الفاتح يغزو قلب باريس!

المخرج محمّد حميدي، والممثّل فاتح بوي أحمد، والبقرة جاكلين | Jean-Claude Lother

تحوّلت رحلة فاتح، في حالة من الهذيان، إلى سيرة احتلال سلميّ لفرنسا؛ احتلال أنيق، يغرقنا بالمشاعر والدموع، لكنّه لا يخلّف أيّ قطرة دم. التاريخ لا يعيد نفسه، لكنّ الأحداث تدور وتنقلب.

بعيدًا جدًّا عن مركز العالم، يخرج فاتح (الممثّل فاتح بوي أحمد) من قريته الجزائريّة الوادعة، النائية، البسيطة، الساذجة، التقليديّة، بولعيون، في رحلة لاحتلال فرنسا! يقود كتيبته 'جاكلين'، التي تدوس بأقدامها الأربعة الأرض الفرنسيّة، من مارسيي حتّى باريس، وهناك يتربّع القائد الفاتح على عرش قلوب الفرنسيّين.

الأنيسة الرفيقة

ربّما لم يشأ المخرج الجزائريّ، محمّد حميدي، أن يثقل فيلمه، 'البقرة' (91 دقيقة، 2016)، بهذا الكمّ من الرمزيّة، لكنّ تفسيرًا كهذا يبدو مغريًا، ولا سيّما أنّ المفارقات الكوميديّة تفتح فضاءات واسعة للتحليل، وآفاق غنيّة بالخيال، ولا يبقى لنا سوى جمعها ومشاهدة الفيلم من خلالها.

تتكرّر الفكرة السينمائيّة التي تتحوّل فيها الحيوانات إلى رفيق سفر لإنسان مغامر، وليست جاكلين، تحديدًا، أولى البقرات. لكن بعيدًا عن دراما 'البقرة' من العام 1969، للإيرانيّ داريوش ماهرجوين، حيث تتحوّل إلى 'ابنة' لصاحبها حسن الذي لم يرزق بالأولاد، ويكون فراقها محور الفيلم، فإنّ حميدي جعل البقرة جاكلين أنيسة لفاتح ورفيقة له في سفره ومغامراته، لها معناها وحضورها، من دون أن تنافسه على دور البطولة.

تحدٍّ عظيم

فاتح فلّاح بسيط، تنحصر ممتلكاته في قطعة أرض صغيرة جدًّا، وبقرة يعتني بها أشدّ عناية. أمّا عائلته فصغيرة، تتألّف من زوجة وابنتين. وهو لا يكفّ عن التسجيل للمشاركة في معرض الزراعة السنويّ الفرنسيّ، ويُرفض كلّ عام، إلّا أنّ مثابرته جعلت اللجنة ترغب في منحه وجاكلين فرصة هذه المرّة، شرط أن يكون السفر على حسابه.

فاتح الفقير لا يملك سوى بقرته، لكنّه مصرّ على السفر، هذا الأمر النادر، والغريب، والطارئ، يستدعي اجتماعًا من رجال القرية للبتّ في المسألة، فيجتمعون ويتّخذون قرارًا بجمع المال وشراء تذكرة سفر بالسفينة لفاتح وبقرته، وبذلك يحمّلهما أهل القرية مسؤوليّة 'تمثيلهم' بفخر في فرنسا! قرار يحوّل كلّ سخريتهم من علاقة فاتح بجاكلين إلى تحدٍّ عظيم الشأن.

كوميديا

تنطلق الرحلة ونجتاز مساحات تنجلي فيها كنوز الطبيعة الجزائريّة الساحرة. يحطّ فاتح وجاكلين في مارسييي، وينطلقان في رحلة سير على الأقدام وصولًا إلى باريس. مثل معظم أفلام السفر والتجوال، ترتبط قيمة الرحلة بما يلاقيه البطل من متاعب، لكن متاعب فاتح غارقة بالكوميديا، ما لا يترك لنا مجالًا إلّا لنتماهى معه، ونحبّ سذاجته، وننتظر فوزه الذي يبدو متوقّعًا في فيلم كهذا، لكنّ حنكة السيناريو جعلت الجائزة الحقيقيّة تكمن في اكتشافات فاتح على مدار أيّام من رحلته. 

