اعتذار متأخر إلى ألان تورنغ../ سليمان الحقيوي

لكي تفوز في الحرب عليك أن تعلم جيداً أين ومتى يجب أن تحرّك سلاحك، وهذا ما كان يفعله الجيش الألماني بسهولة كبيرة، بفضل تفوّقه في ابتكار برنامج تشفير قوي مكّنه من تمرير ملايين الرسائل لقصف مواقع الحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية، وتحويل

اعتذار متأخر إلى ألان تورنغ../ سليمان الحقيوي

لكي تفوز في الحرب عليك أن تعلم جيداً أين ومتى يجب أن تحرّك سلاحك، وهذا ما كان يفعله الجيش الألماني بسهولة كبيرة، بفضل تفوّقه في ابتكار برنامج تشفير قوي مكّنه من تمرير ملايين الرسائل لقصف مواقع الحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية، وتحويل المدن البريطانية إلى ساحات خراب.

وكاد أن يستمر هذا التفوق لولا استعانة الجيش البريطاني بعالم الرياضيات، ألان تورنغ، الذي حقق لإنجلترا وحلفائها ما عجزوا عنه، ومكّنهم من اعتراض الرسائل الألمانية وفكّ تشفيرها، قالباً بذلك موازين القوى.

يختار المخرج النرويجي، مورتين تيلدوم، مدخلاً ذكياً في اقترابه من سيرة عالم الرياضيات، ألان تورنغ، (قام بدوره بنيديكت كمبرباش)، بعيداً عن كثرة التفاصيل التي كانت لتشوش على قيمة الدور التاريخي لهذا الرجل الذي وصفه ونستون تشيرشل بأنه "صاحب أعظم مساعدة فردية قُدّمت للحلفاء ضد الألمان".

ينطلق سرد الأحداث في الفيلم من سنة 1951، في غرفة تحقيق يجلس تورنغ ويطلب من الضابط الذي يستجوبه بأن يغادر إن لم يكن مستعداً للاستماع إليه، وألا يقاطعه ولا يحكم عليه حتى يروي حكايته كاملة. فالقصة كلها استرجاع لحياة صاحبها وبلسانه أيضاً.

يحكي تورنغ (قصته التي كانت الحكومة تعتبرها من أسرار الأمن الوطني) عن استدعاء الاستخبارات البريطانية له ليلتحق بفريق مكوّن من علماء وأبطال شطرنج ولغويين، لمحاولة كسر شيفرة الأنيغما التي يستعملها الجيش الألماني. كان تورنغ يعلم منذ البداية أن الطريقة الكلاسيكية التي كان يعمل بها الفريق لن تؤدي إلى نتيجة، وانكب منعزلاً على صناعة آلته التي أطلق عليها اسم صديق طفولته "كريستوفر".

وفي لحظة من لحظات اليأس، سيهتدي تورنغ إلى الحلقة المفقودة في جهازه ويقلّص احتمالات البحث، ليصبح الجهاز قادراً على اعتراض الرسائل وفكّها، ما جعل مدة الحرب تقل أكثر من سنتين، وتمكّن بهذا من إنقاذ حياة 14 مليون شخص بحسب الرواية الرسمية، مغيراً بذلك نتيجة الحرب لصالح بريطانيا وحلفائها.

اختيار السيناريست، غراهام مور، أثناء عمله على كتاب "ألان تورنغ اللغز" ــ الذي نال عنه جائزة الأوسكار لأفضل نص مقتبس ــ وضع حدث التحقيق كنقطة سرد مرجعية، وهو أمر مهم لأنه جعل الجمهور يبقى في مقارنة دائمة بين العمل البطولي الذي قدّمه تورنغ والمعاملة التي تلقاها بعد ذلك، واستقصى، أيضاً، طفولته التعيسة وعلاقته بصديقه كريستوفر، وبدايات اضطرابه النفسي وميوله الجنسية.. كما استمدّ الفيلم قوّته من التعبير الدقيق عن حقبته الزمنية، ومن موسيقاه التصويرية التي واكبت الحكاية ووفّرت لها خلفية مناسبة لتحريك المشاعر.

سيرة ألان تورنغ، كانت في حاجة إلى الانتقال بها إلى الشاشة من خلال عمل ضخم كـ"لعبة التقليد"، ليس لأن هذه الشخصية ساهمت في فوز الحلفاء بالحرب، ولا لأنه واضع مبادئ علم الحواسيب، بل لأن وراءها محنة كبيرة، فرغم ما قدّمه العالم البريطاني لبلاده، تمّت محاكمته سنة 1953 بتهمة المثليّة الجنسية، التي كان يجرّمها القانون البريطاني في ذلك الوقت، واختار تورنغ مكرهاً العلاج الذي أضر بحالته الصحية، بدل أن يقضي سنتين في السجن بعيداً عن آلته كريستوفر.

الفيلم الذي انطلق عرضه في الذكرى الستين لوفاة تورنغ، شارك في أكثر من 48 مهرجاناً، وحقق شعبية كبيرة، وهو أفضل احتفاء بسيرة الرجل، وربما أفضل من الاعتذار الذي قدّمه رئيس الوزراء البريطاني، غوردن براون، سنة 2009 باسم حكومته عن المعاناة التي لقيها تورنغ، وأكثر قيمة حتى من العفو الملكي الذي أصدرته الملكة إليزابيث سنة 2013 وجاء متأخراً، بعد انتحاره بستين عاماً.

(عن العربي الجديد)

التعليقات