جميل راتب... ابقَ حيث "الأشرار" يمثّلون!

جميل راتب في فيلم "لورنس العرب" (1962)

 

لا نزال نفجع مرّة تلو أخرى، عند سماع نبأ رحيل مثقّف أو فنّان أيقونيّ، وكأنّ حبّات عقد الأيقونات الفنّيّة، الّتي توهّجت وأسهمت في الإنتاج الثقافيّ، في فترة ما بعد منتصف القرن الماضي، باتت تنفرط واحدة تلو واحدة؛ لنتساءل مجدّدًا عن دوافع حزننا الشديد لكلّ فقدٍ جديد: هل قدرنا أن نحنّ إلى أيّ ماضٍ ونسمّيه جميلًا؛ كي نحمي أنفسنا من واقعنا الرديء عربيًّا؟ أم أنّه حقًّا كان ثمّة ما هو استثنائيّ وغير عاديّ في مسيرة هذا الفنّان وما قدّمه، يجعله جديرًا بمكان مخصّص له في الوعي الجمعيّ السينمائيّ والثقافيّ؟ أم أنّ هذه الأيقونات كانت ستُخلق بغضّ النظر عن شخوصها؛ كونها نتاجًا لوسيط يفعل ضمن إطار ثقافة جماهيريّة، تبحث دومًا عن نجم أو أيقونة تخلقها؛ لتشكّل من خلالها معادلًا علمانيًّا للآلهة القديمة؛ وفقًا لإدغار موران، الفيلسوف والباحث الاجتماعيّ الفرنسيّ؟

 

الخجول المنطوي

"والله نشأت في عيلة بيقولوا عليها أرستقراطيّة... كنت إنسان خجول ومنطوي، ومش كويّس في العالم الأرستقراطي ده؛ لأنّه كان بعيد عن الشعب"، هكذا بدأ الحديث عن نشأته، في واحد من أواخر لقاءاته التلفزيونيّة، الممثّل المصريّ جميل راتب (1926 - 2018)، الّذي رحل عن عالمنا قبل أيّام قليلة، مخلّفًا وراءه ما يقارب سبعين فيلمًا عربيًّا، وعشرات المسلسلات العربيّة، إلى جانب العشرات من الأفلام والمسرحيّات الأجنبيّة، باللغتين الإنجليزيّة والفرنسيّة، الّتي شارك فيها بالخارج، في فترة وجوده في فرنسا، بين منتصف الأربعينات ومنتصف السبعينات، قبل عودته إلى مصر.

 

جميل راتب الطفل مع والدته

 

قد تقودنا هذه الجملة - الّتي اختار أن يصف بها نفسه، وقد تخطّى عامه التسعين حينئذٍ - إلى فهم شخصيّة من أُسند إليه، منذ دخوله سوق الفنّ المصريّ، أدوار "الشرّير الأنيق"! لم يدرك ذلك الشابّ، الّذي بدّد خجله وانطواءه على خشبة المسرح المدرسيّ، ووجد من ينصت إليه لأوّل مرّة – وفقًا لحديثه – أنّه سيصبح، يومًا ما، أيقونة من أيقونات التمثيل في الوطن العربيّ.

 

الشرّير الشعبيّ والأرستقراطيّ

عند مراجعة مسيرة جميل راتب الفنّيّة، نرى أنّ تجاربه في السينما العربيّة، والمصريّة تحديدًا، تؤكّد من جديد، أنّ ثمّة جاذبيّة غير اعتياديّة لمن يُعرفون بممثّلي الأدوار الشرّيرة، الّذين عادة يصنَّفون تجاريًّا على أنّهم نجوم صفّ ثانٍ، لكنّهم في معظم الأحيان "يخطفون" المشهد من الممثّل الأوّل في الفيلم، لو جمعهم كادر واحد.

كان من قبله – مصريًّا - محمود المليجي وتوفيق الدقن وزكي رستم، لكن راتب رسم لنفسه خطًّا متفرّدًا في الأداء. إنّ الوحيد الّذي ينافسه في نفس المساحة الفنّان الراحل عادل أدهم؛ لما يجمعهما من أصول أرستقراطيّة، وتراوح أداء شخصيّة الشرّير، بين الأداء الشعبيّ والأداء الأرستقراطيّ.

 

 

أتوقّف في تجربة جميل راتب الطويلة، عند دورين سينمائيّين مهمّين قدّمهما في فترة الثمانينات، يندرجان تحت خانة الـ "شرّير"، ولا يزال اسما الشخصيّتين محفوظين في أوساط محبّي السينما المصريّة؛ دلالة على نجاحهما في قطاعات جماهيريّة عريضة، لم تعاصر بالضرورة فترة إنتاج الشريطين، وهذا أجمل ما في السينما! تنتمي كلّ شخصيّة إلى طبقة اجتماعيّة مختلفة؛ الأمر الّذي يبرز مدى فهم ممثّلنا الراحل، للتكوين النفسيّ والاجتماعيّ للشخصيّات الّتي يؤدّيها، وتأثير ذلك في أدائه، ونبرة صوته، ولغة جسده.

