بازوليني وأنسطاس: البحث عن طريقٍ أخرى للمسيح

لم يكن يعلم المخرج والشّاعر الإيطاليّ الشّهير، بيير باولو بازوليني، عند زيارته فلسطين عام 1963، ليبحث عن مواقعَ لتصوير فيلمه "الإنجيل بحسب القديس متّى"، ولا يجد، أنّه وبعد أربعين عامًا، ستخرج فلسطينيّةٌ تُدعى  في فلسطين أيرين أنسطاس، في رحلةٍ فيليّةٍ أُنتجت عام 2004، تتّكئ فيها على خريطة الطّريق الخاصّة ببازوليني، وطريق المسيح من قبله، راسمةً في فيلمها، "بازوليني في فلسطين"، خريطة الوجع الفلسطينيّ، ومسلّطةً الضّوء باقتدار، وعلى مدار واحدٍ وخمسين دقيقةً، على محاكاة الواقع في الأراضي المحتلّة، سواءٌ عام 1948 أو عام 1967، عبر رحلة بازوليني، مرسلةً له رسالةً تجريبيّةً افتراضيّةً، آملةً في أن يوافق على استخدام مشاهد من فيلمٍ أُعدّ سابقًا حول رحلته إلى فلسطين، "اصطياد مواقع التّصوير في فلسطين"، ومن أخرى مصوّرةٍ بشكلٍ مستقلٍّ عن الرّحلة، وقد أعربت في رسالتها عن أسفها وحزنها، لأنّه لم يجد في فلسطين ضالّته، متجاهلًا التّحوّلات الزّمكانيّة ما بين رحلة المسيح، وفلسطين عام 1963، فما بالكم بعام 2004، أو الآن مثلًا؟!

خيبة البحث عن مواقع الإنجيل

زار بيير باولو بازوليني الأراضي المقدّسة بحثًا عن مواقعَ تصويرٍ من أجل فيلمه "الإنجيل بحسب القدّيس متّى"، لأنّه لا يستطيع أن يتخيّل صناعة فيلمٍ عن المسيح بالقرب من مصانع ميلانو، كما قال، لذا قصد أرض القداسة القديمة، حيث "الضّآلة والفقر والتّواضع"؛ إلّا أنّه انتهى إلى خيبةٍ تشابه خيبة الوصول إلى بؤس التّحوّلات الّتي شوّهت تلك الأمكنة عبر التّاريخ.

علّق بازوليني بصوته في فيلمه الوثائقيّ، "اصطياد مواقع التّصوير في فلسطين"، ومن اللّافت أنّ الفيلم لا يحتوي أيّ أحاديثَ مع عرب فلسطين؛ لكنّه مع ذلك ينعتهم بالسّعداء، ويقول إنّهم بدوٌ وفلّاحون معدمون، يرتدون أسمالًا في ريفٍ مهملٍ، وفي الأزقّة أطفالٌ حفاةٌ يلاحقون الغرباء ضاحكين... صوّر بازوليني بنفسه مشاهد الفيلم، صوّر التّلال الشّاحبة في وهج الشّمس، والقفار الّتي لا ينبت فيها حتّى شجر الزّيتون والتّين، والّتي على مرتفعاتها تردّدت عظة الجبل، وسأل الشّيطان المسيح أن يجعل الحجارة خبزًا.

كان في الرّحلة كاهنٌ كاثوليكيٌّ نسمعه يخاطب بازوليني بلقب "دكتور" حين يقصّ للأخير حكاياتٍ عن المسيح، بينما القدس تلوح وراء سياجٍ من الأسلاك الشّائكة: "إنّ الرّوحانيّة تعبيرٌ جماليٌّ وليس دينيًّا". يظهر اليهود المستوطنون البيض في الفيلم وقد وحّدت الكيبوتسات ملامحهم، وفي أحدها يلتقي المخرج أسرةً يهوديّةً إيطاليّةً، يقول لاحقًا في سرده: "يمكن مصادفة أشباه هؤلاء بكلّ سهولةٍ في ريف روما أو في سويسرا"، وأمام المتزلّجين على مياه بحيرة طبريّة يتحدّث عن معجزة المسيح الّذي سار على أمواجها.

أين الفلسطينيّ؟

أمّا المخرجة الفلسطينيّة، أيرين أنسطاس، في فيلمها الوثائقيّ التّجريبيّ، فإنّها ترى الصّورة بعينٍ أخرى، ومع ذلك فإنّها تتتبّع مسار رحلته الّتي قام بها عام 1963، خلال بحثه عن وجوهٍ ومواقعَ لتصوير فيلمه الرّوائيّ عن إنجيل متّى؛ فبعد أكثر من أربعين عامًا من رحلة بازوليني، يحاول الفيلم الفلسطينيّ البحث عن المواقع والأفكار الّتي طرحها المخرج الإيطاليّ في فيلمٍ وثائقيٍّ صنعه عن رحلته تلك، وهو يحضّر لفيلمه الرّوائيّ؛ وفي فيلمه الوثائقيّ موادُّ مصوّرةٌ من فترة البحث الّتي قضاها في فلسطين، في ظلّ إسقاطاتٍ واضحةٍ من الواقع الفلسطينيّ الصّعب تحت الاحتلال، بحواجزه العسكريّة، وسياساته الإجراميّة اليوميّة، وطرد الفلسطينيّن من ديارهم خلال النّكبة (1948)، والنّكسة (1967)، وتدمير قراهم ومدنهم، في فعلٍ حميمٍ لمحوٍ متعمّدٍ لمالك الأرض والتّاريخ، ولهويّته، وتراثه، ورمزيّاته المتعدّدة، وهو ما لم يدركه بازوليني بطبيعة الحال.

