"مغاور السند"... مساكن البربر المعلقة في جبال تونس

بأشكال وأساليب بسيطة، نحت "البربر" أو الأمازيغ، عددا من المغارات والكهوف، في "جبل السند" بمحافظة قفصة، جنوبي تونس، حيث اتخذوا منها مستقرا لهم واحتموا بها من الأعداء زمن الحرب، وسكنوها لقرون تاركين أثر نمط معيشي ميزهم عن غيرهم.

"مغاور السند"... مساكن البربر المعلقة في جبال تونس

بأشكال وأساليب بسيطة، نحت 'البربر' أو الأمازيغ، عددا من المغارات والكهوف، في 'جبل السند' بمحافظة قفصة، جنوبي تونس، حيث اتخذوا منها مستقرا لهم واحتموا بها من الأعداء زمن الحرب، وسكنوها لقرون تاركين أثر نمط معيشي ميزهم عن غيرهم.

الرحلة إلى 'جبل السند'، تمر بطريق معبد، تنطلق من أحد السهول لتأخذه إلى بقايا قرية 'السند' الأمازيغية الجبلية، في رحلة نحو تاريخ الآباء والأجداد، ممن تفننوا في تطويع الطبيعة لخدمة متطلبات حياتهم في تلك الحقبات الزمنية.

ومع الوصول إلى الجبل، يمر الزائر بمسلك ضيق، في بدايته كهوف احتوت على مساكن ذات غرف أحادية وأخرى بطوابق تختلف مساحاتها حسب عدد أفراد العائلة، فيما خصصت البعض منها كمعاصر لاستخراج زيت الزيتون، وفيها اعتمد البربر حبكتهم في ابتداع هذه المعاصر من الحجارة الجبلية.

وبمجرد تسلق الجبل والوصول إلى قمته، يصل الزائر إلى القصر المعلق، حيث كانت تخزن المؤونة من قمح وشعير وبقول وفواكه جافة، وكل ما كان يحتاجه الأهالي في استعمالاتهم اليومية.

ورغم التغيرات المناخية التي طرأت على المنطقة، إلا أن هذه المغاور الأمازيغية بقيت صامدة محافظة على خصوصياتها إلى اليوم.

وتعد المغاور الجبلية عنصرا من مركز توطين كامل يشمل 3 عناصر أساسية، تتمثل في القصر الموجود في قمة الجبل الذي يمتد على عرض 25 مترا، وطول 125 مترا يمثل مجموعة من الغرف الصغيرة المتلاصقة المحاطة بسور، وقد كان يخصص لخزن المؤونة ويطل على السهل الشمالي.

أما العنصر الثاني فهي المغاور التي كانت مخصصة للسكن، ويمكن التفريق بين نوعين منها البسيطة وهي عبارة عن غرفة واحدة، والمركبة أكثر من غرفة وأكثر من طابق، ويتمثل العنصر الثالث في المجال الفلاحي.

وغير بعيد عن هذه المغاور وتحديدا على سفح 'جبل السند'، بدت قساوة العيش وبساطته في آن واحد جلية على وجوه سكانه من أهالي المنطقة، وتحديدا على مقربة من بئر كانوا يملؤون منه الماء ويحملونه على دوابهم للشرب والاحتياجات اليومية.

وقال أحد سكان هذه القرية الصغيرة، العيدي بن محمد حمودة، 'اتخذ أجدادنا من هذه الكهوف بيوتا لهم لتحميهم زمن الحروب، وتقيهم من الغزوات، حتى أن الإشارات التي كانت معتمدة بينهم للتحذير من قدوم العدو تتمثل في إشعال النيران من أعلى قمة الجبل أو بقرع الطبول'.

وأضاف، 'صعوبة الحياة في هذه المناطق أدت بسكانها إلى هجرها والنزوح منها في اتجاه العاصمة أو مدن وولايات أخرى بحثا عن العمل، فهي تخلو من مورد رزق يجعلهم يعيشون بكرامة'.

والعجوز التي تجاوزت السبعين من عمرها، علجية السندي، تجلس في ركن من أركان بيتها البسيط، متلحفَة بـ'بخنوقها' الصوفي 'لحاف تقليدي تلبسه النّسوة في قفصة'، وتزينت بحلي فضي نقشت عليه رسوم مختلفة وعلى وجهها وشم أمازيغي.

