جوارديولا وعناد المتفلسفة../ أحمد حمدان

إنّ الابتعاد عن العاطفة والتقرّب من الموضوعيّة، والتصرّف والتحليل من نظرة تكتيكيّة، لا من نظرة متابع كرة قدم هاوٍ، يقودنا إلى نتيجة واحدة وهي وجود خلل كبير ومخيف في تكتيك جوارديولا.

جوارديولا وعناد المتفلسفة../ أحمد حمدان

جوارديولا في لعبة الأمس (أ.ف.ب)

 قد تكون مباراة الأمس عالقة بالأذهان لدى البعض، منهم من لا يزال في صدمة، ومنهم من لا يزال في فرحة، وقد تبدو لهم كأنها انتهت قبل لحظات، وذلك بسبب السيناريو الدراماتيكي العجيب الذي أذهل عشّاق كرة القدم إلى حد ما، فقد تكون هذه المباراة أجمل مباراة يقدّمها لنا العشب الأخضر لهذه السنة.

لسنا هنا بصدد تحليل المباراة بتفاصيلها ومجرياتها بقدر تحليل ولفت النظر إلى ما يقوم به المدرّب جوسيب جوارديولا.

إنّ الابتعاد عن العاطفة والتقرّب من الموضوعيّة، والتصرّف والتحليل من نظرة تكتيكيّة، لا من نظرة متابع كرة قدم هاوٍ، يقودنا إلى نتيجة واحدة وهي وجود خلل كبير ومخيف في تكتيك جوارديولا.

بادئ ذي بدء، قد يقول قائل إن جوارديولا قد أعاد البايرن لللعبة في الشوط الثاني بتبديلاته وتكتيكاته، إلّا أن هذا خطأ فظيع، فإن أي متابع للبايرن يعرف جيدًا أن الطريقة التي لعب بها في الربع ساعة الأخير، وربما يزيد، لا علاقة لها بطريقة لعب جوارديولا، وربما كانت المرّة الأخيرة التي شاهدنا فيها طريقة اللعب هذه كانت قبل سنوات، حينما كان يوب هاينكس مدربًا للفريق، وهي طريقة تدعى 'طريقة اللعب المباشر'، أي اللعب باتجاه مرمى الخصم، ومحاولة نقل الكرة بأسرع ما يمكن لأطول مسافات ممكنة بأقصر الطرق إلى مرمى الخصم، وذلك عن طريق التمريرات الطوليّة والعرضيّة الموجّهة نحو المرمى، وهذا أمر لم يرق أبدًا لجوارديولا، المنغلق على طريقة الاستحواذ والبناء من الخلف والتدرّج بالسلّم الهجوميّ مع تغيير المراكز.

جوارديولا خلال لعبة الأمس
جوارديولا خلال لعبة الأمس - تصوير شاشة

لكن... عذرًا جوارديولا؛ اللاعبون خذلوك ولعبوا بأسلوب اللعب المباشر عكس تعليماتك، وإذا ما تمعّنتم جيّدًا، أعزائي القرّاء والمتابعين، في أهداف بايرن الأوّل والثاني ستلاحظون جيّدًا أنّ كليهما جاء نتيجة للعب المباشر، كلاهما جاء نتيجة رأسيّة جاءت من عرضيّة متقنة وخاطفة من غير تدرّج.

في الهدف الأوّل، خاصّة، نرى حنكة ودهاء المهاجم روبيرت ليفاندوفسكي بتحرّكه للأمام، ما أجبر المدافع على التقدّم باتجاهه، لكن ليفاندوفسكي عاد وتحرّك للخلف من خلف ظهر المدافع الذي كان مجبرًا للنظر إلى الكرة، ما أتاح لليفاندوفسكي المساحة والراحة لتسجيل الهدف وإشعال المبارة... أي أنّ الهدف جاء ليس وفقًا لخطة ما أو تعليمات ما من المدرّب. وكذلك الأمر بالنسبة للهدف الثاني، فقد جاء نتيجة خطأ أحمق لمدافع يوفينتوس باتريس إيفرا، الذي نتج عنه هجمة خاطفة مع تحرّك ممتاز لتوماس مولر.

كذلك، فإن تبديلات جوارديولا كانت ستكون ذاتها لو كان أي مدرّب مكانه، فقلّة الخيارات جراء الإصابات تجبره على اختيار ذات التبديلات دائمًا، بل على العكس تمامًا، فإن جوارديولا هو الملام الوحيد على البدء بتشكيلة لا تتناسب مع خاصيّة اللقاء.

نعود الآن لتحليل أداء جوارديولا خلال المباراة:

يبدأ جوارديولا اللقاء مع أفضليّة نتيجة للقاء الذهاب، التي أنهاها بنتيجة التعادل بهدفين لمثلهما، بعد أن تقدّم حينها بهدفين فرّط بهما، أيضًا، بسبب عناده الهجوميّ، أي أنّ التعادل صفر لصفر أو الفوز بأي نتيجة تجعله متأهلًا للدور القادم، إلّا أن جوارديولا صاحب الفلسفة الهجوميّة البحتة، بدلًا من إغلاق المنافذ والمساحات على يوفينتوس وحماية شباكه من استقبال هدف وخطف هدف فوز قاتل، يدخل اللقاء بخطّة الدفاع المتقدّم والأسلوب ذاته بالاستحواذ على الكرة ومحاولة الضغط على المنافس معتمدًا على خرافة 'أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم'.

