زخارف قبّة الصخرة: ثماني سنوات من التذهيب المقدّس

قبّة الصخرة بعد الترميم | عدسة فادي عميرة

ثلاثة وأربعون عامًا مضت على عمل الحاجّ سيف الدين سُميرة في ترميم وتذهيب زخارف المسجد الأقصى، بمختلف مبانيه ومرافقه، فأمسى حافظًا لأدقّ تفاصيلها، وقد أنهى وفريقه مؤخّرًا أعمال ترميم زخارف قبّة الصخرة المشرّفة من الداخل، في ظل تضييقات من الاحتلال الإسرائيليّ.

900 متر مربّع

تتركّز مهمّة الحاجّ سُميرة، عضو لجنة إعمار المسجد الأقصى، في تذهيب الزخارف الجبسيّة والرخاميّة، وهي عمليّة تحتاج دقّة عالية وتمرّ بمراحل عدّة؛ بدءًا من التهيئة، مرورًا بتنعيم الزخارف وطلائها بمادّة 'الشلق' لإغلاق المسامات الجبسيّة، تتبعها مادّة تثبيت لزجة وشفّافة تحتاج إلى ما لا يقلّ عن اثنتي عشر ساعة لتجفّ، ثمّ التذهيب.

يُسْتَخْدَمُ في تذهيب الزخارف ذهب عيار 24 قيراطًا، اعتادت لجنة الإعمار استيراده من فرنسا أو إيطاليا على شكل ورق مذهّب، يقصّه الحاجّ سُميرة ومساعدوه بما يتناسب مع أشكال كلّ زخرفة، ويحرصون على عدم ضياع ولو ذرّة ذهب واحدة، يلصقونه في المواضع المحدّدة، ثمّ يطلونه بمادّة تخفّف من إشعاعه وتظهره وكأنّه ذهب قديم، ثمّ يطلونه بعد ذلك بمادّة شمعيّة تحميه من الخدوش وتسهّل عمليّة تنظيفه.

من زخارف قبّة الصخرة الداخليّة | عدسة فادي عميرة

استغرقت مجمل عمليّة ترميم زخارف قبّة الصخرة ثماني سنوات، كانت كافية للانتهاء من ترميم وتذهيب حوالي 900 متر مربّع، وهي مساحة القبّة الذهبيّة من الداخل، وقد أُعيد تأسيس مساحات معيّنة منها تعرّضت لأضرار بالغة نتيجة تسرّب مياه الأمطار.

المبنى

يشمل مبنى قبّة الصخرة المشرّفة، والذي كُسِيَت جدرانه بالرخام، الصخرة ومن أسفلها المغارة، والتي تشير المرويّات الإسلاميّة إلى عروج الرسول محمّد (ص) منها نحو السماوات العُلا، كما يضمّ حاجزًا خشبيًّا مزخرفًا كان صلاح الدين الأيوبيّ قد أحضره معه لدى تحريره القدس، بالإضافة إلى أربعة أبواب وشبّاكين اثنين

من الخارج، كُسِيَت جدران المبنى ذي الأضلاع الثمانية بالبلاط القيشانيّ أزرق اللون، أمّا الشبابيك الستّة الخارجيّة فمصنوعة من الجبس، ومزخرفة بزجاج ذي أشكال هندسيّة تضمن حماية الأجزاء الداخليّة من عوامل الطبيعة، في حين صُنِعَت الشبابيك الداخليّة من الزجاج المعشّق.

أمّا القبّة نفسها، فتتكوّن من ثلاثة أقسام؛ هي الرقبة المشغولة بالفسيفساء، والقبّتان الداخليّتان اللتان يبلغ ارتفاعهما أربعة وثلاثين مترًا، وهما مشغولتان بالخشب والجبس والألوان والذهب، والقبّة الخارجيّة المصنوعة من معدني النحاس والنيكل المطليّين بالذهب، وقد احتاجت القبّة الخارجيّة عند ترميمها آخر مرّة إلى ثمانين كيلو من الذهب.

الحاجّ سيف الدين سُميرة يشير إلى إحدى الزخارف التي عمل على ترميمها

تفصل بين القبّتين الداخليّة والخارجيّة مسافة متر واحد. أمّا تفاصيل ترميمهما، وإن بدت دقيقة وتحتاج لحرفيّة عاليّة، إلّا أنّ الأدوات المستخدمة باستثناء الذهب بسيطة، تشمل فُرَشًا، وسكاكين صغيرة، وملاقط خشبيّة، وبراغي للتثبيت، إلى جانب الرسومات.

الزخارف

يعود تاريخ الزخارف الموجودة في مبنى قبّة الصخرة إلى زمن تأسيسها وبنائها في القرن السابع الميلاديّ، حيث بدأ الخليفة الأمويّ عبد الملك بن مروان ببنائها عام 685م وانتهى عام 691م، بإشراف المهندسين رجاء بن حيوة ويزيد بن سلام، وقد شهدت على مدار القرون اللاحقة عناية كبيرة من الحكّام المسلمين.