 

نبيه بيه الأرابوطلي

نبيه بيه الأرابوطلي في فيلم "البداية" (1986)، لصلاح أبو سيف، يمثّل النموذج الكلاسيكيّ للديكتاتور أينما وجد، وهو رجل أعمال متنفّذ، لم نعرف كثيرًا عن خلفيّته، وربّما لم يرغب المخرج أكثر من ذلك؛ ليستطيع تقسيم أدوار شخصيّات الفيلم الفنتازيّ؛ لتنوب كلٌّ منها عن فئة في مجتمعٍ وليد، بعد أن سقطت طائرة في صحراء نائية.

يجسّد راتب رجل السلطة، الّذي يسعى إلى الاستيلاء على موارد الأرض، والاستفراد بها؛ عن طريق اجتذاب الفلّاح، والمحارب، والنساء، والتحريض على المثقّف أحمد زكي، أو المعارضين من "الغلابة" المتضرّرين من أحكامه. ما يحرّكه المادّة والبقاء في السلطة.

 

 

وظّف راتب في هذه الشخصيّة أداءه الأرستقراطيّ، المائل إلى جنون العظمة، المرتكز على المهادنة وردّات الفعل الحادّة، وطريقة تقطيعه للجمل وتنغيمها الساحر، وأحيانًا إضافة بعض الكلمات الفرنسيّة، غير متخلّ عن بدلته وربطة عنقه، ليكون بطل العمل الحقيقيّ، "يسرق" فيه أيّ مشهد يظهر فيه، وإن كان أمام من يُعَدّ وحش تمثيل مثل أحمد زكي، فيستطيع أن يمرّر أنّه أرستقراطيّ أو ديكتاتور، لكن ثمّة "غلبان" بداخله (هارب من العالم الأرستقراطيّ كما ذكر أعلاه)، يخاف من الناس، ويظهر أوّل ما يتجرّد من نفوذه وحمايته.

 

البهظ بيه

أمّا دور البهظ بيه في فيلم "الكيف" (1985)، لعلي عبد الخالق، فهو نموذج لشخصيّة غير سويّة أخرى، تاجر مخدّرات ساديّ، آتٍ من بيئة شعبيّة، وتتيح لنا حبكة الفيلم الواقعيّ ذي اللمسة الفلسفيّة فهم خلفيّته؛ إذ ابتدأ تاجر شاي وبنّ ودخّان مغمورًا، وتعلّم تدريجيًّا ما يعجب الناس وكيف يغويهم، إلى أن وصل إلى ما هو عليه، أحد أكبر تجّار المخدّرات في مصر.

إنّ الملحوظ في أداء جميل راتب في هذا الشريط، إيقاع كلامه الأكثر بطئًا وثقةً، مقارنة بشخصيّة الأرابوطلي، يعتمد طبقة صوت أكثر انخفاضًا وعرضًا "باز"، تزيد أهمّيّتها لدى إطلاقه أيّ ضحكة، ويعتمد تحريكًا أقلّ لفكّه السفليّ؛ دلالة على عدم التردّد وعلى البرود الشديد، ولو دقّقنا في طريقة تدخينه للسيجارة وإمساكه بها، لرأينا أنّها تختلف عن طريقة إمساك شخصيّة الأرابوطلي في فيلم" البداية" للسيجار.

 

 

هو "سايكوباتي" كما أطلق عليه صلاح الكيميائيّ (يحيى الفخراني) في الفيلم، يجيّر كلّ الحجج الواهية، ويستدعي التاريخ والأصول الفرعونيّة؛ لإثبات أنّ صحّة المصريّين على ما يرام، ولا تتأثّر بأيّ موبقات، ويفنّد العلم والمنطق؛ كي يستمرّ بتجارته للمخدّرات، بل يجعل من صلاح مدمنًا لسمومه، وبالكاد نستطيع الإفلات من عينيه الجاحظتين، اللّتين تجعلاننا نشعر بأنّنا ملاحَقون، تمامًا كالأخوين جمال (محمود عبد العزيز) وصلاح في الفيلم.

نحن بالأحرى ملاحَقون بحبّنا لجميل راتب، أينما وكيفما ظهر، حتّى لو كان ديكتاتورًا أو سايكوباتيًّا!

 

 

صالح ذبّاح

 

باحث سينمائيّ وصحافيّ ثقافيّ، يكتب في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة. يهتمّ بالسينما والدراما والموسيقى العربيّة، وتقاطعات السياق السياسيّ مع التعبير الصوريّ. أعدّ وقدّم برنامج 'كلاكيت فلسطين' على التلفزيون العربيّ.