24/03/2023 - 14:59

كيف تغيّر الوحدة في شكل الدماغ؟

وصف الباحثون في عام 2019 أنّ الفريق المعزول اجتماعيًّا، بالمقارنة مع المجموعة المرجعيّة، فقد بعضًا من حجم قشرة الفصّ الجبهيّ، وهي المنطقة الموجودة في مقدّمة الدماغ، خلف الجبهة مباشرة

كيف تغيّر الوحدة في شكل الدماغ؟

(Getty)

تقع محطّة نيوماير 3 القطبيّة بالقرب من حافّة إيكستروم (Ekström Ice Shelf) الجليديّة في القارّة القطبيّة الجنوبيّة، ولا يمكن لأحد أن يصل إلى المحطّة أو أن يغادرها خلال فصل الشتاء، حيث تنخفض درجات الحرارة إلى ما دون 50 درجة مئويّة تحت الصفر، وترتفع سرعة الرياح إلى أكثر من 100 كيلومتر في الساعة. وكانت حالة العزل الّتي وفّرتها المحطّة ضروريّة لتجارب الأرصاد الجوّيّة والغلاف الجوّيّ والتجارب الجيوفيزيائيّة الّتي أجراها هناك عدد قليل من العلماء الّذين عملوا في المحطّة خلال أشهر الشتاء، وتحمّلوا وحدتها القاسية.

وأصبحت المحطّة أيضًا قبل بضع سنوات موقعًا لدراسة «الشعور بالوحدة» نفسه، إذ أراد فريق من العلماء في ألمانيا معرفة ما إذا كان الانعزال الاجتماعيّ والروتين البيئيّ يميّزان أدمغة الأشخاص الّذين يقيمون لفترات طويلة في أنتاركتيكا. وافق ثمانية من المستكشفين العاملين على فحص أدمغتهم قبل وبعد مهمّتهم في محطّة نيوماير 3 لمدّة 14 شهرًا ومراقبة كيمياء أدمغتهم وأدائهم المعرفيّ في أثناء إقامتهم (شارك أيضًا عضو الطاقم التاسع، ولكنّهم لم يتمكّنوا من فحص دماغه لأسباب طبّيّة).

وصف الباحثون في عام 2019 أنّ الفريق المعزول اجتماعيًّا، بالمقارنة مع المجموعة المرجعيّة، فقد بعضًا من حجم قشرة الفصّ الجبهيّ، وهي المنطقة الموجودة في مقدّمة الدماغ، خلف الجبهة مباشرة، والمسؤولة عن اتّخاذ القرارات وحلّ المشاكل؛ وشهد الفريق المعزول أيضًا مستويات أقلّ من عامل التغذية العصبيّة المشتقّ من الدماغ، وهو بروتين يغذّي نموّ الخلايا العصبيّة في الدماغ وبقائها على قيد الحياة، وقد استمرّ انخفاض هذا العامل لمدّة شهر ونصف على الأقلّ بعد عودة الفريق من القارّة القطبيّة الجنوبيّة. من غير المؤكّد مدى علاقة ذلك بطبيعة العزلة الاجتماعيّة للتجربة، لكنّ النتائج تتّفق مع أدلّة من دراسات أحدث تشير إلى أنّ الوحدة المزمنة تغيّر الدماغ تغييرًا لا يؤدّي إلّا إلى تفاقم المشكلة أكثر فأكثر.

لا ينتج الشعور بالوحدة، حسب علم الأعصاب، بالضرورة عن عدم وجود فرصة للقاء الآخرين أو الخوف من التفاعلات الاجتماعيّة، بل لأنّ الدوائر في دماغنا والتغيّرات في سلوكنا تضعنا في موقف صعب: فبينما نرغب في التواصل مع الآخرين، إلّا أنّنا نعتبرهم غير موثوقين، وأصحاب أحكام تقييميّة، وغير ودّيّين، وبالتالي، نحافظ على مسافاتنا، ونرفض بوعي أو بغير وعي الفرص المحتملة للتواصل البشريّ.