تبنى خطّة جوارديولا على كتلتين، كتلة كبيرة مكوّنة من ثمانية لاعبين يتدرّجون بالكرة باتجاه مرمى الخصم، وتتقدّم هذه الكتلة مع تقدّم الكرة، والكتلة الثانية مكوّنة من لاعبين يقفان في الأمام جاهزان لالتقاط الكرات وتبادلها والتسجيل حينما تحين فرصة بالقرب من مرمى الخصم. إلّا أن يوفينتوس دخل اللقاء مستخلصًا عبر المباراة السابقة بالضغط على الكتلة الأولى في نصف ملعبها التي كانت تحاول التدرّج بالكرة من مرماها، ما منعها من التقدّم، وشكّل عليها ضغطا رهيبًا، خاصة بسبب عدم إشراك لاعب مثل تياجو ألكنتارا القادر على إخراج الكرة من الثلث الأوّل من الملعب بسلاسة، وهذا ما أجبر الكتلة الأولى على الرجوع إلى الخلف وتسليم الكرة لحارس مرماها مانويل نوير مرارًا وتكرارًا، فقد ظهر لنا، نحن المتابعين، أن نوير هو من أكثر لاعبي المباراة لمسًا للكرة، ثمّ إن كثرة التمريرات للحارس والارتكان إليه كثيرًا تخرجه من ثبات مركزه وتجبره على ارتكاب الأخطاء، وتشتّت تمركز لاعبي الكتلة الأولى، ما يجعل الكتلة الأولى والحارس في حالة من الارتباك، وهذا فعلًا ما حدث في هدف بول بوغبا الأوّل ليوفينتوس، بعد خمس دقائق وكذلك في الهدف الثالث لألفارو موراتا غير المحتسب بداعي التسلّل، ولا عجب، حينها، أن نوير صاح بتشافي ألونسو لعدم تمركزه الصحيح...

ورغم وصول الكتلة الأولى في بعض الأحيان للثلث الأخير من الملعب، إلّا أن تدرّجها كان بطيئا جدًا وبدون نجاعة ومن غير عامل المفاجأة، حيث أن التمريرات المتبادلة أصبحت مقروءة ومتوقّعة، رغم الاستحواذ، فكان يكفي لاعبي يوفينتوس الارتكان إلى الخلف ومنع وصول التمريرات لمنطقة العمليّات، مع ترك الحريّة للكتلة الأولى البطيئة التي تدور بالكرة بحركة نصف دائريّة حول منطقة العمليّات محاولة إيجاد ثغرة في دفاع الخصم، توصل بها الكرة إلى لاعبي الكتلة الثانية. لذلك فلا عجب أن مهاجم بايرن مولر صرح بعد المباراة بأنّه لم يرَ الكرة في المباراة إلّا للحظات قصيرة، وذلك نتيجة للانقطاع التام بين لاعبي الكتلة الأولى والثانية. ذلك ما سهّل مهمّة يوفينتوس، إذ أن أي تمريرة خاطئة يقوم بها لاعب من بايرن تقود إلى مرتدة قاتلة وخطرة، وهذا ما حدث فعلًا في هدف يوفينتوس الثاني، إذ أخطأ دافيد ألابا بالتمرير ما أوصل الكرة لموراتا، الذي قاد مرتدة سريعة من قبل منتصف الملعب مستغلًا تمركز لاعبي الكتلة الأولى فوق نصف الملعب جاعلًا النتيجة هدفين مقابل لا شيء بعد سبع وعشرين دقيقة فقط.

هذه خطة تفتقر للتوازن وتتميّز بالتهوّر، وقد نحرت الفريق من الوريد إلى الوريد. إنّ خطة كهذه قد تكون مجدية في برشلونة، وذلك لأنّه يملك لاعبًا بمواصفات ليونيل ميسي، الذي يملك دائمًا عنصر المفاجأة والمهارة الخياليّة، التي تمكّنه من الخروج من الرقابة بسهولة، أمّا لاعبون بمواصفات مولر وليفاندوفسكي، فغير قادرين على القيام بهذا الدور غير المتناسب مع مواصفاتهما رغم موهبتهما... لا يمكنك اختبار ذكاء سمكة في قدرتها على تسلّق شجرة يا جوارديولا.

