بحرٌ من حكايات: الصمت جزء من الأرشيف

بدون عنوان | طارق الغصين

تغريد عبد العال

نتجوّل في معرض 'بحرٌ من حكايات' ضمن فعاليّات محفل 'قلنديا الدوليّ' 2016 في بيروت، في دار النمر للثقافة والفنّ، ونحن نقلّب في الذّهن ذلك السؤال الذي طرحه الفيديو في واجهة المعرض: كيف أُسْكِتَ هذا الأرشيف؟

أسئلة أخرى طرحها المعرض الذي شارك في إنجازه أحمد باركلي وهنا سليمان إلى جانب قيّمته، رشا صلاح، من خلال البحث عن تاريخ الأرشيف الفلسطينيّ الضائع الذي لم يبق منه سوى شذرات وحيوات. هي أسئلة الوجود الفلسطينيّ في لبنان بخاصّة، ومحطّات الشتات بعامّة، في بيروت، المدينة التي حملت تاريخًا من هذا الوجود الاستثنائيّ بكلّ حيويّته وقسوته.

الصوت المفقود

 يحضر الصمت وكأنّه حالة مقصودة، في الصور التي تختزن كلّ هذه الحيوات دون أيّ صوت. كأنّ صوت البحر مفقود في مكان ما ونتمنّى لو يخرج. الصورة واضحة وعلينا فقط أن نتحرّك ونتقفّى أثر تلك الرحلة كي نسمع صوت الحكايات المختزنة.

صورة كبيرة للبحر تشدّنا إلى داخل المعرض، فلا نستطيع إلّا أن نتذّكر 'بحرٌ لأيلولَ الجديدِ. خريفُنا يدنو منَ الأبوابِ' في مديح الظلّ العالي لمحمود درويش، دون أيّ وجود هنا لكلّ هذه الذكريات. لكنّ صورة البحر الكبيرة التي تصوّر كيف تترتّب أمواجه وكيف تضطّرب، جديرة باستعادة تلك الذاكرة.

 مربّعات متناثرة ترتّب الصورة حتّى تعود إلى ما كانت عليه. الشتات الذي بدأ من بحر توزّعت فيه سفن الثورة الفلسطينيّة عبر طرق كثيرة لم تؤدّ إلى العودة، الفيديو في الزاوية المقابلة لياسر عرفات أثناء توقيع اتّفاق أوسلو، يعيد المشهد الصامت مرارًا، كأنّه محطّة خانقة للسفينة التي وصلت إلى هنا.

إلى أين؟

ندخل غرفة صغيرة بستار رماديّ، لنكون فيها على موعد مع جزء من جزء رحلة ضياع الأرشيف وانتقاله من مكان إلى مكان، الجزء الممتّد من عام 1993 حتّى اليوم، حيث انتقل مركز الأبحاث التابع لمنظّمة التحرير الفلسطينيّة من قبرص إلى أسدود (أشدود إسرائيليًّا)، ثمّ إلى رام الله، إلى أن حدث الانقسام بين فتح وحماس، فتتوقّف 'وفا' (وكالات الأنباء والمعلومات الفلسطينيّة) عن العمل في غزّة وتنقل جميع أعمالها إلى رام الله. نقرأ هذا ونضع السماعة للاستماع إلى مقاطع من الأفلام الوثائقيّة، المختزنة في شاشة صغيرة مدفونة في الحائط. الاستماع قاسٍ، فما أكثر الحكايات، لكنّ الصورة في الخارج صامتة.

'الأرشيف الوطنيّ الفلسطينيّ - ذاكرة الأمّة وذاكرة الدولة'

ندخل بعدها غرفة أخرى، لنرى قاعة اجتماعات كبيرة وأوراقًا على الطاولات، إنّها قاعة مفاوضات مع رموز 'سيادة'. نمتعض لما نشعر به هناك، سيكون الصمت، مرّة أخرى، في انتظارنا كي نجيب؛ إلى أين؟

الموجة

نغيّر وجهتنا قليلًا لنرى لوحة كبيرة 'للموجةلعبد الرحمن قطناني، فنّان فلسطينيّ من مخيّم صبرا. الهشاشة ستتحوّل إلى صلابة داخل موجة رماديّة. سيأخذنا، عن بعد، لونها وتدفّقها، ثمّ نكتشف، عن قرب، أنّ الموجة أسلاك شائكة، والأسلاك ليست قفصًا هنا. طرحت 'الموجة' في المعرض سؤالًا آخر؛ هل واجهنا كلّ هذا الكمّ الهائل من المأساة؟  ربّما الشاطئ الذي نريد أن نصل إليه هو تلك القيود التي نريد مواجهتها. تتداعى في الذهن صور الغرقى في زمن صار الهروب هو ما نسعى إليه، لأنّ لا طريق أخرى أمامنا. الهروب إلى بحر يجعلنا أمام هذا الكمّ الهائل من العقد.

في أعمال قطناني، الأدوات الفنّيّة هي بيئة المخيّم، وهو ما يضيف للعمل الفنّيّ خصوصيّته. المكان جزء من اللغة البصريّة في اللوحة التي كلّما اقتربنا منها شعرنا أنّها اقتربت من مكانها المحلّيّ، أمّا إطارها، فيتّسع إلى ما هو أبعد من حيّزها، فهي تنتمي لسؤالها.

الموجة | عبد الرّحمن قطناني

سيكون الأرشيف في 'الموجة' حكايات ذاتيّة مبعثرة في الفضاء الجماعيّ، ما منح أهمّيّة للقصّة الفرديّة داخل الوجود الفلسطينيّ، لأنّ اقتطاع الفنّان جزءًا من هذا البحر وتضخيمه، ما هو إلّا محاولة جادّة للدخول في عمق ذلك المكان ورؤية تفاصيله الصلبة وموادّه الخام. ولا يهمل قطناني حركة الموجة، فلا نشعر بجمودها رغم الأسلاك، إذ يجعلها في أوج ارتفاعها، بالغة جموحها وقسوتها.