قد يكون من الصعب دراسة الوحدة تجريبيًّا؛ لأنّها ذاتيّة بالكامل. وتختلف العزلة الاجتماعيّة عن الوحدة، فهي مقياس موضوعيّ لعدد العلاقات القليلة الّتي يتمتّع بها المرء. أمّا الشعور بالوحدة، فهو شعور ذاتيّ، إلّا أنّ بعضًا تمكّنوا من تطوير أدوات مثل مقياس الوحدة من UCLA للمساعدة في اكتشاف مدى عمق مشاعر الأفراد.

من هذا العمل، من الواضح أنّ الخسائر الجسديّة والنفسيّة للوحدة في جميع أنحاء العالم عميقة. قال 22٪ من الأمريكيّين و23٪ من البريطانيّين في أحد الاستطلاعات إنّهم يشعرون بالوحدة دائمًا أو كثيرًا، وكان ذلك قبل الجائحة؛ وأبلغ 36٪ من الأميركيّين اعتبارًا من أكتوبر 2020 عن "شعور خطير بالوحدة".

محطّة نيوماير 3

وأسوأ ما في الوحدة ليس في أنّها تترك فينا شعورًا سيّئًا، بل إنّها تؤثّر سلبًا على صحّتنا، حيث يمكن أن تؤدّي إلى ارتفاع ضغط الدم والسكتة الدماغيّة وأمراض القلب، ويمكن أن تضاعف خطر الإصابة بالنوع الثاني من داء السكّريّ، وتزيد من احتماليّة الإصابة بالخرف بنسبة 40٪، ولهذا يميل الأشخاص الّذين يعانون من الوحدة المزمنة إلى أن يكون لديهم خطر وفيات أعلى بنسبة 83٪ من أولئك الّذين يشعرون بأنّهم أقلّ عزلة.

تحاول المنظّمات والحكومات مساعدة الناس للتغلّب على الشعور بالوحدة من خلال تشجيعهم على الخروج أكثر والمشاركة في نواد لهواياتهم وللانضمام إلى مجتمعات الحدائق والمجموعات الحرفيّة، إلّا أنّ علم الأعصاب يوضّح أنّ التخلّص من الشعور بالوحدة ليس دائمًا بهذه البساطة.

تحيّز تجاه الرفض

عندما شرع علماء الأعصاب من ألمانيا وإسرائيل في التحقيق في «الشعور بالوحدة» قبل بضع سنوات، توقّعوا أن تكون جذوره العصبيّة مشابهة لتلك عند القلق الاجتماعيّ، واعتقدوا أنّه له علاقة باللوزة الدماغيّة، والمعروفة بمركز الخوف في الدماغ، حيث ينشّط عمل اللوزة عند مواجهتنا مع أشياء نخشاها، سواء من الثعابين، أو من البشر، وقالت جانا ليبيرز، طالبة الدكتوراه في جامعة بون في ألمانيا، والّتي كانت جزءًا من فريق البحث: "اعتقدنا أنّه ولارتباط القلق الاجتماعيّ بزيادة نشاط اللوزة، فلا بدّ أن ينطبق الأمر ذاته على من يشعرون بالوحدة"، لكنّ الدراسة الّتي نشرها الفريق عام 2022، أشارت إلى أنّه، وعلى الرغم من زيادة تهديد المواقف الاجتماعيّة لنشاط اللوزة لدى الأشخاص الّذين يعانون من القلق الاجتماعيّ، إلّا أنّها لا تترك التأثير نفسه على الأشخاص الوحيدين، وبالمثل يعاني الأشخاص المصابون بالقلق الاجتماعيّ من انخفاض النشاط في أقسام المكافأة في أدمغتهم، وهو ما لا ينطبق على الأشخاص الوحيدين أيضًا.