بعد العقم الذي ميّز البايرن في الشوط الأوّل، حاول جوارديولا الاستمرار بنفس الخطّة في الشوط الثاني مع محاولة بسيطة لوقف المرتدّات الخاطفة للاعبي يوفينتوس، فأدخل خوان بيرنات مكان بن عطيّة، وجعل كلا من ظهيريّ الفريق فيليب لام وبيرنات يقفان في منتصف الملعب، لمنع المرتدّات، إلّا أن ذلك ما قاد بالضرورة إلى انعدام وجود ظهراء، وبالتالي عدم تبادل الكرات بين الأجنحة والظهراء، التي تمركزت بالمنتصف، لا على الجناح، ما زاد العقم الهجوميّ، ورغم ذلك لم يفلح في إيقاف مهاجم يوفينتوس موراتا السريع، الذي ما انفك يرهق المدافعين بأسلوبه الضاغط، بل وكادت النتيجة تصل إلى ثلاثة ليوفنتوس مقابل لا شيء لبايرن، مرّة عن طريق وادرادو، وأخرى عن طريق موراتا عن طريق مرتدات خاطفة، إلّا أن القائم والحارس نوير حالا دون ذلك. فكانت أي هجمة ليوفينتوس تبدو خطيرة.

نقطة التحوّل في المبارة كانت في حدود الدقيقة الخامسة والستّين، حينما بدا جوارديولا حائرًا ويائسًا، ينظر إلى مساعده وكأنه يستنجد به، وظهر عجزه التام في محاولة إلقاء تعليمات للاعبين، فبدا كأنّ لاعبي بايرن قد فقدوا الثقة في خطّة مدرّبهم، ففي هذه الدقيقة، تحديدًا، أرسل نوير حارس مرمى بايرن الكرة بعيدًا نحو المهاجمين، عكس خطة جورديولا التي تقضي بالتمرير القصير والتدرّج، وقد انتبه المخرج لهذه اللقطة فوجّه الكاميرا مباشرة على وجه جوارديولا، الذي هزّ رأسه مستاءً من نوير في لقطة أغضبت مشجعي البايرن لأنّه لم يظهر الدعم للاعبيه.

وما ساعد البايرن، أيضًا، هو خطأ مدرّب يوفينتوس بإخراجه مهاجمه موراتا، ما منع المرتدّات وفكّ الضغط عن مدافعي البايرن الذي بدأ بلعب الكرة المباشرة مع توجّه الظهراء لمكانهم الطبيعيّ، وليس عجيبا أنّ الفرصة الحقيقيّة الأولى للبايرن جاءت في الدقيقة الخامسة والسبعين، والتي نتج عنها الهدف الأوّل للبايرن، وهو الأمر الذي زاد اشتعال المدرّجات البافاريّة التي لم تهدأ منذ بداية المباراة، والتي أظهرت دعمًا لا يصدق بعد الهدف الأوّل، ما جعل لاعبي يوفينتوس يتعرضون لضغط كبير.

إن ما أنقذ بايرن في المباراة في لحظاتها الأخيرة هو عاملا الأرض والجمهور، زد على ذلك حماسة وموهبة اللاعبين الفطريّة. لكن الغريب في الأمر هو أن جوارديولا لم يجر التبديل المتبقّي قبل إحراز هدف التعادل، رغم الحاجة للاعب حيوي ونشيط!

بعد وصول المباراة للوقت بدل الضائع ونجاح البايرن في تسجيل هدفين آخرين في مرمى يوفينتوس المتهالك التائه المصدوم، أبقى جوارديولا على ذات الخطّة بدل الاهتمام في الجانب الدفاعي، ما أتاح ليوفينتوس فرص تسجيل هدفين آخرين يعادل بهما النتيجة ويتأهّل. ولولا براعة نوير حارس مرمى بايرن بتصدّ خرافي، ورعونة بونوتشي وماندزوجيتش لاعبي يوفينتوس لكان البايرن في خبر كان.

إنّ مجرّد التفكير بنتيجة هذه الخطّة في مباراة مقابل فريق برشلونة، وهجومه المرعب السريع سيصيبك بالهلع. من حسن حظ البايرن أن يوفينتوس يفتقر للأسلحة الهجوميّة الفتّاكة!

ثلاث سنوات مرّت على وجود جوارديولا في البايرن وحتّى الآن لم يجد حلًا للمرتدّات، ولا زال يوقف المدافعين أمام المنتصف ويلعب بذات الأسلوب رغم ضرب الخطّة من صغير الفرق وكبيرها!

في النهاية، صحيح أن الهجوم هو أحد طرق الدفاع، لكن يجب أن يعي جوارديولا حقيقة أن الدفاع هو، أيضًا، أحد طرق الدفاع، ولو أن كرة القدم كانت فقط للهجوم لكان هناك مهاجمون فقط. زد على ذلك، ففي بعض الأحيان قد يكون أفضل وسيلة للهجوم هو الدفاع، فإن تسليم الكرة للخصم وجعله يهاجم، والضغط عليه وإجباره على ارتكاب الأخطاء والهفوات، وضربه بالمرتدّات هو أيضًا هجوم، تمامًا كما فعل يوفينتوس، صاحب الأداء الأفضل في أغلب أوقات اللقاء، إلّا أنّ يوفينتوس لم يكن محظوظًا كما كان جوارديولا..

ولذلك، نعود ونقول لجوارديولا: تفتّق فيك الذكاءُ غباءً، فمن معضلٍ تتذاكى بدون حياءٍ.. غباءُ..

التعليقات