"قدرات غير عاديّة": استفزاز داوود عبد السيّد المستمرّ

نجلاء بدر

ليست أفلام داوود عبد السيّد من النوع الذي يمكن مشاهدته على عجل، أو التي تقطع نهارك المثقل لتعاود الانشغال بها بعد ذلك، إذ تدرك أنّك أمام عمل يستحقّ استراق وقت هادئ وصاف، لأنّك ستكون على موعد مع رحلة سفر ما، ومع إبداع جديد سيستفزّ مخيّلتك وأفكارك بلا شكّ. وأنا، هنا، لست بصدد الكتابة عن فيلم من 'أفلام المقاولات' التجاريّة (لا الشعبيّة) الطاغية على معظم المشهد السينمائيّ المصريّ، في سنوات ما بعد الثورة، لتكتشف بعد مشاهدة العمل الأخير لعبد السيّد، أنّك نلت ما توقّعت من عمق باطنيّ ورمزيّ.

عالم عبد السيّد

يحيلك الحديث عن الفيلم الجديد، من دون خيار، إلى عالم داوود عبد السيّد، وهو عالم سينمائيّ مليء بالأسئلة الفلسفيّة، الوجوديّة بخاصّة، وينمّ عن رؤى فكريّة. كيف لا، وأنت أمام صاحب 'الكيت كات' (1991)، و'البحث عن سيّد مرزوق' (1991)، و'أرض الخوف' (1999) للكبير أحمد زكي؟

لا يمكن لشخصيّة مثل يحيى أبو دبّورة أن تُنسى، ضابط المباحث الذي زرعته أجهزة الأمن بين تجّار المخدّرات بصورة تمويهيّة، للإيقاع بهم. وكيف يعيدنا عبد السيّد مع الأحداث إلى سؤال المربّع البدائيّ الأوّل، حول منطلق الالتزام الأخلاقيّ للإنسان: أهو الضمير الذاتيّ أم الخوف من العقاب؟ (وكأنّ الاسم الحركيّ للضابط آدم إشارة رمزيّة إلى هذا المربّع الأول، مع الاستعانة بموسيقى تصويريّة لا تُنسى). بعد يحيى في 'أرض الخوف' (1999)، والدكتور يحيى في 'رسائل البحر' (2010) (الذي حال القدر دون أن يؤدّي شخصيّته الراحل أحمد زكي، ليجسّدها الممثّل الشابّ آسر ياسين)، نقابل دكتور يحيى جديدًا (خالد أبو النجا)، لنكتشف أنّه ليس جديدًا تمامًا، فهو استمرار للأسئلة العميقة؛ فتشابه الأسماء ليس صدفة، إذ لا يعرف عالم عبد السيّد الصدف.

أسئلة وجوديّة

يقرّر دكتور يحيى الرحيل بعد أن ينتابه الفشل المهنيّ في البحث العلميّ حول الأشخاص ذوي القدرات 'غير العاديّة'، مثقلًا بعجز العثور عليهم، وبعد إلزام مشغّليه له بأخذ 'استراحة'. ينتهي به الأمر، نتيجة لذلك، نزيلًا في 'بنسيون' على شاطئ البحر، مع مجموعة صغيرة من النزلاء الذين يمثّل كلّ منهم عالمًا مختلفًا عن الآخر، ومع ذلك، يتمكّنون من نسج علاقات اجتماعيّة جيّدة.

يقابل دكتور يحيى فريدة، الفتاة الصغيرة ابنة صاحبة 'البنسيون'، وحياة المطلّقة، بطلة الفيلم التي أدّت دورها بإتقان نجلاء بدر، ليكتشف دكتور يحيى، شيئًا فشيئًا، أنّ الطفلة فريدة فريدة حقًّا، في قدراتها غير العاديّة، على المستويين؛ الذهنيّ والفيزيائيّ، فتنبّؤاتها لا تخطئ أبدًا، كما أنّها تمتلك قدرة تحريك الأشياء فيزيائيًّا من دون لمسها، كما يقع يحيى في حبّ حياة، أمّ فريدة.

نحلّق أثناء رحلة السفر هذه مع يحيي، في أسئلة وجوديّة عميقة يطرحها عبد السيّد، كعادته، برمزيّة بالغة، تجعلك مهتمًّا بكلّ تفصيل وحركة في الفيلم، فلكلّ منها هدف وغاية، تضطّرّ إلى تفكيك وتعريب كلّ منها على حدّة، ثمّ تعاود جمعها بتناسق وشموليّة حتّى تكتمل الصورة، وتكون أشمل من مجموع أجزائها.

