هل من جديد على الجبهة الروسيّة؟ ../ د.عزمي بشارة

هل من جديد على الجبهة الروسيّة؟ ../ د.عزمي بشارة
لا أعتقد أن سوريا في الماضي غير البعيد تأمّلت بفيتو روسي في مجلس الأمن، لكن الفيتو لم يأتِ على أية حال. وفي حالة العدوان على العراق كان واضحاً أن مجلس الأمن لم يكن في وارد إعلان حرب أممي، لكن استحالة القرار لم توقف الاعتباطية الأميركية عن فعل ما ترتئيه، فاتجهت مع بريطانيا إلى مغامرة استعمارية غيّرت تاريخ المنطقة، لا توقفت ولا انحسر أذاها حتى يومنا. لم تتدخل روسيا ولا الصين لحماية العراق طبعاً. لكن الأهم أن وجودهما لم يردع أميركا عن مثل هذا العدوان قبل وقوعه.

يجري في الصين تحول اقتصادي ببعد عالمي، لكنه سياسياً يشمل بالردع محيطها المباشر فقط.
في روسيا يجري العكس. فأخيراً تشهد روسيا تحولاً سياسياً عالمي النزعة مقابل مصالح اقتصادية تشمل محيطها المباشر فقط. ثمة جديد في روسيا لا نعلم حجمه بعد. والعزاء أنه في استيضاح كنهه وتبديد ضبابيته يشقّ على أميركا وإسرائيل. وتتألف الجدة من العناصر التالية مجتمعة:

أولًا، إن النظام السلطوي الحاكم أصبح في وضع اقتصادي أفضل منه غداة انهيار الاتحاد السوفياتي إلى درجة إعادة النظر بخصخصة مرافق وطنيــــــة مثل الطاقة. وقد أسهم ارتفاع أسعار النفط والغاز واستعادة تأميمهما في انتعاش الاقتصاد.
ثانياً، إن المراجعة التي تجريها القيادة الروسية الحالية تشمل محاولة للتصدي لمدّ الولايات المتحدة وحلف الناتو بقواعدها الصاروخية والذي ولج دولًا حليفة سابقاً، أو جمهوريات سوفياتيّة سابقة، خاصة مع إدراكها أن هذا الاجتياح الأمني قد يتحوّل إلى تقزيم روسيا حتى في جوارها المباشر، وإلى حصار فعلي يشمل مصالحها الاقتصادية في هذه الدول.

ثالثاً، إن إعادة النظر داخل النظام والرغبة في وقف فوضى التمردات الإقليمية، يرافقه تشجيع النزعات الانفصالية من الغرب، أدّتا إلى رد فعل يتمثل باستعادة عناصر أمنية سلطوية دفة النظام. وطبعاً، باتت هذه ترغب في البقاء في السلطة والحفاظ على مصالحها. ويبدو أن سياسة الدولة العظمى خارجياً هي إحدى أهم أدوات بقائها في السلطة وتوسيع قاعدتها الجماهيرية داخلياً. ففيما عدا وقف الفوضى ومحاربة الفساد (وهي حجج ومبررات صعود كلّ الأنظمة السلطوية) هنالك أداة مفحوصة في الدول العظمى السابقة هي مخاطبة مشاعر الدولة العظمى لدى الجمهور ورفض الدور الثانوي أو التعامل المهين في العلاقات الدولية. مخاطبة هذه العقدة تجلب للنظام شعبية.

الجديد هو إذاً، أنه في هذه السياسة تلتقي حسابات مصالح داخلية وخارجية.
في الماضي القريب بعد الانهيار، مالت روسيا إلى مقايضة الموقف السياسي بمنافع وامتيازات تجارية أو اقتصادية أخرى في العلاقة مع أميركا وأوروبا الغربية حتى تولّد الانطباع أن الموقف الاستفزازي يُتّخَذُ أصلًا لغرض الابتزاز.

أما حالياً فهنالك جديد كما يبدو. ومع ذلك يجب التمييز. فهذه السياسات بعيدة كل البعد عن أن تصبح إيديولوجية كما في حالة السوفيات. وهي ما زالت تراوح في عالم المصالح. لكنها، المواقف، أصبحت أكثر عمقاً استراتيجياً، إذ تلتقي فيها مصالح خارجية وداخلية مع تغير في بنية النظام. ونحن نلاحظ ذلك في رفض ما يسمّى الدرع الصاروخي لحلف الناتو، وتغيّر بنية التعاون العسكري بين روسيا وسوريا ليصبح أكثر جدية والتزاماً، ورفض روسيا القاطع لحملة عسكرية على إيران.

هذا يقلق إسرائيل وأميركا طبعاً، وهي مضطرة أن تأخذه في حسابها. لكن من المبكر البناء عليه وحده، فالعالم غير محكوم بالتوازن. وما زال عالمنا أحادي القطب، مثل عالم غيرنا. وما زالت عناصر قوة أي شعب وأي بلد داخلية أولًا. ولا يجوز ان ترتكز على توازن دولي. فالتوازن الدولي الذي كان في الماضي يعوض عن ضعف داخلي غير قائم اليوم، وعناصر القوة الذاتية هي الأساس في هذا العالم.