وأردفت ليبيرز: "السمات الأساسيّة للقلق الاجتماعيّ لم تتمثّل كما هي مع الشعور بالوحدة"، وقالت إنّ هذه النتائج تشير إلى أنّ علاج الشعور بالوحدة لا يكون ببساطة عبر إخبار الوحيدين بالخروج أكثر والتواصل مع البشر، لأنّ هذا الحلّ يفشل في معالجة السبب الجذريّ للوحدة، وأكّد تحليل إحصائيّ حديث أنّ مجرّد تزويد الأشخاص الوحيدين بسهولة الوصول إلى الأصدقاء المحتملين ليس له أيّ تأثير على الشعور بالوحدة الذاتيّة.

يبدو أنّ مشكلة وحدة في تأثيرها على تفكيرنا. أظهرت الدراسات السلوكيّة أنّ الأشخاص الوحيدين كانوا قادرين على التقاط الإشارات الاجتماعيّة السلبيّة، مثل صور الرفض، في 120 مللي ثانية، أي أسرع بمرّتين من الأشخاص الّذين لديهم علاقات مرضيّة، وفي أقلّ من نصف الوقت الّذي يستغرقونه في الرمش؛ وفضّل الأشخاص الوحيدون أيضًا الوقوف بعيدًا عن الغرباء، ووثّقوا بالآخرين بشكل أقلّ، وكرهوا التلامس الجسديّ.

قال دانيلو بزدوك، الباحث متعدّد التخصّصات في جامعة ماكجيل، والّذي يتمتّع بخلفيّة في علم الأعصاب والتعلّم الآليّ، أنّ هذا قد يكون السبب في أنّ الصحّة العاطفيّة للأفراد الوحيدين غالبًا ما تقع في شكل حلقة مفرغة، فهم «يميلون إلى تبنّي رأي سلبيّ حول المعلومات الّتي يتلقّونها، مثل تعابير الوجع أو الرسائل النصّيّة، وهذا يدفعهم إلى عمق أكبر في حفرة الوحدة».

أعطاب في شبكة الوضع الافتراضيّ

يكشف التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي للدماغ البشري عن بعض المناطق المرتبطة بشبكة الوضع الافتراضي، وهي مجموعة من المراكز العصبية التي تكون أكثر نشاطًا عندما نفكر في أشخاص آخرين.

أجرى بزدوك وزملاؤه أكبر الدراسات حتّى الآن بحثًا عن علامات الوحدة في دماغ الإنسان، وهي دراسات شملت بشرًا أكثر بحوالي 100 مرّة من أيّ دراسات سابقات حسب ما قاله الباحث، وأشار إلى استخدامهم لبيانات من البنك الحيويّ (UK Biobank) في المملكة المتّحدة، وهي قاعدة بيانات طبّيّة حيويّة تحتوي على فحوصات دماغيّة لنحو 40 ألف مقيم في المملكة المتّحدة، إلى جانب معلومات حول عزلتهم الاجتماعيّة ووحدتهم.

كشفت نتائجهم، الّتي نشرت في عام 2020 في مجلّة Nature Communications، أنّ منطقة الشعور بالوحدة في الدماغ ترتبط بشبكة الوضع الافتراضيّ، وهي جزء من الدماغ ينشّط عندما نكون في حالة استعداد ذهنيّ، وقال بزدوك: «لم نكن نعرف حتّى قبل 20 عامًا أنّ لدينا هذه الشبكة». أظهرت الدراسات أنّ النشاط في شبكة الوضع الافتراضيّ يمثّل معظم استهلاك الدماغ للطاقة.

أظهر بزدوك وفريقه أنّ بعض مناطق شبكة الوضع الافتراضيّ لا تكون أكبر فحسب لدى من يعانون من الوحدة المزمنة، بل إنّها تكون أكثر ارتباطًا بأجزاء أخرى من الدماغ؛ ويبدو أنّ هذه الشبكة ترتبط مع العديد من القدرات المميّزة الّتي تطوّرت لدى البشر، مثل اللغة، وتوقّع المستقبل، والتفكير السببيّ. تنشط هذه الشبكة عمومًا عند تفكيرنا بالأشخاص الآخرين، وعند التفكير في تفسير نواياهم.

