06/11/2016 - 16:44

داود الجمال آخر إسكافي في شفاعمرو

بقي الإسكافي داود الجمّال وحيدًا في سوق شفاعمرو العتيق، يخيط بابتسامته الذكريات بجِلد الحاضر "أنظرُ إلى الماضي وذكرياته بفرحِ الذين عاشوا حياةً صعبةً، لكنها جميلة بأهلها، ثم أعودُ إلى حاضري، أقاوم الملل بالعمل"، حسبما قال لـ"عرب 48".

داود الجمال آخر إسكافي في شفاعمرو

الإسكافي داود الجمّال (تصوير "عرب 48")

بقي الإسكافي داود الجمّال وحيدًا في سوق شفاعمرو العتيق، يخيط بابتسامته الذكريات بجِلد الحاضر 'أنظرُ إلى الماضي وذكرياته بفرحِ الذين عاشوا حياةً صعبةً، لكنها جميلة بأهلها، ثم أعودُ إلى حاضري، أقاوم الملل بالعمل'، حسبما قال لـ'عرب 48'.

في كُلِ صباحٍ قبل أن يدخلُ صومعته ينظرُ إلى جدران السوقِ ويستذكِر رفاقه التجار الذين رحلوا، بعضهم لن يَعود، وقلة قد تعود بعد إنهاء مشروع ترميم السوق القديم علّه يعود إلى سابق عهده.

جلس الإسكافي داوود أمين الجمّال، المولود في العام 1932، في ركنه المعهود، وعلى كرسيه الذي لم يغيّره كثيرًا، وأمام ماكنة الخياطة الخاصة بعمله وحوله علب وأكياس وعدة تسهّل عمله، بضحكةٍ واثقة، وفي عينيه ذكرياتٍ تطالُ السنين الماضية وتعبُرُ إلى الحاضر، تحمِلُ القصص والحكايا، عند عتبة دكانه وقف كثيرون بسحناتٍ مختلفة، نساء ورجال كانوا ينتظرون أبو غسان ريثما يُنهي صُنع أحذيتهم، أو تصليحها لتكون جاهزة متى يشاؤون.

وأضاف لـ'عرب 48': 'أنظرُ إلى الماضي وذكرياته بفرحِ الذين عاشوا حياة صعبة، لكنها جميلة بأناسها، ثم أعودُ إلى حاضري، أتلمسُ الحيطان في سوقٍ هجره أهله، تركوه للصمتِ في غالبِ الأحيان، أما في الشتاء فإنّني أُصادق تكتكات الماء وهِي تهطُلُ أمام محلي، فأشعُرُ أنّ شيئًا مِن الماضي ما زالَ يؤانسني منذ أولِ يومٍ دخلتُ فيه الحانوت'.

لبنانيُ الأصْلِ... فلسطينيُ الهوية!

جذورُ عائلة داوود أمين الجمّال تمتدُ إلى العام 1860، حينَ انتقلت عائلة جده، من جنوب لبنان، التي حملت كنية 'عائلة كنعان'، إلى فلسطين هربًا من حكم الأتراك والإقطاعيين، الذين قسوا على أصحاب الأراضي، ونهبوا خيراتهم وضايقوهم في رزقهم، فانتقل الجد والأشقاء إلى هذه البلاد، وغيروا أسماءهم وأطلقَ عليهم لقب جمّال، وسلاّل، نسبة إلى الأعمال التي مارسوها هُنا في فلسطين التاريخية، ولاحقًا استقرت العائلة على كُنية 'جمّال'، وبقيّت سليلتهم، في شفاعمرو والناصرة وحيفا.

الهروب من المجزرة

وأكد الجمّال أن 'دكانُنا في السوق مِلكٌ لعائلتي، اشتراهُ والدي قبل ميلادي، وصارَ يعملُ فيه، حتى ازدهرت هذه التجارة، وبينما هُوَ يَكِدُ يوميًا كُنتُ أنا أنهي الصف السابع الابتدائي (وهي سنواتٌ توازي نهاية المرحلة الثانوية في هذه الأيام). كانت مدرستي قريبة مِن هُنا، لا زالت تُسمى 'المكتب'، رغمَ أنّها هُدمَت، ولم يسأل هادموها عن أهمية بقائِها وتُراثها، ثم عُمّرت من جديد على طرازٍ أحدث، لتستمر بتعليم الأجيال في المرحلة الابتدائية. كنتُ أودُ أن أتابع تعليمي الثانوي، حتى أنّ أبي حاول أن ينقلني إلى بلدة 'حانيتا' في منطقة البصة، القريبة من الحدود اللبنانية، لكنّ قلة الحال، لم تُسعف والدي على دفعِ 6 ليراتٍ شهرية مقابل تعليمي'.

