الحزب العرب فلم ينسحبوا طبعا من الحزب، وليس هنالك أصلا من مبدأ يجمعهم بالحزب أو ينفرهم منه، فليس هذا ولا ذاك سبب وجودهم فيه. ولكنهم لم يكتفوا بعدم الانسحاب بل صعدوا توقعات أن يعين أحدهم وزيرا في نفس الحكومة مع ليبرمان بدل المستقيل المحتج على سياسات ليبرمان. وذلك على أمل أن يستخدمهم الحزب للتكفير على ذنب جلوسه مع ليبرمان، أي أنهم لم يكتفوا بالاستفادة من العنصرية ليكون تقدمهم الشخصي تعويضا عن التمييز ضد المواطنين العرب، كما يفعل ذلك العديد من المثقفين والسياسيين من خارج حزب العمل أيضا، بل عرضوا أنفسهم للتغطية على الفعلة في مكان وزير يهودي استقال... وهم لا يدرون أن لا شيء فيهم يؤهلهم للتغطية على أي شيء.

هنالك أمثلة عربية كثيرة على هذا السلوك الذي يسميه المتخلفون دائما براغماتية. وأحيانا يلتقي هؤلاء البراغماتيون المعتدلون بعد أن كان معتدلو الدول العربية يخجلون بمثل هؤلاء المعتدلين الذين تطلق عليهم في الشارع أوصافا أخرى. فالكثير من العرب في الدول العربية يبدأ باستقبال الوطنيين من عرب الداخل لنسج علاقات معهم تبدو تضامنية ولا يعترض عليها رأيهم العام. ولكن سرعان ما يتضح أن الهدف هو الوصول إلى العرب الأقرب من إسرائيل وذوي العلاقات الأكثر تشعبا مع شخوص المؤسسة الحاكمة الإسرائيلية إن كانوا من أحزاب صهيونية أو من خارج الأحزاب الصهيونية... وهنالك خارج الأحزاب الصهيونية من تتشعب علاقاته مع المؤسسة الحاكمة في إسرائيل ويعرض خدماته. ولكن، ولكي يصبح كل هذا شرعيا يطلق على الجميع لقب واحد يجمع الجميع، من نوع "أعضاء الكنيست العرب" أو "العضو العربي في الكنيست الإسرائيلي" أو "وهو من عرب 48"، وكأن هذا الانتماء موقف. هكذا يتم استخدام مواقف البعض الوطنية المثابرة لتبييض صفحة الكل على مستوى الرأي العام العربي الذي بالكاد تعرف إلى عرب الداخل فكم بالحري أن يميز بينهم. لقد كانت هنالك مصلحة للبعض بالانتقال من تخوين الجميع إلى اعتبار الجميع وطنيين، و"لا حد أحسن من حد".

وفي الحقيقة أن هذا هو الأصل بمعنى أن غير الوطنيين من العرب في إسرائيل أقرب إلى عقلية بعض الدوائر في العالم العربي وبعض الحكام العرب من ذوي المواقف الوطنية فعلا. ويمكن التعويل على الأعضاء العرب في الأحزاب الصهيونية وعلى غيرهم ممن يعرف عن علاقاته مع المؤسسة الصهيونية الحاكمة لكي يثبتوا أن هذه الطريق هي الطريق لتحقيق المكاسب سواء داخل إسرائيل أو خارجها. وفي الحقيقة فإن التجربة تثبت العكس. والحالة الوحيدة التي يحقق فيها هؤلاء مكسبا ما هو نتيجة غير مباشرة لوجود المعسكر الوطني الملقب ب"المتطرف" ولغرض إضعافه، أو كوقاية لئلا يقوى. ولو لم يكن المعسكر الوطني موجودا لداست الصهيونية على من يتعامل معها كما كانت تفعل دائما... فهي لم تتميز باحترام المتعاونين معها ومنحهم حقوقا في الماضي... وهذا هو حال الاستعمار مع حلفائه في المنطقة، لأن أي مكسب يحققوه ناجم عن وجود قوى وطنية مقاومة للاستعمار يرغب الاستعمار بإضعافها.