استعادة

ثمّ يأخذنا الفنّان والمخرج الفلسطينيّ كمال الجعفري في فيلمه المعنون بـ 'استعادة '، إلى المكان من زاوية أخرى، المكان الذي احتوى كلّ الشخصيّات حتّى صار وعاءً لتلك الذاكرة الشخصيّة والجمعيّة والتاريخيّة.  

يقلّب الجعفري ألبوم الصور الخاصّ بمدينة يافا في الستّينات والسبعينات، مستخدمًا الأفلام الأميركيّة والإسرائيليّة عن المدينة، وقد مسح الممثّلين والأبطال كافّة، وأبقى على تفاصيل المدينة فقط، والمارّة.

هنا اقتراح جماليّ للعودة إلى الخلفيّة الحقيقيّة، للصورة الفنّيّة أيضًا، فهي تروي تاريخها الخاصّ بنفسها، لأنّها تستطيع أن تقول ما تريد على طريقتها.

لقطة من 'استعادة' | كمال الجعفريّ

إذا كان المحو لغة الجعفري للوصول إلى مكانه الحقيقيّ، فنحن لا نشعر أبدًا بأنّ شيئًا ما قد أزيل، فهنا إعادةٌ الأدوار إلى لأبطال الحقيقيّين والهامشيّين، الذين عاشوا هناك، حيث يسرد حكاية شخصيّة نهاية الفيلم، يبيّن من خلالها الشخصيّات التي مرّت وأسماءها، مبتدئًا بالسيّارة الزرقاء التي تقف قرب جدار. كلّ شيء يمرّ داخل الصور سيصبح له اسم ومعنى وحكاية خاصّة في الألبوم الكبير الذي نقف أمامه، وكأنّنا نريد مجرّد صوت صغير لأحد تلك الأشياء الكثيرة، أو نتمنّى أن يتحدّث شخص ما من المارّة في الصور، كي نحتمل آثار ذلك الزمن الذي مرّ بسكون ولم يعد موجودًا رغم آثاره الدامغة.

 في الزاوية المقابلة صورة للجعفري أيضًا؛ هي واحدة من صور الفيلم، السيّارة الزرقاء التي يقول إنّها مركونة في زاوية تقابل بيت جدّه. الحميميّة هي ما يجعل صور الجعفري تتحرّك، رغم سكونها ووقوف المارّة واللحظات التي تجمّدت هناك.

إنّها يافا الّتي عرفها الجعفري في طفولته، وها هو، رغم المحو، يستعيدها.

استراحة مخيّم

ستكون في الطابق العلويّ من فضاء المعرض استراحة صغيرة في انتظارنا، 'استراحة مخيّملمجموعة الدكتافون. كاميرا كرم غصين، ومونتاج علي بيضون، وصوت مجد الحمويّ، ومشاركة فنّانين آخرين؛ حسين الزيني، وخديجة المصري، وحسن عجّاوي، وزهراء فاعور.

داخل غرفة صغيرة، ثمّة سجّادة للجلوس على الأرض ومشاهدة الشاشات الأربع التي تعرض صورًا من مخيّم الرشيديّة، وصوت الجدّة من المخيّم تسرد تفاصيل عن رحلة اللجوء من فلسطين إلى لبنان؛ تفاصيل كثيرة تنتقل عينك لتتابعها على الشاشات، بينما الجدّة تسرد الحكاية، كصوت المياه، وتنقل سكّان المخيّم وصيحات العيد والأغاني التي تصدح، بينما الأطفال على الأراجيح، يصرخون.

استراحة مخيّم | مجموعة الدّكتافون

ما يلفت في الاستراحة هو تفاعل الجدران الأربع مع بعضها، إذ يشعر المستمع أنّ عليه تأمّل الصورة كلّيًّا، دون أن يهمل الأخرى، ليكوّن صورته الذهنيّة عن المخيّم. أثناء حديث المرأة التي عايشت النكبة، نرى صورة طفلة على الجدار المقابل، تستمع دون أن تتحدّث، ويبدو على ملامحها الشعور باللا جدوى. مجرّد الإنصات إلى الحكاية يمثّل حالة خاصّة في المخيّم.

ثمّة صورة لرجل أيضًا، يبدو أنّه يصغي هو الآخر. ثلاثة أجيال نمرّ بها في نظرة واحدة إلى الشاشات أثناء الحديث عن: كيف وُجِدَ المخيّم؟ وهذا ما جعل الغرفة تتّسع وتمتدّ من النكبة حتّى يومنا هذا.

 مرّة أخرى، يظهر البحر، متنفّسًا لسكّان المخيّم، ومكانًا لا يفارق الحكاية الفلسطينيّة. الاستراحة هنا نافذة للإطلالة على الوجود الفلسطينيّ بطريقة فنّيّة بعيدة عن الخطاب، لكنّها قريبة جدًّا من الواقع.

......

بحرٌ من حكايات: أسفار الأرشيف الفلسطينيّ.

قيّمة المعرض: رشا صلاح.

الفنّانون المشاركون: أحمد باركلي وهناء سليمان "أسفار الأرشيف الفلسطينيّ"، كمال الجعفري 'استعادة'، عبد الرحمن قطناني 'الموجة'، مجموعة الدكتافون 'استراحة مخيّم'، طارق غصين 'مجموعةالنمر'.

بدعم مشترك من: مؤسّسة التعاون والمورد الثقافيّ.

المكان: دار النمر للثقافة والفنّ، كليمنصو، بيروت.