وفي نبرة حزينة ألقت علجية مقطوعات من أغان أمازيغية قديمة، بعمر هذه المنطقة وتاريخها، تتغنى بحب الوطن والدفاع عنه زمن الحروب والاستعمار.

وقالت 'هذه بلاد أجدادنا، لن نتركها ولن نهجرها، رغم صعوبة الحياة فيها، فهي غنية بتاريخها الثري ولعل تلك المغاور تعد جزءا هاما من هذا التراث حتى أنها اعتمدت فيما بعد من قبل 'الفلاقة'، أشخاص من عامة الناس استطاعوا حمل السلاح والقتال تلبية لنداء الوطن واستقلاله، الذين احتموا بها في حربهم ضد المستعمر الفرنسي، فأصبحت دلالة لحب الوطن'.

وعن تاريخ البربر في منطقة السند، قال المؤرخ التونسي المُستاري بوكثير، 'ما هو ثابت أن الأصل البربري لهذه القرية هو مسألة محسومة وحقيقة تاريخية، ويمكن أن ندلل على ذلك من خلال عدة مؤشرات'.

وأوضح أنه 'من بين تلك المؤشرات، المعطيات الأثرية المتمثلة في الآثار القائمة من معمار سكني وبقايا قصر موجود في قمة الجبل، وهذا النوع من التعمير معروف خاصة في القرى الأمازيغية، سواء في تونس أو في الجزائر والمغرب وليبيا'.

أما من ناحية تسمية الأماكن أو ما يسمى بعلم 'الطوبونيميا'، فإن جل تسميات الأماكن والآبار والجبال والأودية المحيطة بقرية السند 'أمازيغية'، بحسب بوكثير، ومنها مثلا جبل 'تغروت' (الكتف)، و'أخف ن إرقز' (رأس الرجل)، إضافة إلى تسمية الآبار.

وتابع بوكثير، أنه 'توجد بعض الدراسات التي أكدت أن سكان السند ظلوا حتى أواخر القرن الـ 19 يتحدثون اللغة الأمازيغية، بالإضافة إلى أن بعض الشيوخ والرجال الكبار لا يزالون يحفظون الأمازيغية إلى اليوم'.

وأضاف المؤرخ التونسي أن 'المجموعات القبلية الأولى المؤسسةَ لهذه المنطقة هي مِن أصل أمازيغي، وفيما بعد التحقت بها في أواخر القرن 19 مجموعات عربية، والدليل على ذلك أن العديد من الألقاب الموجودة في السند تنسب إلى قبائل عربية'.

ووفق بوكثير، فإن نمط الحياة الأمازيغي واختيار الجبل كمستقر للسكن، هو دليل على خبرة وتمعن ومعرفة بأحوال المناخ، وبأن تساقطات الأمطار في الجبل أفضل من السهل كما أن السكان القدامى عرفوا جيدا أن هذه المنطقة ثرية جدا بالموارد المائية، وأنها أكثر قدرة على التحكم في السيول المائية'.

وكان عدد من المؤرخين الفرنسيين وعلى رأسهم 'أندري لوي' ممن كتبوا حول السكن الجبلي، قد ربطوا هذا التوطين في 'جبل السند'، بدخول قبائل 'بنو هلال' في منتصف القرن الخامس الهجري، ولكن هذا الطرح، بحسب بوكثير، غير دقيق ويحتاج إلى مراجعة.

فبحسب، بوكثير، هناك العديد من القصور والقرى الجبلية وجدت قبل دخول 'بنو هلال' إلى أفريقيا في منتصف القرن الخامس الهجري أي الحادي عشر الميلادي، كما أن هناك معطيات أخرى، فما حفز الأمازيغ على الاستقرار في الجبال هي طبيعتها الخاصة.

ومن الدوافع الأخرى التي أدت بالأمازيغ إلى استغلال الجبل، وفق بوكثير، قربه من تساقط الأمطار، ما يسهل الزراعة، مقارنة بالسهل الذي يستوجب تقنيات أوفر.

اقرأ/ي أيضًا | 'النّور' السوريون تحت سطوة 'الزير سالم' من جديد

ولا يوجد إحصاء رسمي في تونس بخصوص عدد الأمازيغ، ولكن بحسب الجمعية التونسية للثقافة الأمازيغية (مستقلة) هناك 100 ألف أمازيغي في تونس ويتركز أغلبهم في الجنوب.

التعليقات