ما لم تحتمله ريجيف في "فوكستروت"

من فيلم "فوكستروت"

'إسرائيل لا تتصرّف بهذا الشكل، مستحيل!' قال الرجل الذي جلس على بعد مقعدين منّي بصوت مسموع، في صالة عجّت بالحضور. نظرت يميني لأراه، كان يتقلّب في مقعده، وينقر بأظافره على حافّة المقعد توتّرًا. ابتسمت وقلت في قرارة نفسي: 'فظّعتوا بمخيّم جنين!'

معادٍ لإسرائيل!

مضى شهر منذ بدأ عرض فيلم 'فوكستروت' للمخرج شموليك معوز، مصحوبًا بحرب تشنّها وزيرة الثقافة الإسرائيليّة، ميري ريجيف، ضدّ الفيلم، ومخرجه، وأبطاله. في الوقت نفسه، وبعد فوزه بجائزة أفضل ممثّل في مهرجان 'أوفير'، أغرق الجمهور الإسرائيليّ الممثّل ليئور أشكنازي بالشتائم وأمنيات الموت له ولطفلته، التي تبلغ الخامسة من العمر، عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ، فما الذي يحتويه هذا الفيلم 'المعادي لإسرائيل'، كما وصفته ريجيف، ليستدعي هذا الكمّ من الكراهية؟

'فوكستروت' اسم رقصة بلغت أوج نجاحها في ثلاثينات القرن الماضي، وتتميّز بانحصار خطواتها الثماني في مربّع يكرّر نفسه، والفيلم المثقل بالرمزيّة والهذيان، يحصر المجتمع الإسرائيليّ في مربّع أيضًا، تتألّف أضلاعه من الكارثة، والاحتلال، والموت، والتوثيق.

في فيلمه الثاني بعد 'لبنان' (2000)، ترتكز قصّة شموليك معوز في 'فوكستروت' على الإسرائيليّ المجنّد، وما يحيط الخدمة العسكريّة من جوانب مظلمة، لكنّه يضيف للثكنة العسكريّة مجتمعًا يتغذّى من ثقافة الثكلان، والفقد، والبيروقراطيّة، والمحسوبيّات، والشعور بالذنب، وكلّ هذا في قالب ناقد، ما يثير حفيظة المجتمع.

جنازات رتيبة

تبدأ قصّة الفيلم عند تلقّي عائلة فيلدمان خبر وفاة ابنها المجنّد، تنهار أعصاب الوالدة، بينما يحاول الوالد الحفاظ على رباطة الجأش. مشهد البداية شيفرة اختبرها المجتمع الإسرائيليّ كثيرًا، فوصول شخصين بملابس عسكريّة إلى بيت ما، يعني حدوث كارثة.

يدخل عسكريّ إلى صالة البيت ويبدأ بالتحدّث إلى الوالد عن مراسم الدفن الرتيبة، التي لا مكان فيها للمشاعر، ولا للذات، ولا للخصوصيّة؛ مأتم كبير لكنّه منظّم بدقّة، كلّ شيء فيه مدوّن مسبقًا، تكرار للخطوات واحتساب دقيق للوقت.

ميري ريجيف

مشهد يتضمّن نقدًا واضحًا لمنظومة عسكريّة تستمرّ نشاطاتها في حصد الأرواح، وتتكرّر فيها مراسم الدفن، حتّى في اختيار نصّ إعلان الوفاة، والرثاء، والمقاطع التوراتيّة. وثمّة سيناريو معدّ مسبقًا: 'يمكنك حمل التابوت، لكن من الأفضل أن تبقى إلى جانب زوجتك لتواسيها خلال الجنازة'.

عوج

وفي مكان ناءٍ، يقوم حاجز عسكريّ؛ غرفة من الصفيح، تعيد الأذهان بتصميمها إلى أربعينات القرن الماضي. حاجز بدائيّ، حواسيب تعود لفترات زمنيّة غابرة، تفاصيل لا تمتّ للحاضر بصلة سوى الجنود وألعابهم الإلكترونيّة.

يجلس الجنود في غرفتهم، يحاول أحدهم إقناع زملائه بأنّ الغرفة تميل من أحد الأطراف. يدحرج علبة المأكولات المعلّبة التي يشتهر بها الجيش الإسرائيليّ، 'اللوف'، فتصل من طرف إلى اخر في ثماني ثوان، وفي اليوم التالي تصل في سبع ثوان، فيجزم: 'نحن نصاب بالعوج أكثر يومًا بعد يوم'. وهي رسالة مبطّنة حول ما يصاب به الجنديّ خلال أداء خدمته العسكريّة.

