جيل الماكدونالدز وارتباك الهوية القومية../ نايف أبو أحمد

سنبقى جيلاً منتصب القامة، سيكمل درب الآباء والأجداد من الجيل الأول والثاني، ونرفع سقف النضال دوما. سنبقى نحاول استعادة حتى من استحوذت عليهم إسرائيل ودجنتهم، وننقح هويتهم ونصقلها من جديد ونعلمهم مفاهيم الشعوب الحرة المناضلة

جيل الماكدونالدز وارتباك الهوية القومية../ نايف أبو أحمد

هذا ما أطلقه مختصون وباحثون إسرائيليون في مجال علم الاجتماع على الجيل الثالث للنكبة من أبناء الشعب العربي الفلسطيني في الداخل. حسب ادعائهم فإن قوة الجيل الأول أنهكت جراء النكبة وانحصرت في تحصيل لقمة العيش فقط ليتمكن من البقاء، أما الجيل الثاني فعاش الحكم العسكري وناضل من أجل مستوى معيشة أفضل ليس له بل لأبنائه، للجيل الثالث الذي أتى ليعيش مدللاً دون تعب وجهد، ينعم بما حصل عليه آباؤه من حقوق، هو جيل شباب اليوم الذي اتسعت أمامه فرص التعليم والعمل وأصبح خاضعا لسياسة الأسرلة، مرتبك الهوية القومية وقابلا للانخراط في مؤسسات السلطة، ومنها الأمنية حتى.

وفي هذا السياق قال الباحث الإسرائيلي بروفيسور سامي سموحه من جامعة حيفا: "إن المؤسسة الإسرائيلية تعاملت مع الجيل الثالث بمفهوم وأسلوب إستراتيجية السيطرة، فإسرائيل لم تخف مما قام به الجيل الأول والثاني بعد النكبة، بل خافت مما يقوم به الجيل الثالث بالذات بعد الارتفاع في كثافة العرب السكانية، لذلك أرادت إسرائيل أن تسيطر على  كل ما يتعلق بحياة العربي في إسرائيل من نظام التعليم وحتى الحياة الاقتصادية".

استطاعت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ إعلان استقلال دولة الصهاينة من السيطرة على جهاز التعليم العربي في الداخل، ومنعت الجيل الثاني بعد النكبة من محاولة نقل وترسيخ الوعي القومي الوطني للجيل الثالث بشكل صحي يتلاءم مع الهوية القومية العربية الصحيحة كما يجري في جل الوطن العربي، كما حاولت السلطات الإسرائيلية منع الجيل الثالث من الحصول على أجوبه لتساؤلاته حول هويته، باستثناء ما تلقنه إياه إسرائيل من خلال جهازها التعليمي وعمليات التدجين، وتعاملت مع كل من حاول الخروج عن الإجماع والسياق الإسرائيلي بقسوة، وممارسة سياسة الإقصاء أو الطرد من جهاز التعليم.

هبة القدس والأقصى في اكتوبر 2000 كانت نقلة ومنعطفا في تاريخ فلسطينيي الداخل، فقد خرج الجيل الشاب الذي حاولت إسرائيل أسرلته وتشويه هويته القومية عن بكرة أبيه ليعيد إلى أذهان الصهاينة أنه جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني، وأنه جيل يحمل ويتمسك بالثوابت الوطنية، ومستعد لتقديم الشهداء فداءً للقضية. في كتاب "جيل منتصب القامة" لبروفسور خوله أبو بكر وداني ربينوفيتش الذي صدر عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار) عام 2004. يشير المؤلفان إلى أن سقف المطالب السياسية والقومية للأقلية الفلسطينية في الداخل قد ارتفع لدى هذا الجيل، كما تطورت طرق وأساليب نضاله، ويشيران إلى أن هذا الجيل هو نتاج التثقيف السياسي الوطني للجيلين الأول والثاني".

رد اسرائيل كان واضحاً على هذا الجيل، فبعد أن فرغت من غزه بحصارها، وفرغت من مناطق السلطة ومقاومتها من خلال جدار الفصل العنصري وتوطيد العلاقات مع سلطة أوسلو، حان وقت فلسطينيي الداخل والعمل على جعلهم "عرب إسرائيل" من خلال سن قوانين عنصرية ضد لمّ الشمل الفلسطيني، حيث منعت الشباب من الزواج ممن أسموهم "مواطني دولة عدو"، وكان الهدف من ذلك فصل الداخل الفلسطيني عن الشتات، وعملت بجد أكبر على تصديع الهوية القومية من خلال قوانين قديمة جديدة، البعض منها سُن في السبعينيات، واستحدثت من جديد مثل الخدمة المدنية ومحاولة زجها كشروط للحصول على حقوق المواطنة، ومحاولة فرض التجنيد الطائفي لضرب الوحدة الوطنية والمجتمعية والشعبية، وطبعا من خلال مصادرة ما تبقى من الأرض العربية من خلال قانون براڤر وغيره. كل أساليب القمع تلك تحولت لأحداث ومحطات مواجهة، وفي كل مرة كان الجيل الشاب كما أسلافه يرفع سقف النضال في كل مرة من جديد ليثبت أن هويته القومية ثابتة والعلم والمعرفة والتقدم ما هي إلا وسائل نضال جديدة وإضافية.

تفاجأت إسرائيل من النتاج السلبي والتأثير العكسي لسياساتها- حسب مخططاتها وتفكيرها- وبدأت تروج لها بأشكال مختلفة، لكن ضمن نفس الجوهر والمفهوم ولم تنس يوما أن صورتها الديموقراطية في العالم مهمة للحفاظ على شرعيتها، لذلك حاولت كل الوقت تسويق مشاريعها على أنها مشاريع تطويرية ومن أجل العرب وليس لضربهم و"جيل الماكدونلدز هو أصلا جيل قادر على المضاهاة، عاقل لكن على الطريقة الإسرائيلية".

لكن ما وجب إدراكه هو أن سياسات إسرائيل فشلت بالمعنى المطلق، لكننا لم نخرج منها دون أضرار واضحة وإن لم تكن واسعة، ويتجلى ذلك باللغة مثلا أو في الهدوء النسبي بين كل قضيه وأخرى، ما يجعل قضايانا وهباتنا ونضالاتنا شبه موسمية، والأهم من ذلك أننا أثرنا نسبيا في كينونة عملنا بمفهوم الشعب الواحد، وباعتقادي ذلك لم يكن نتاج محاولة زجنا الدائمة مع سياسات الأسرلة فقط، بل لأسباب تتعلق بولادتنا غير الطبيعية كأقليه أصلا.

إن محاولات تصديع الهوية مستمرة، ومحاولات سلبنا مشروع الحفاظ على الهوية ستتفاقم أكثر، ومن جهتنا سنبقى جيلاً منتصب القامة، سيكمل درب الآباء والأجداد من الجيل الأول والثاني، ونرفع سقف النضال دوما. سنبقى نحاول استعادة حتى من استحوذت عليهم إسرائيل ودجنتهم، وننقح هويتهم ونصقلها من جديد ونعلمهم مفاهيم الشعوب الحرة المناضلة.
 

التعليقات