استخدم الفنّيّون ثلاثة ألوان رئيسيّة سيطرت على زخارف قبّة الصخرة، هي الأخضر والأزرق والذهبيّ، إضافة إلى مشتقّاتها وألوان أخرى ثانويّة.

يبرز النمط الكتابيّ في لوحات الفسيفساء داخل قبّة الصخرة، إذ ثمّة شريطان كتابيّان بالخطّ الكوفيّ لآيات قرآنيّة، وكذلك إشارة إلى تاريخ المبنى، نُفِّذت باستخدام الفسيفساء المذهّبة على أرضيّة زرقاء. يبلغ طول الشريطين 240 مترًا، ويقعان في الجزء العلويّ للتثمينة الداخليّة (الأضلاع الثمانية) من الداخل والخارج، وتشير تلك الكتابات في مجملها إلى وحدانيّة الله وفق المنظور الإسلاميّ.

نباتيّة

تمتاز الزخارف التي تتركّز على وجهي التثمينة الداخليّة أساسًا، بكونها نباتيّة، وهو ما يتوافق مع التوجّه الإسلاميّ العامّ الذي يبتعد عن تجسيد البشر والحيوان ويحرّم التماثيل، ما جعل الفنون الإسلاميّة تلجأ إلى النباتات. كما تعتمد على عناصر هندسيّة كالمربّعات والدوائر والإطارات، وتشمل المجوهرات بمختلف أشكالها، والصدفيّات، والمزهريّات.

الصخرة وقبّتها | عدسة فادي عميرة

للنمط النباتيّ المستخدم في هذه الزخرفات نماذج متعدّدة؛ منها الأشجار المثمرة، كالنخيل والزيتون والرمّان والتين واللوز، بالإضافة إلى الأوراق النباتيّة مختلفة الأشكال والأنواع، مثل ورق نبتة الأكانثاس.

وُضِعَت الفواكه في سلال أو صحون، كما صُمّمت عروق النباتات بطريقة تُظهرها وكأنّها تفيض من قلب المزهريّات، التي زُيّنت أجسامها بمختلف أشكال المجوهرات، مثل العقود والأساور والأقراط والأهلّة والنجوم، المفصّصة جميعها بالأحجار الكريمة.

ثمّة قراءات تشير إلى أنّ زخارف المزهريّات والسلال وما فيها من فواكه أو ما يخرج منها من نباتات، يشير إلى الجنّة ووصفها، وفق المهندس المقيم في لجنة الإعمار، بسّام الحلاق.

الارتباط بالمكان

أمّا المحاضر في قسم العمارة بجامعة النجاح الوطنيّة، الدكتور هيثم الرطروط، فيؤكد على وحدة المضمون والطابع الفنّيّ اللذين تعكسهما زخارف قبة الصخرة، وأن جماليتها ترتبط بالمكان الذي وُجِدَت فيه، إذ أنّها مبتكرة وتتكامل مع تصميم المبنى المعماري، كما أنها وثيقة الارتباط بالفكر والفلسفة الإسلاميين.

وبحسب الرطروط، فإنّ 'الوحدات الزخرفيّة' في مباني المسجد الأقصى متنوّعة النماذج، منها النباتيّة والهندسيّة والكتابيّة، وتُعْرّفُ تلك الوحدات بأنّها كلّ عمل زخرفيّ يتكوّن من وحدات أساسيّة متداخلة ومتناصفة ومتوازنة، عن طريق التكرار والتشعّب والتناظر والتماثل والتعاقب، وقد صُمِّمَت تلك النماذج وفق معايير محدّدة، من حيث التجريد ومخالفة الواقع.

إبعاد

لم تسلم مشاريع إعمار المسجد الأقصى وترميمه من تضييقات الاحتلال الإسرائيليّ يومًا، وقد كان آخرها اعتقال مدير مشاريع لجنة الإعمار، المهندس بسّام الحلّاق، وأربعة من أعضائها، بادّعاء عملهم داخل قبّة الصخرة المشرّفة دون تصريح وبغياب رئيس سلطة الآثار الإسرائيليّة، لتصدر بعد ذلك أوامر بإبعادهم عن المسجد.

المهندس بسام الحلّاق في مكتبه بلجنة الإعمار

وقد علقّ الحلّاق على إبعاده مدّة أسبوع عن المسجد، قائلًا إنّ شرطة الاحتلال أبلغتهم بوجوب طلب إذ مسبق من دائرة الآثار الإسرائيليّة قبل الشروع في أيّ أعمال ترميم داخليّة أو خارجيّة، وهو أمر يخالف المتبّع خلال سنوات عمله الـ 38 كما يؤكّد.

وقد رفض الحلّاق هذه الإجراءات، قائلًا إنّه موظّف في وزارة الأوقاف الأردنيّة، ومكلّف من إدارة الأوقاف الإسلاميّة، وهما الجهة الوحيدة صاحبة السيادة على المسجد الأقصى