الصّور الّتي سكنت رأس بازوليني لم تطابق أيّ واقعٍ في فلسطين، فما رآه أمامه كان بعيدًا عن هالات القدّيسين الّذين رآهم في الأيقونات، وسمع قصصهم منذ طفولته في كازارسا، مسقط رأسه.

كان يقارن بين ما يراه في فلسطين وبين باري وكالابريا وصقلية جنوب إيطاليا، حيث صوّر في النّهاية فيلمه، "الإنجيل بحسب القدّيس متّى"، وأدّت فيه أمّه دور مريم العذراء، واستخدم "آلام القدّيس متّى" لباخ موسيقى تصويريّةً، وقد حاولت الفاتيكان منع عرض هذا الفيلم لأنّ بازوليني صنعه وفق ذوقه وهواه.

بازوليني، الّذي سرد خيبات اكتشافاته ومشاهداته في الأراضي المقدّسة، زار لاحقًا سوريّة، وصوّر في قلعة حلب مشاهد من فيلمه، "ميديا"، الّتي أدّت دورها ماريا كالاس.

لم يلتفت بازوليني في فيلمه الوثائقيّ، "اصطياد مواقع التّصوير في فلسطين"، إلى صراع الوجود على الأرض بين الفلسطينيّين، أصحابها، والإسرائيليّين، محتلّيها.

وهذا ما أرادت أيرين أنسطاس أن تقوله في فيلمها، الّذي عُرِضَ مؤخّرًا (2 شباط 2016) في مركز خليل السّكاكينيّ الثّقافيّ بمدينة رام الله؛ فهي بعبثيّتها الجميلة، وتلقائيّتها المدروسة في إعادة السّيناريو أكثر من مرّةٍ مع معدّ الفيلم وفريق العمل، وكذلك تغيير المسير نحو مناطقَ لم يلجها بازوليني، كما فعلت في الجولان السّوريّ المحتلّ، حيث سلّطت الضّوء على معيشة أهله في ظلّ الاحتلال الإسرائيليّ، بذلك كلّه، تمكّنت من إيجاد طريقٍ أخرى للمسيح، غير طريق بازوليني.

المسيح طفلٌ في التّواني

شكّل التّجريب في الفيلم عنصرًا أساسيًّا في كسر رتابة نمط بازوليني الّذي اشتُهر به، والتّأكيد على أنّ روح المكان أهمّ من بانوراميّته، وأنّ ساكنيه هم ساكنوه، ليكون في الجولان وغيرها "أبطالٌ" حقّقوا سطوةً ما في حكايتها السّينمائيّة، الّتي خطّتها بعدستها في "عزّ" الانتفاضة الثّانية، والّتي بطبيعة الحال ستتغيّر فصولٌ فيها إذا ما عادت وكتبتها مصوّرةً من جديدٍ هذه الأيّام؛ فالجغرافيا الفلسطينيّة تتغيّر باستمرارٍ بفعل الاحتلال وجدرانه العازلة، وحواجزه العسكريّة الدّائمة والمؤقّتة، وهذا لم يكن في رحلة بازوليني الّذي حاول استنساخ رحلة المسيح بشكلٍ أو بآخر.

تتكيّف المخرجة الفلسطينيّة في رحلتها الفيلميّة مع خريطة طريقٍ فرضها الاحتلال، وتغوص في تفاصيل حيوات سكّان الأرض المحتلّة، والتّناقضات الكبيرة ما بين المرئيّ والمسموع في فلسطين، من أقصاها إلى أقصاها.

قال بازوليني في مراجعةٍ لنفسه بعد عودته إلى بلاده، مناقضًا رؤيته الأولى، إنّ إسرائيل مغرقةٌ في الحداثة، والعرب الفلسطينيّين غارقون في البؤس، ويستحيل أن يصدّق أحدٌ أنّ تعاليم المسيح قد بلغت مثل هذه الوجوه.

أمّا أنسطاس، فوجدت في وجه طفلٍ أشقر ذي عيونٍ ملوّنةٍ في التّواني بالخليل مسيحًا، وفي آخرين رفاقه ومريديه، فالمسيح الفلسطينيّ يتجلّى في كامل رحلتها المصوّرة، بينما يبقى متخيّلًا لدى بازوليني الّذي لم يبتعد في فيلمه عن نظرةٍ استشراقيّةٍ وجدت تفوّق الإسرائيليّ، ومجّدت الكيبوتس، الّذي استطاعت ابنة بيت لحمٍ كسر الصّورة النّمطيّة عنه، والتّأكيد على إقحامه في العجلة الاقتصاديّة الحديثة، وسياسة الخصخصة.

بازوليني الشّيوعيّ، قُتِلَ في ظروفٍ غامضةٍ بالقرب من روما عام 1975، أمّا أيرين أنسطاس، فتقيم في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، ولا تزال تبدع في مشاريعها الفنّيّة على صعيد السّينما، وغيرها، وليس فقط في هذا الفيلم الّذي حاولت أن تقول عبره لبازوليني، لا لشخصه فقط، بل للثّقافة الّتي يمثّلها أيضًا: "أودّ أن تجد فيما أقدّمه ما لم تكن قد وجدته في فيلمك، وإنّ رفضك للمشهد الفلسطينيّ يجعلني حزينةً، لكن هو ما دفعني لسدّ تلك الفجوة من عدم العثور على مكانٍ في فلسطين لفيلمك عام 1963"، حيث كان جنود الاحتلال حاضرين بعنجهيّتهم المعهودة، والفلسطينيّون حاضرين بإصرارهم على الحياة في أرضهم المسلوبة.