سرّ البحث

تحيلنا هذه المشاهد إلى التساؤل، مع د. يحيى، حول مفهوم 'القدرات غير العاديّة' وسرّ بحثنا عنها لدى الآخرين، ليقع د. يحيى بعد ذلك في مجموعة من الأحداث التي تثير لديه المزيد من التشكّك؛ فمثلًا، معظم الحوادث 'غير العاديّة' التي رأى فريدة تقوم بها، كانت بحضوره، وهو ما أحاله إلى التساؤل، بعد ذلك، إن كان لحضوره تأثير فيها، ليتغوّل بعد ذلك في الأسئلة الأكثر عمقًا، في محاولة منه للوصول إلى حقيقة هذه القدرات؛ هل هي موجودة حقًا؟ أم أنّه هو من يراها كذلك؟ ربّما كانت موجودة داخله هو، لا سيّما عند ملاحظة هذا الأمر على نفسه، ليكتشف بعد ذلك، أنّه ليس أكثر من 'إنسان عاديّ' يبحث عن غير العاديّ لدى الآخرين.

إنّها رحلة عميقة، يعوم معها المشاهد، بمؤثّرات صوتيّة ذكيّة، ومشاهد مصوّرة أشبه بأن تكون لوحات فنّيّة أُخْرِجَتْ بعبقريّة، وحركة كاميرا متقنة ومعبّرة، وكأنّ هذه الكاميرا جزء لا يتجزّأ من حوار داوود عبد السيّد.

المراقبون متشكّكون دومًا

مسار البحث والمراقبة هنا مسار ضروريّ، كما كان مسار الراعي سانتياغو ضروريًّا لدى باولو كويلو في رواية 'الخيمائيّ'، لاكتشاف 'أسطورته الشخصيّة'.

داوود عبد السيّد

يعود د. يحيى إلى ذاته أثناء بحثه عن قدرات الآخرين غير العاديّة. إنّه تكامل قدرات الذات مع الآخر؛ فالأشياء الجميلة، نكتشفها، عادة، ونحن نبحث عن غيرها. إنّه الخروج من الذات إلى الآخر، والعودة إليها مجدّدًا، وإعادة تكوينها وإنتاجها، وبداية الطريق التشكّك والمراقبة، وهو ما جاء في أحد حوارات الفيلم، عندما قال شيخ المولد ليحيى إنّ 'المراقبين دومًا متشكّكون'، ومَنْ يشاهد أفلام عبد السيّد يعرف أنّ المراقبة جزء من عالمه في معظم أفلامه.

ثمّة سلطات وقوى كثيرة تسعى، عادة، لإحباط اكتشافنا لذاتنا، مثل سلطة الأمن التي تلاحق فريدة لاستغلالها، والسيطرة عليها، والاستفادة من قدراتها. وسلطة الظلم والتزمّت المجتمعيّ التي تلاحق حياة وموهبتها، وتلاحق السيرك المتنقّل، والذي يرمز إلى الحالة المصريّة.

يُعلي هذا العمل من شأن الحبّ والبحث عن جماليّات الحياة المختلفة، وكأنّ اكتشافها وممارستها هو القدرة 'غير العاديّة' الأهمّ، والتي استطاع من خلالها المخرج توظيف الإشارة إلى لعبة 'السيرك' والألوان المنتقاة بذكاء، وخلفيّة قاطني 'البنسيون' الفنّيّة.

لم أستطع إبعاد بعض مشاهد 'ماتريكس' من ذهني أثناء مشاهدة الفيلم، ربّما لم يقصد عبد السيّد ذلك، لكنّ مشهد التحريك الفيزيائيّ للأشياء من دون لمسها، والبحث عن 'القوّة الخارقة' التي قد تكون داخلنا، وتحاول قوّة المنظومة القامعة لجمها، أحالتني إليها.

أثقل من المعدّل

ربّما تكون الرمزيّة الزائدة التي استخدمها عبد السيّد سببًا لعدم انتشار الفيلم جماهيريًّا، وكذلك طول الفيلم الذي يزيد عن الساعتين، واعتماده الإيقاع البطيء للأحداث (لا سيّما في النصف الأوّل من الفيلم)، ما جعل عمله أثقل من المعدّل.

مريم تامر وخالد أبو النجا

يبقى فيلم 'قدرات غير عاديّة'، على الرغم من ذلك، عملًا خاصًّا، يضاف إلى عالم داوود عبد السيّد الذي ينتمي إليه بامتياز، وعلى الرغم من التحوّلات الجارية في صناعة السينما، وأفول نجمها بعد 25 يناير لصالح التلفزيون، لأسباب تجاريّة ربحيّة (هذا ما يفسّر اتّجاه كبار الفنّانين، مثل عادل إمام، ومحمود عبد العزيز، وغيرهم، إلى الدراما التلفزيونيّة على حساب السينما).

نجح داوود عبد السيّد في استفزاز عقولنا وفكرنا مجدّدًا، عبر عمل يستحقّ المشاهدة والنقد، لنبقى عطشى للمزيد من الاستفزاز من هذا المبدع.

 

 

خالد عنبتاوي

 

 

من مواليد شفاعمرو في فلسطين، طالب بحث في العلوم الاجتماعيّة. حاصل على بكالوريوس في علم النفس والاجتماع والإنسان من جامعة 'بن غوريون' في النقب، وماجستير في العلوم السياسيّة من جامعة حيفا. ناشط سياسيّ واجتماعيّ. نشر عددًا من الموادّ السياسيّة في عدد من المنابر والإصدارات.