آخر أيّام المدينة: التشبّث بالغرق وسط كلّ هذا القشّ!

خالد عبد الله في أحد مشاهد الفيلم

بغداد ليست مدينة، بغداد صديق. وبيروت 'شْلكّة'، كذّابة، ملوّنة... إنّها جميلة من الخارج وعفنة من الداخل. والقاهرة ندّاهة، لا تكذب، لا تقول لك أنا مدينة رائعة، تقول لك فقط: 'أنا هكذا... خذني كما أنا، أو اذهب إلى برلين'.

الكثير من الوجوه المتعبة، الكثير من الغبار والابتسامات الخافتة والأقنعة، إنّها القاهرة في لحظاتها الأخيرة، في اللون الأصفر الذي امتدّ طوال ساعتين من عرض الفيلم، وكأنّ المدينة في حالة غروب دائم.

'ابدأ من المنتصف'

أعاد المخرج تامر السعيد، في فيلم 'آخر أيّام المدينة' (2016)، ترتيب الواقع، من خلال كاميرا مرتبكة ووقحة في آن معًا، محاولًا البحث عن معنى الأشياء الحقيقيّ، بمشاهد متفرّقة غير مترابطة، كما يظهر للوهلة الأولى في الفيلم. لكن بعد مشاهدة الفيلم مرّة ثانية وثالثة، تكتشف ببساطة، أنّ المدينة ليست حكاية واضحة، ببداية ووسط ونهاية، إنّما حكايات متداخلة تلتقي مع بطل الفيلم، خالد، الذي اكتفى بمراقبة المدينة فقط، في مرحلة انهيارها.

قالوا لنا إنّها النهاية، أو هكذا أوحى لنا المخرج، لكنّها، في الحقيقة، لم تكن سوى إغلاق مرحلة، وافتتاح مرحلة أخرى... لكن، وعلى جميع الأحوال، أهلًا بكم في هذه الحفلة الكبيرة، الحفلة الأبديّة، الحفلة التي ليس لها باب خروج، الحفلة التي جئت إليها رغمًا عنك، وإذا شعرت بالتعب للحظة، عليك أن تستمرّ، لأنّه، وببساطة، لا يوجد أمامك حلّ آخر.

أراد خالد أن يصوّر فيلمًا عن القاهرة، لكنّ مشكلته الأساسيّة كانت في أنّه لا يعرف من أين يبدأ وأين ينتهي، إلى أن جاءت نصيحة صديقه العراقيّ، 'ابدأ من المنتصف'، وبالفعل، بدأ الفيلم وانتهى في المنتصف.

المدينة الفوتوجينيك

أربعة أصدقاء يشعرون بالغربة، وكلّ منهم يحاول الإمساك بروح مدينته، حسن (حيدر الحلو) من بغداد، وطارق (باسم حجر) من بغداد ويعيش في برلين، وباسم (باسم فيّاض) من بيروت، وخالد (خالد عبد الله) من القاهرة، اتّفقوا على أن يصوّر كلّ منهم مقطعًا من مدينته ويرسله إلى خالد لإكمال فيلمه.

ثمّة طريقتان لصناعة أيّ فيلم، إمّا أن تمشي وراء الفيلم، أو أن يمشي الفيلم وراءك. وفي فيلم مثل 'آخر أيّام المدينة'، لا يمكنك إلّا أن تمشي وراء الفيلم، لا سيّما وأنّها القاهرة، 'المدينة الفوتوجينيك'، كما قال عنها تامر السعيد في إحدى مقابلاته التلفزيونيّة. إنّها من أكثر المدن الغنيّة بصريًّا، ولا يوجد مدينة في العالم بها كمّيّة الصور التي في القاهرة، وإذا سكنت بها لفترة من الزمن، فإنّك لن تكون قادرًا على الرؤية!

إعادة تعريف

الحكاية ليست واحدة، ثمّة حكايات مركّبة ومتداخلة؛ خالد الذي يعيش في الماضي واكتفى بالمراقبة، وحنان التي تخشى الدخول في ذكرياتها وتحاول الهرب من صورة الإسكندريّة التي أصبحت منسيّة، وجلسات المسرح الدائريّة المليئة بالنظرات السارحة، وليلى، حبيبة خالد التي أصبحت هي الأخرى ذاكرة تنهش روحه، والتي كان حلمها أن تسافر معه لتستطيع تقبيله في الشارع، ففي هذه المدينة، نحن 'لا نفعل شيئًا سوى أن نختبئ'.

تشبه الشخصيّات حكاياتها، لا سيّما أنّ معظمها حقيقيّة، وهو ما ظهر في الفيلم من خلال اللقطات القريبة التي فضحت دواخل الشخصيات، وقد حاول المخرج، من خلال ذلك، إعادة تعريف الحياة، وهو لا يختلف كثيرًا عن تعريف الفنّ، أو المسرح على وجه الخصوص، كما جاء على لسان شخصيّة حنان، 'بتبقي شايفة الصور... لو انتي شايفة الصور كويّس، الجمهور هيشوفها كويّس، الحاكي إنت... مش مستخبّي ورا شخصيّة، يعني ولا ديكور ولا زمايل معاك، ولا مكياج، ولا أيّ حاجة، هو انت كدا طالعلهم'. وهو ما يشبه إلى حدّ بعيد تعريف القاهرة في الفيلم، على عكس بيروت تمامًا.