الجنديّ فيلدمان بارع في الرسم، يوثّق يوميًّا شيئًا ما في دفتره، لتتحوّل هذه الرسومات في ما بعد إلى شاهد وحيد على مجزرة!

يصل العرب على نحو متقطّع إلى الحاجز، يوقفهم الجنود، يفحصون هويّاتهم، ثمّ يفتحون الحاجز أمامهم للمرور. لا نسمع صوت أيّ من الشخصيّات العربيّة، لكنّنا نسمع ونقرأ لغة عيونهم وأجسادهم، لغة تنمّ عن خوف، وإحباط، وتعاسة، وإرهاق.

الأخ الأكبر يراك!

في إحدى الليالي، تصل سيّارة تقلّ أربعة أشخاص، شابّين وصبيّتين غارقين في الضحك. تغيب ضحكاتهم كلّيًّا عند فحص الهويّات، حتّى يتبيّن أنّهم أناس عاديّون لا يشكّلون أيّ خطر، وقبل السماح لهم بالمرور، يقول أحد الجنود للصبيّة الجالسة قرب السائق: 'فستانك عالق خارج الباب'، وما أن تفتح الباب لتحرير فستانها حتّى تتدحرج من السيّارة علبة مشروب من الصفيح، تثير هلع أحد الجنود فيصرخ: 'قنبلة!' ليفتح مع زملائه النار على السيّارة بمن فيها.

خلال لحظات، تحضر الآليّات العسكريّة وتحفر حفرة كبيرة في الأرض، تُدفن السيّارة بمن فيها لإخفاء آثار الجريمة، لكنّها تبقى محفورة وموثّقة في دفتر الجنديّ فيلدمان، الذي يرسم وجه الفتاة وهي تحدّق بالجنود، وجرّافة تحمل سيّارة. يُصوّر مشهد دفن السيّارة من أعلى (Bird Eye)، وكأنّ المخرج جاء ليقول للجيش: أنا أراك، والأخ الأكبر يراك.

يتّضح للجيش لاحقًا أنّهم، ولتشابه في الأسماء، أخطؤوا في إعلام عائلى فيلدمان بموته، فتطالب العائلة بعد هذا الموقف باستعادة ابنها وإعفائه من الخدمة. في طريقه إلى البيت، محمّلًا بالخطيئة، يتعرّض الجنديّ فيلدمان لحادث طرق ويلقى حتفه، فيحظى بجنازة عسكريّة ومراسيم، تمامًا كما هو مخطّط في ذهنيّة شعبه.

مرآة

يناقش الفيلم من خلال حوارات الشخصيّات والمونولوجات، ممارسات المنظومة السياسيّة والعسكريّة الإسرائيليّة، فينتقد بصورة لاذعة نصّ التعازي بموت الجنود، والسيرورة البليدة التي تُعلم بها العائلات بموت أولادها، ويضرب بسوطه وحشيّة الاحتلال وخطورة ممارسات جيشه، والفظائع التي يرتكبها جنوده في المناطق الفلسطينيّة المختلفة، ويعيد صياغة التساؤلات حول الفائدة من استمرار احتلالها.

ليس هذا الفيلم مناصرًا للفلسطينيّين، لكنّه يراوغ ويتحدّى المجتمع الإسرائيليّ، فيضع المرآة أمام عيون المشاهدين ليروا فترة ما في حياتهم، وفترة ستمرّ في حياة أولادهم، وربّما أحفادهم.

ربّما يرى الإسرائيليّ نفسه ضحيّة في فيلم كهذا، ضحيّة نفسه وممارسات قياداته، لذا لا تروق له مشاهدة ما يطالبه بإعادة التفكير بالمسلّمات، والاحتلال، وحتميّة إنهاء الصراع.

*****

فوكستروت (2016):

إنتاج: إسرائيل، وألمانيا، وفرنسا، وبلجيكا.

إخراج: شوليك معوز.

ممثّلون رئيسيّون: ليؤور أشكنازي وسارة أدر.

مرشّح لـ 13 جائزة في مهرجانات مختلفة.

 

سماح بصول

 

تسكن في الرينة، شمال فلسطين. صحافيّة، محرّرة 'دوغري نت' بالعربيّة، ومركّزة مشروع الإعلام العربيّ في مركز 'إعلام'. حاصلة على البكالوريوس في اللغة العبريّة وأدبها، طالبة ماجستير في ثقافة السينما.