ومن أظرف ما يتولد من علاقات التيار العربي المعتدل مع عرب الداخل عدا النصائح التي يريد سماعها حول ضرورة قبول أي اقتراح إسرائيلي كبادرة حسن نية وكتطور في الموقف الإسرائيلي، هو الإشادة بالبقاء والصمود، ولو كان صمودا داخل حزب صهيوني، ولو كان بقاء في إطار مؤسسة أمنية إسرائيلية. وبعدما اعتقدنا أننا أقنعنا بعض الأخوة العرب بأهمية الدفاع عن الهوية القومية والوطنية والتواصل العربي والمطالبة بدولة المواطنين كأداة في محاربة الصهيونية ولتحويل معركة المساواة إلى معركة ضد الصهيونية، نجدهم يسألون لماذا لا تطالبون بدخول الحكومة الإسرائيلية والائتلاف، ولماذا لا تدخلون لجنة الداخلية والأمن؟ لقد تبين أن أي أسرلة طوعية للفلسطينيين تريحهم وتريح ضمائرهم، ويعتبرونها نوعا من البراغماتية. أما من يبدع في الإشادة فيحيي التكاثر الديمغرافي ونسب الولادة، للافتخار بنسب الولادة والمطالبة بها واعتبار رحم المرأة سلاحا وردا على ليبرمان، فذلك له وجهان مختلفان متخلفان، الأول اعتبار المرأة أداة إنجاب واعتبار الإنجاب وسيلة واعتبار الكثرة والعدد كافية للتفوق، والثاني هو تبرير التقاعس عن النضال والمقاومة ودفع الثمن للنضال واعتبار الأكل والشرب والإنجاب وكل ما يقوم به أي إنسان بما في ذلك أي عميل متوسط بطولة ونضالا.

سمعنا عن هذا الأسلوب في المقاومة في سياق الرد على ليبرمان. ومن يدري إذا استمر هذا العبث سوف نعتبر الانضمام للجيش والأجهزة الأمنية الإسرائيلية أيضا شكلا من أشكال البراغماتية والصمود ولو على خرائب الشخصية الوطنية والأخلاقية، أي تماما حيث تريد إسرائيل ويريد المعتدلون العرب من العربي أن يصمد أو "ينصمد" إذا صح التعبير.

وآخر غرائب هذا النوع من النضال هو التقاء المتدينين اليهود، وغالبيتهم تدعم إبقاء "القدس الموحدة عاصمة إسرائيل الأبدية" ومنهم مستوطنين، مع متدينين ورجال دين مسلمين ومسيحيين في الدفاع عن القدس ضد مسيرة المثليين جنسيا الإسرائيلية المزمع تنفيذها في القدس. ومنظمو مسيرة المثليين جنسيا سمجون لن يتنازلوا عنها بأي ثمن. فالمثلية الجنسية بالنسبة لهم ليست نزعة جنسية يريدون أن يعترف بها المجتمع ويتقبلها كأمر طبيعي، بل نمط حياة يفاخرون به... ولذلك تسمى المسيرة "مسيرة الكبرياء". وبنظر الفلسطيني تدنس القدس يوميا بالاحتلال والحصار والاستيطان وهدم البيوت ومصادرة إقامات الناس، بمسيرة مثليين وبدونها.

ولكي لا يتهم المتدينون اليهود الثائرون على تدنيس "عاصمتهم الأبدية" أنهم ضد الأقليات و"الآخر المختلف" استنفروا عربا من الواقعين تحت الاحتلال ومن داخل الخط الأخضر ليتحالفوا معهم في أخوة بين المحتلين والواقعين تحت الاحتلال ضد المثلية الجنسية. لقد أصبح هنالك هدف مشترك يجمع المستوطنين مع ضحايا الاستيطان وهو منع تظاهرة المثلية الجنسية التي تدنس المدينة المقدسة لجميع الأديان. انتقلنا من التعاون في الصمود العربي داخل حزب العمل، عبر النضال بإنجاب الأطفال وحتى التعاون بين المحتلين والواقعين تحت الاحتلال ضد المثلية الجنسية. هل هنالك سيرك لم يقدم عروضه بعد في القضية الفلسطينية؟ بالتأكيد ما زالت هنالك مواهب لم تتفتق بعد. ولكن الموضوع برمته بات مصدر سأم، لولا أن هنالك ناس فعليين، طيبين وغير طيبين، يعانون معاناة حقيقية وسوف يعانون من الحروب والاحتلال، ومن التخلف والتزلف.

التعليقات