على ثمانية يستحق الحزب الشيوعي اللبناني تحيّة:
أوّلاً، لأنه لم يتحجّر ليصبح أكثر ستالينية في رد فعل عصبي على انهيار الأنظمة الشيوعية.
ثانياً، لأنه لم يصبح يسارياً سابقاً.
ـــ تقصد أن تقول: لا هو تحجّر ولا أصبح يساراً سابقاً وعدمياً.
ـــ نعم.
ثالثاً، لأنّ موقفه من عروبته ومن القومية العربية كان متوازناً عموماً.
ــ ربّما بفعل ضرورات المعركة ضد الطائفيّة في لبنان. فهل يستحقّ على ذلك تحية؟
ـــ طبعاً يستحق. فغيره عاش مثل هذا الواقع ولم يستنتج مثل هذه النتائج. ورأى غيره في المنطقة أن هنالك تناقضاً بين اليسار وفكرة قومية واحدة فحسب، هي القومية العربية.
ـــ حسنا، أكمل!!
رابعاً، لأنه قاوم الاحتلال، ولم يحوّل نقد الكفاح المسلّح إلى «دوغما» مثل «دوغما» الكفاح المسلح ذاتها.
خامساً، للأجواء الثقافية التي أشاعها، فهو لم ينشر جوّ عداء للمثقّفين والثقافة حتى حين كان هذا العداء تقليعة في بعض الأحزاب الشيوعية.
سادساً، لأنه لم يفقد البوصلة بدعوى العلمانيّة، وكحزب وطني لم يرتبك بين المقاومة اللبنانية المجيدة متمثّلة في حزب الله وبين التحالف مع السياسات الأميركيّة المعادية لمبادئه وللشعب وللمجتمع.
سابعاً، لأنّه لم يعترف بإسرائيل حين اعترفت أحزاب أخرى، ولم ينزلق الى التطبيع أو التنظير، ولم ينزلق إلى وضع المسؤولية كلها على الرجعية العربية أو على الرفض العربي لقرار التقسيم إلى درجة إعفاء الصهيونية من المسؤولية عن نكبة فلسطين.
ثامناً، لأنّه لم يعفِ نفسه من نفسه، وما زال يدعو إلى العدالة الاجتماعية، والتنوّر الثقافي، ويحارب الطائفية السياسية.
ـــ قد تكون هذه الأخيرة هي الأهم.
ـــ كله مهم.
تحيّة للحزب الشيوعي اللبناني في ذكرى انطلاقته التي جمعها مع ذكرى انطلاقة المقاومة.
ـــ يبقى نقاش طبعاً.
ـــ يبقى نقاش لا يفسد للتحية قضية.
تنشأ اليوتوبيا عن الدولة أو المدينة الفاضلة في عصر الإيمان بقدرة الإنسان على تحقيق عالم أفضل، وذلك إيماناً بتلاقي عقل الإنسان مع أخلاقيته وقدرته على تحقيق الخير. وطبعاً في اليوتوبيا علمنة لفكرة الخلاص الدينية في عصر يسود فيه الخير والعدل ويتساوى فيه الناس. أنتج فكر الحداثة في بدايته يوتوبيات منطلقة من الإيمان بتقاطع التطور العلمي والأخلاقي... وكانت اليوتوبيا في هذه الحالات تعبيرا عن إيمان بالمستقبل وبالتقدم، فصحيح أن التقدم كان هو الداء في بدايات الصناعة وعمليات الإفقار الواسعة واقتلاع الفلاحين من نمط حياتهم وقذفهم إلى المدينة، لكن في اليوتوبيا هو أيضاً الدواء.

الفرق بين اليوتوبيا الرومانسية ويوتوبيا التنوير أن الأولى لا تنظر بتوق الى المستقبل كما تفعل الثانية، بل بشوق وحنين الى الماضي. وطبعاً جسّدت يوتوبيا التنوير إضافة إلى الإيمان بالتقدم وبالعلم نزعة تدميرية لهندسة المجتمعات أدّت إلى كوارث عندما أخذتها الإيديولوجيات بحرفية. أما الرومانسية، خاصة في الحقبة التي تصنّفها هي عصرَ انحلال وانحطاط، فهي تعبير عن نفور من الواقع الرديء في زمن التحولات وفي غياب قوى تشير إلى المستقبل نحو مشاريع مرتبطة بالعلم والتقدم والمعرفة وإصلاح القيم والأخلاق. تتوق القوى المتضررة من التقدم الاجتماعي في هذه الحالة إلى الماضي. وأكثر من ذلك، إنها تعيد رسمه وتمثيله كيوتوبيا. يوتوبيا بأثر رجعي أو تراجعي (retrospective utopia).