يكشف التصوير بالرنين المغناطيسيّ الوظيفيّ للدماغ البشريّ عن بعض المناطق المرتبطة بشبكة الوضع الافتراضيّ، وهي مجموعة من المراكز العصبيّة الّتي تكون أكثر نشاطًا عندما نفكّر في أشخاص آخرين.

قدّمت النتائج المتعلّقة باتّصالات شبكة الوضع الافتراضيّ دليلًا على التصوير العصبيّ لدعم الاكتشافات السابقة لعلماء النفس الّتي مفادها أنّ الأشخاص الوحيدين يميلون إلى أحلام اليقظة حول التفاعلات الاجتماعيّة، والحنين بسهولة إلى الأحداث الاجتماعيّة الماضية، وحتّى التعامل مع حيواناتهم الأليفة والتحدّث إليها كما لو كانت بشرًا.

وفي حين أن يمكن أن تؤدّي الوحدة إلى حياة اجتماعيّة خياليّة غنيّة، إلّا أنّها قد تجعل اللقاءات الاجتماعيّة الواقعيّة أقلّ جدوى. وقد يكون بزدوك وزملاؤه توصّلوا إلى السبب وراء ذلك في دراسة أجروها عام 2021، واستندت أيضًا إلى بيانات البنك الحيويّ الضخمة في المملكة المتّحدة. نظروا بشكل منفصل إلى الأشخاص المعزولين اجتماعيًّا والأشخاص ذوي الدعم الاجتماعيّ المنخفض، عبر قياس عدم وجود شخص يثق به بشكل يوميّ أو شبه يوميّ، ووجد الباحثون أنّ القشرة الجبهة الحجاجيّة، وهي جزء الدماغ المرتبط بمعالجة المكافآت، كانت أصغر عند جميع هؤلاء الأفراد.

كشفت دراسة كبيرة في العام الماضي لتصوير الدماغ تستند إلى بيانات من أكثر من 1300 متطوّع يابانيّ ارتباط الوحدة بوصلات وظيفيّة أقوى في منطقة الدماغ الّتي تتعامل مع الانتباه البصريّ، وتدعم هذه النتيجة التقارير السابقة من دراسات تتبّع العين الّتي تشير إلى أنّ الأشخاص الوحيدين يميلون إلى التركيز بشكل مفرط على الإشارات الاجتماعيّة غير السارّة، مثل تجاهلهم من قبل الآخرين.

رغبة عميقة وغير مريحة

قد يجد الأشخاص الّذين يشعرون بالوحدة أنّ المواجهات مع الآخرين غير مريحة وغير مجزية، إلّا أنّهم ما زالوا يتوقون إلى التواصل. افترض الراحل جون كاسيوبو، عالم الأعصاب بجامعة شيكاغو والملقّب بـ "د. الوحدة"، أنّ الوحدة هي تكيّف تطوّري، على غرار الجوع، ممّا يشير إلى أنّ شيئًا ما قد انحرف في حياتنا، فمثلما يدفعنا الجوع للبحث عن الطعام، يجب أن تدفعنا الوحدة إلى البحث عن التواصل مع الآخرين. بالنسبة لأسلافنا في السافانا الأفريقيّة، الّذين ربّما كان بقاؤهم يعتمد على وجود روابط اجتماعيّة، ربّما كان هذا الدافع الاجتماعيّ مسألة حياة أو موت.