وقال عن مشواره المهني إنه 'في العام 1948، كان الحكم البريطاني في نهايته، عملتُ بضعة أشهر ميكانيكيًا في كراجٍ بشارع يافا في مدينة حيفا، لكن ما أن وقعت أحداث النكبة، حتى كادت تطالنا المجازر، فقد قام اليهود بإطلاق النار في الشوارع، قتلوا عشرة أشخاص من الحوارنة، وكنتُ ابنُ 16 عامًا، قفزتُ مِن مكاني ورحتُ أعدو مع الآخرين في الشارع، ورجلي تكاد تصلُ رأسي، واضطررتُ مع عدد من أهل بلدتي الهروب كما قال المثل 'الهزيمة ثلثين المراجل'، يومها وصلتُ إلى محطة الباص في شفاعمرو، حيثُ ركبنا تاكسي للمرحوم إلياس صبّاح هاربين من حيفا'.

وإلى بيته عاد ليعمل مع والده وشقيقيه في مهنة الوالد، ثم انتقلت الأحداث الدرامية إلى شفاعمرو في العام 1948، وذاكرة أبو غسان تبوح بما رأته عينيه: 'اشتدت ضربات المدافع، أيقظَنا والدي فجرًا، أعطاني وشقيقي 4 ليرات، جهزنا أنفسنا للخروج، عندما قال أهربوا مثل الآخرين وإن عدتم ستجدونني هُنا، حتى لو هُدم البيتُ فوق رأسي فأنا لن أخرج من بيتي. أما أنا فكُنتُ أنوي الرحيل مع مَن رحلوا، لكن الصدفة هي التي أبقتني هُنا، عندما جاءت سيدة شفاعمرية، ووضعت طفلة لا يزيدُ عمرها عن 40 يومًا، وقد أُدمجت باللون الأبيض- كما كل الأطفال في تلك الأيام- وطلبت مني إعادتها لوالدتها في دير الراهبات بمركز البلد، دخلتُ هُناك، وحين قدِمَت عصابات 'الهاغاناة' الصهيونية، خشيتُ أن يرونني فيفعلون بي ما يحلوا لهم، وهكذا أنقذت الطفلةٌ حياتي'.

واستذكر الجمّال: 'لا أنسى المشاهِد التي رأيتُها ما حييت، الناس تهرب، بعضهم بفردةِ حذاءٍ واحدة، بعضهم بـ'البيجامات'، وملابس النوم الخفيفة، من عائلتي خرج عمي ثم عاد لاحقًا، وشقيقي خرجا إلى الناصرة ثم عادا بعد أيامٍ معدودة، وخرجَ ابنُ عم والدي من حيفا، وكان مريضًا، نقلته زوجته بحرًا إلى صور ومات هناك'.

وتستمر ذاكرته بنقل قصته: 'جمّعنا اليهود في سجن 'سرايا القلعة'، ثم صنّفوا الصغار والكبار، كلٌ في زاوية، أخافونا كي لا نشعُر بالأمان، وتركوا الكبار يذهبون إلى بيوتهم وبينهم أبي، أما أنا فزجوني وحين طلبوا مني شراء حليب لأحد المرضى، لمحني والدي وطلب مني العودة إلى البيت، فنجوتُ مِن عقابهم'.

الإسكافي أبو غسان يعتز بمهنته

لا زال يعمل في حانوته كي يرفه عن نفسه فلا يشعُر بالملل وينتهي الوقت الضائع مِن حياته. كان أحد الإسكافيين النصراويين يقول له: 'صنعتُنا أحسن من شوفير التاكسي'. قال الجمّال: 'نعم أتحسر على دولاب العمر وهو يبرم، فلا يترك شيئًا كما كان، وعلينا تقبل الحاضر بِما فيه من سيئات وحسنات. كنتُ في الماضي أحصل على أجرٍ مضاعَف، أما اليوم بالكاد أجِدُ بين المارين مَن يصرِفُ 100 شيقل، لكنني سعيدٌ أنّ الوقت يمضي بين حديثٍ سريعٍ أو خلفَ عجلة الماكينة التي لا تعمل على مهلها'.

أحب أبو غسان مهنته، وقارنها بالحاضر: 'ليس هناك نسبة مقارنة بين القديم والجديد، كان الجلد أصليا، كُنّا نقولِب النعل على هيئة الحذاء، فنحيكه باليد، نهارا كاملا، اليوم صارَ سعرُ الحذاء أرخص مِن تعب نهارٍ كامل، لكنّ المواد التي تُصنع منها الأحذية ليست بالقيمة التي كانت مِن قبل، فالحذاء يعيشُ وقتًا قصيرًا ثم يتفتت بين أصابعنا'.

اقرأ/ي أيضًا | آخر إسكافي بالناصرة: البضائع الصينية غيّرت عادات الشراء

تنهد أبو غسان وقال: 'آهٍ ما أجمل الأيام الماضية، ونحنُ على ظهور خيلنا، كُنا نقطف العنب والتين والزيتون والزعرور والإجاص، ونتذوق طعم التفاح، كُنا نحرث الأرض بحصانين قويين، في الماضي كُنا نتعبُ جسديًا فنحصُد الشعير والكرسنة، ونصطلي بالحر ونهرُب من البرق والرعد، لكننا لم نحمِل هموم هذه الأيام والتعب النفسي'.

التعليقات