فمثلًا عندما يؤدي تحطيم الجماعات العضوية الصغيرة، من العشيرة وحتى الضيعة إلى تذرير أفرادها دون أن يتحولوا إلى مواطنين ذوي حقوق، فإنهم يميلون إلى أمثلة الجماعة القديمة الحميمة التي دمرتها الحداثة. وعندما تقوم الدولة الحديثة دون شرعية ودون حل للقضية القومية يمكِّن من الانتماء إليها، يجري إحياء الانتماءات السابقة عليها. وحين يعم الفساد ويشيع تطبيق مقولة ابن خلدون «التملق هو الطريق إلى الجاه، والجاه هو الطريق إلى المال» يحنّ الناس إلى الشهامة المفقودة والصدق والنبل والبساطة. وهم خلال ذلك يُسقطون هذه المزايا والمناقب على الماضي، حين كانت الجماعة، (الأهل) هي المرجعية الأخلاقية. ومنها أن الجماعة كانت حارة صغيرة تدير شؤونها دون دولة ودون مجتمع، ويتوزع فيها العمل والوظائف والمراتب بوضوح بين الناس، وبين الرجل والمرأة، فلا حداثة تهدّد أمن العائلة، ولا رد فعل أصولياً عليها. التدين محافظ لكنه غير أصولي ولا متشنج أو مسيس، بل أخلاقي عموما يحافظ على بنية المجتمع. لا تكاد هذه الحالة تحتاج إلى مؤلف، إذ يؤلّفها العقل الجمعي المتشكل من النفور من الوضع القائم والحنين إلى ماض متخيَّل.

لا أقترح على أحد من المثقفين والمتفلسفين الاستخفاف بجلوس الناس من المحيط إلى الخليج لمتابعة «باب الحارة» الشامية. فهذه الحميمية الرمضانية العامة دليل على أنه رغم غياب المشاريع السياسية الواعدة بمستقبل أفضل لم يتصالح الناس مع الواقع التعيس المعيةش. ولدى الناس ألف وسيلة للتعبير عن حنينهم للشهامة والنبل والمساواة، وللتضامن... بما فيه التضامن مع فلسطين. لم يتصالح الناس مع الفساد ولا مع إسرائيل، لم يصبحوا واقعيين إلا في الحيّز العام، أما في حياتهم الخاصة فيجلسون ويمارسون حباً للشهامة والمقاومة وحنيناً جماعياً لماضٍ لم يعد قائماً، وربما لم يكن قائماً كما يتخيلونه. عندما ينفر الناس من الحاضر، وما من مشروع يؤمّلهم بمستقبل أرجى، لا يبقى إلا الحنين وذرف دمعة على ماضٍ متخيل أفضل.
ألا يندرج إحياء أسطورة تشي غيفارا في مثل هذه الحالة من اليوتوبيا بأثر رجعي؟ أليس غيفارا بطل الحارة اليسارية التي ولّت ولن تعود؟

لا، إنه لا يمثل حنينا، فقد تحول إلى مجرد تقليعة ديكورية. ورأيت صورته أخيراً حتى على زجاج سيارة في دولة خليجية. كانت الصورة في الماضي مثالًا لتمرد الشباب، لا يهمّ على ماذا، والرفض لا يهم بماذا أو ماذا. وعندما زال أذى غيفارا الحقيقي بوفاته، ولم يترك إرثاً برنامجياً أو ثقافياً ذا بال، أخذت حتى أحزاب شيوعية ممن كانت تمنع وتحذر شبابها من الإعجاب به في صفوف الحزب بتنبي صورته مثل «ماركة» أو «براند». عندما كانت لغيفارا أهمية ما، ولو كانت محدودة، كانت غالبية الأحزاب الشيوعية تحاربه وتحذر منه. وكنا في حينه نتمسك بأمثولته إلى درجة الأسطرة رمزاً للتمرد على المحافظين اليمينيين واليساريين على حد سواء.

في هذه الأيام استهلك الاستهلاك الرأسمالي كل الصور. احتواها، حوّلها إلى أليفة، إلى ديكور غير مؤذٍ. وطبعاً هنالك فرق، إذ يصعب استهلاك أصحاب مشاريع فكرية أو ثورية ما زال فيها نفس مؤذٍ حتى يومنا. أما غيفارا على أهمية تجربته الشخصية وإشعاعها فلم يكن صاحب مشروع فكري أو سياسي.

صورة غيفارا مثل صورة الأميرة ديانا على الكؤوس والفناجين وقمصان الـ«تي شيرت» وملصقات السيارات، نوع من التقليعة لمن يريد أن يبدو مختلفاً، وبما أنها تقليعة فإنه في النهاية لا يبدو مختلفاً. وقد رأيت مرة مستوطناً إسرائيلياً مسلحاً يرتدي «تي شيرت» عليه صورة غيفارا.

ــــــــ بتحكي جد؟ فعلًا رأيت أم تقولها لغرض النقاش.
ـــ لا، بل رأيت ذلك فعلًا، وعلى حاجز إسرائيلي..

التعليقات