تدعم بيانات تصوير الدماغ الحديثة فكرة أنّ الوحدة متجذّرة بعمق في نفوسنا. طلبت ليڤيا توموڤا، الباحثة المشاركة في علم الأعصاب بجامعة كامبريدج، وزملاؤها، في إحدى الدراسات، من 40 شخصًا الصيام لمدّة 10 ساعات، ثمّ فحص أدمغتهم في أثناء تصفّحهم لصور أطعمة شهيّة. وكان على المتطوّعين أنفسهم بعدها أن يقضوا 10 ساعات بمفردهم، بدون هواتف أو بريد إلكترونيّ أو حتّى روايات كبديل للتواصل. ثمّ أجروا فحصًا ثانيًا لـأدمغتهم، ولكنّ هذه المرّة في أثناء نظر المتطوّعين إلى مجموعات أصدقاء سعيدة؛ وعندما قارن العلماء عمليّات مسح الدماغ لهؤلاء الأفراد، كانت أنماط تنشيط الدماغ من وقت الجوع وعند الشعور بالوحدة متشابهة بشكل ملحوظ.

أكّدت التجربة بالنسبة إلى توموڤا على حقيقة مهمّة حول الشعور بالوحدة: إذا كانت 10 ساعات فقط دون اتّصال اجتماعيّ كافية لاستنباط نفس الإشارات العصبيّة بشكل أساسيّ مثل الحرمان من الطعام، "فهذا يؤكّد مدى أهمّيّة حاجتنا للتواصل مع الآخرين".

عقول أكبر وأصدقاء أكثر

تؤكّد الدراسات الحديثة أيضًا نظريّة تطوّريّة تسمّى فرضيّة الدماغ الاجتماعيّ، والّتي تفترض أنّ الحياة الاجتماعيّة المزدحمة مرتبطة بوجود أدمغة أكبر. نشأت الفكرة كنظريّة حول كيفيّة تغيّر العقول من خلال التطوّر، ولكن يبدو أنّ الحجم الأكبر للدماغ ينبثق مباشرة من تجارب الحياة أيضًا. بشكل عامّ، الرئيسيّات غير البشريّة في الأقفاص، والّتي تعيش في مجموعات اجتماعيّة أكبر أو تشترك في المساحات مع حيوانات أخرى في نفس القفص كان لديها أدمغة أكبر. وبشكل أكثر تحديدًا، يكون لدى الرئيسيّات مادّة رماديّة أكثر في قشرة الفصّ الجبهيّ.

وتشير الأبحاث إلى أنّ البشر ليسوا مختلفين كثيرًا، إذ وجدت دراسة أجريت عام 2022 أنّ كبار السنّ الّذين يعانون من الوحدة غالبًا ما يعانون من ضمور في أجزاء من الدماغ بما في ذلك المهاد، والّذي يعالج العواطف، وفي الحصين، وهو مركز للذاكرة؛ واقترح الباحثون أنّ هذه التغييرات يمكن أن تساعد على تفسير الروابط بين الشعور بالوحدة والخرف. بطبيعة الحال، فإنّ سؤال البيضة والدجاجة حول الوحدة هو: هل الاختلافات في الدماغ تهيّئنا للوحدة، أم أنّ الوحدة تعيد تشكيل الدماغ وتقليصه؟ وفقًا لبزدوك، ليس من الممكن حاليًّا حلّ هذا اللغز. لكنّه يعتقد إلى تبادليّة العلاقة.

تظهر دراسات الرئيسيّات ونتائج تجربة المحطّة القطبيّة نيوماير 3 أنّ التجربة والبيئة الاجتماعيّة يمكن أن تترك تأثيرًا قويًّا على بنية دماغ الفرد، ممّا يؤدّي إلى تثبيت التغييرات الّتي يمكن أن تسبّبها الوحدة، وأظهرت الدراسات الّتي أجريت على التوائم، من ناحية أخرى، أنّ الشعور بالوحدة وراثيّ جزئيًّا: يمكن تفسير ما يقرب من 50٪ من التباين في مشاعر الأفراد بالوحدة من خلال الاختلافات الجينيّة.