وهل يمكن للفيلم أن يكون كوميديًّا من دون الزجّ بالبطل في الزوايا المظلمة؟ ففاتح المؤمن يقع في فخّ الثمالة والنساء، وشخصه الساذج يقع في فخّ المزارعين الثائرين على الحكومة، وحبّه المفرط لبقرته يجعلها تلاقي حكمًا بالإعدام!

لا تملك قرية بلعيون أيّ ملامح عصريّة، سوى مواطن واحد يملك حاسوبًا، وشبكة إنترنيت، وطابعة. ولتكون المفارقات حاضرة، فإنّ أكبر هفوات فاتح سرعان ما تنجح بالوصول إلى كلّ عين في القرية: صورته وهو يقبّل امرأة فرنسيّة!

أفكار استشراقيّة

لا يخلو الفيلم من بعض الأفكار الاستشراقيّة، والنظر بنوع من الدونيّة إلى المجتمعات العربيّة، إلّا أنّ كثيرًا من الذكاء المبذول في التفاصيل يجعلها تبرز حجّةً لنقد المجتمعين العربيّ والغربيّ. فالمجتمع القرويّ يظهر بائسًا، وضيّق الأفق، يبدي فيه الرجل ودًّا وحبًّا لبقرته أكثر ممّا يبديه لزوجته، ويسارع فيه لامتلاك امرأة حالما يغيب زوجها عن الأنظار، مجتمع يجترّ بعض المعرفة وينقلها من جيل إلى آخر.

لم أختلط يومًا بالمجتمع الفرنسيّ ولا أعرفه، لكنّ الفيلم يجعله يبدو 'مثلنا'؛ فالفرنسيّ في الفيلم صديق مخلص، وإنسان شهم، ومضياف. في كلّ محطّة يتوقّف فيها فاتح يلتقي بفرنسيّين سرعان ما يبادلونه الودّ، ويقدّمون له العون، بالمأوى، والطعام، والشراب، ويتجنّدون ليساعدوه في تحقيق حلمه، وهو نموذج مخالف لحسن (الممثّل جمال دبوز)، نسيب فاتح المغترب، الذي يحاول جاهدًا منع فاتح من تحقيق حلمه.

 

مِجْهَر

دقائق الفيلم الأخيرة تولّد لدى مشاهده حنينًا عميقًا للتآلف، وتجنّد الجميع من أجل شخص واحد. يتجسّد هذا عندما يتابع أهل القرية، والجزائريّون المغتربون، مسيرة فاتح عبر الإعلام، الذي يجد فيه فريسة سهلة وقصّة مثيرة لزيادة نسب المشاهدة. إنّ رفع الأعلام، والهتاف، ومشاعر الانتماء الفطريّة، والاحتفالات الشعبيّة، توقظ الشعور بالحاجة إلى الفخر بأبناء الوطن، فإنجازاتهم لهم، والفرح للجميع.

فيلم جميل، ليس متحذلقًا ومعقّدًا، لكنّه ليس سطحيًّا أيضًا. فيه الكثير من الرمزيّة المبطّنة حول العلاقة التاريخيّة الجزائريّة – الفرنسيّة. في نصّه مجهر ينخر في التفاصيل ويراها، يفكّك مركّبات المجتمع، ويناقش معانيها من خلال حوارات قصيرة وفكاهيّة.

ليست مسيرة الفيلم رحلة لمعرفة الذات، بل انطلاقة من الذات نحو الأفق البشريّ الواسع.

 

سماح بصول

 

تسكن في الرينة، شمال فلسطين. صحافيّة، محرّرة 'دوغري نت' بالعربيّة، ومركّزة مشروع الإعلام العربيّ في مركز 'إعلام'. حاصلة على البكالوريوس في اللغة العبريّة وأدبها، طالبة ماجستير في ثقافة السينما.