لماذا نحبّ القاهرة؟

كان خالد في رحلة بحث دائمة طوال الفيلم؛ البحث عن المعنى، وعن منزل يصلح للسكن، وعن صدفة تجمعه بليلى، وعن سيرة أبيه في ذاكرة 'أبلة فضيلة' التي لم تعد تذكره، بكلّ بساطة، والأهمّ من ذلك، البحث عن سؤال الفيلم الأساسيّ: لماذا نحبّ القاهرة؟ هل نحب مدننا حقًّا؟ أم إنّنا نكرهها؟ أم إنّ الأمر عبارة عن خليط من المشاعر التي تفسدها 'الأطر' التي نضعها لأنفسنا؟

أخلص الفيلم للحظته، لم تؤثّر الاضطّرابات التي حصلت في مصر على سير أحداثه، بل على العكس، لقد أصرّ المخرج على أن يكون الفيلم تابعًا للحظة التي يتحدّث عنها، إذ صوّر القاهرة من جوانب كثيرة، مثل مظاهرات حركة كفاية، وأعمال الهدم، والإسلاميّين والمانيكانات العارية على أبواب المحلّات، والأمن المركزيّ، وحالة الاضطّراب العامّ قبل انفجار الثورة المصريّة... وأضواء الشارع المضاءة في النهار!

كانت الحالة السياسيّة في مصر حاضرة بقوّة في الفيلم، من خلال نشرات أخبار الراديو في التاكسي؛ فمن إنجازات مبارك، إلى إنجازات ابنه جمال، فالحديث عن التوريث ودعمه للرياضة في مصر، فمباراة مصر والجزائر، فالإضرابات وتصريحات المسؤولين... كلّ هذه الخلفيّات الصوتيّة والضجيج المتواصل من الصراخ وزوامير السيّارات، هو ما شكّل مزاج المدينة، إلّا أنّ الفيلم من جهة أخرى، حظي بلحظات صمت طويلة، كانت كفيلة لسماع كلّ هذه الدوشة.

'أنا مش فاهم حاجة'

لا شيء واضحًا في هذا الفيلم، ليس روائيًّا وليس تسجيليًّا؛ ربّما الاثنان معًا، ممثّلون يؤدّون أدوارهم داخل الواقع كما هو، ومشاة حقيقيّون ينظرون إلى الكاميرا مباشرة، والمشاهد غير مترابطة بالطريقة التي ننتظرها من الفيلم الذي 'اعتدنا على مشاهدته'، وهو ما تجمّع أخيرًا في عيون المونتير التائهة أمام كلّ هذه المشاهد غير المترابطة، حين قال لخالد: 'أنا مش فاهم حاجة... المشاهد مش مترابطة، أنا حاسس إنِّ عمري بيضيع'. كان هذا أمام جهاز المونتاج، لكن، ومن جهة أخرى، أليست هذه هي القاهرة على حقيقتها؟

بغداد: مدينة بلا لون، الحرب التي لا تنتهي، الأمّهات اللواتي يحذّرن أطفالهنّ من التعثّر بالجثث قبل الذهاب إلى المدرسة، المدينة التي تظهر صورها في نشرات الأخبار، التفجيرات والانتحاريّون والسيّارات المفخّخة. وبيروت: حزن جبان، الاختناق أمام البحر، القصص المخبّأة في العلب السكنيّة. والقاهرة: المكان الذي يضيع فيه العمر هباء، وسط البلد، شرايين المدينة التلقائيّة، القهر والتعب والحياة بكامل تفاصيلها.

الإسكندريّة، المدينة المنسيّة، المدينة التي هدمها صاحبها ليبني بدلًا منها 'مول كبير'، المدينة التي تستطيع الإمساك بها، عندما تسرق الكاميرا لقطة لعيني حنان السارحتين، بينما تحاول هي، بكلّ الطرق، تجنّب الحديث عنها.

وهناك أمّك، ممدّدة بكامل أناقتها على سرير أبيض وميّتة، والنافذة مفتوحة، وأمام كلّ هذا الخراب... ليس عليك إلّا أن تراقب.

وهناك برلين... فاهرب إليها أيّها الجبان إذا أردت.

وأمّا الشعر، فهو في كلّ مكان، في انتظار من يكتبه.

***

بطاقة الفيلم:

آخر أيّام المدينة (2016).

إخراج: تامر السعيد.

روائيّ، 118 دقيقة.

مصر، ألمانيا، المملكة المتّحدة، الإمارات العربيّة المتّحدة.

بالعربيّة (مترجم للإنجليزيّة).

باشتراك: خالد عبد الله، وليلى سامي، وحنان يوسف.

مركز مدينة القاهرة، 2009. خالد، مخرج في الـ 35 من عمره، يكافح لصناعة فيلم يلتقط روح مدينته، خلال مواجهة تكبّده خسائر في حياته الخاصّة. بمساعدة أصدقائه الذي يرسلون له تسجيلات من حيواتهم في بيروت، وبغداد، وبرلين، يستمدّ القوّة التي تدفعه إلى مواصلة خوض صعوبات الحياة وجمالها في آخر أيّام المدينة.

 

نوّاف رضوان

 

 

شاعر ومحرّر. درس اللغة العربيّة وآدابها في الجامعة الأردنيّة. يعمل محرّرًا في موقع عرب 48. صدرت له مجموعة شعريّة بعنوان 'الصلاة الأخيرة على بوّابة الكنيسة' (2013). حاصل على المركز الأوّل في جائزة الشعر من الجامعة الأردنيّة. مهتمّ بالتصوير والسينما.