الأشخاص الّذين يعانون من الوحدة المزمنة ليسوا محبوسين بشكل لا رجعة فيه في تلك المشاعر بطبيعتها ورعايتها. تشير الدراسات إلى أنّ العلاجات المعرفيّة يمكن أن تكون فعّالة في الحدّ من الشعور بالوحدة من خلال تدريب الناس على التعرّف على كيف أنّ سلوكيّاتهم وأنماط تفكيرهم تعوّقهم عن تكوين أنواع الروابط الّتي يحتاجونها؛ وينبغي أن تكون توفير تدخّلات علاجيّة أفضل للوحدة والعزلة الاجتماعيّة.

وفي دراسة حديثة لليبيرز وزملائها، نظروا في نشاط الدماغ لدى أشخاص يلعبون لعبة قائمة على الثقة. في عمليّات مسح الدماغ للأشخاص الوحيدين، كانت منطقة دماغيّة واحدة أقلّ نشاطًا بكثير من الأشخاص الاجتماعيّين، وأوضحت ليبيرز أنّ تلك المنطقة، القشرة الجزيريّة (الفصّ الجزيريّ/الجزيرة)، تبدأ بالنشاط عندما نبدأ باختبار حدسنا، وقالت إنّ هذا «قد يكون سببًا يجعل الأشخاص الوحيدين يواجهون مشاكل في الثقة بالآخرين، حيث لا يمكنهم الاعتماد على مشاعرهم»، ولذلك يمكن أن تكون التدخّلات الّتي تستهدف الثقة جزءًا من حلّ لمشكلة الشعور الوحدة.

يمكن أيضًا علاج الوحدة عبر تمارين التزامن أو التواقت، إذ أظهرت الأبحاث وجود علاقة بين مدى إعجاب الناس وثقتهم ببعضهم البعض وبين مدى تطابق سلوكيّاتهم وأفعالهم بين فينة وأخرى، مثل التزامن في الابتسام بين الأفراد، أو في لغة الجسد وقت المحادثة أو الغناء المتزامن في جوقة أو التجديف مع فريق تجديف متزامن. أظهرت ليبيرز وزملاؤها في دراسة نشرت قبل عام أنّ الأشخاص الوحيدين يكافحون من أجل التزامن مع الآخرين، وأنّ هذا التناقض يتسبّب في مناطق دماغهم المسؤولة عن مراقبة الأفعال في العمل بسرعة مضاعفة. قد يشكّل تدريب الأشخاص الوحيدين على كيفيّة التزامن مع تصرّفات الآخرين تدخّلًا استراتيجيًّا آخر يجب مراعاته، واختتمت ليبيرز بأنّ هذا التدخّل لن يعالج الوحدة، "لكنّه قد يكون نقطة انطلاق".

وفي حال فشل كلّ التدخّلات العلاجيّة، يأتي هنا دور العلاجات الكيميائيّة. في إحدى التجارب الّتي أجريت في سويسرا، بعد أن تناول المتطوّعون مادّة السيلوسيبين، المركب ذو التأثير النفسانيّ في الفطر السحريّ، أفادوا بأنّهم شعروا بأنّهم أقلّ استبعادًا اجتماعيًّا، أظهرت عمليّات المسح الّتي أجريت على أدمغتهم نشاطًا أقلّ في المناطق الّتي تعالج التجارب الاجتماعيّة المؤلمة.

في حين أنّ التدخّلات مثل العلاج السلوكيّ المعرفيّ، وتعزيز الثقة والتزامن، أو حتّى تناول الفطر السحريّ يمكن أن تساعد على علاج الوحدة المزمنة، فمن المرجّح أن تظلّ المشاعر العابرة للعزلة جزءًا من التجربة الإنسانيّة، ولا حرج في ذلك حسب تعبير توموڤا، وقارنت الوحدة بالتوتّر: التوتّر مزعج، ولكنّه ليس سلبيًّا بالضرورة، فهو «يوفّر الطاقة للجسم، ويساعدنا على التعامل مع التحدّيات. يصبح الأمر إشكاليًّا عندما يصير مزمنًا لأنّ أجسادنا ليست مهيّئة للتعامل معه كحالة مستمرّة، وتنهار حينها آليّات التكيّف لدينا».

التعليقات