هكذا ترسم ثلاثة أفلام قصيرة "الطريق إلى فلسطين"

من الفيلم القصير "عيني" لأحمد صالح

 

"طريق إلى فلسطين"، عرضٌ لخمسة أفلام قصيرة ضمن برنامج "مهرجان سينما فلسطين – الدوحة"، في دورته الأولى. يحاول هذا المقال الربط بين ثلاثة منها، لاستكشاف طريقة تلك الأفلام في عرض الوعي والذاكرة الفلسطينيّين وبنائهما سينمائيًّا.

 

"وَحْدُن" طلال حيدر

"وَحْدُن"، الفيلم الثاني الّذي عُرض ضمن مجموعة الأفلام القصيرة "طريق إلى فلسطين"، ضمن أيّام "مهرجان سينما فلسطين - الدوحة".

يسرد الفيلم القصّة المشهورة عن قصيدة "وَحْدُن"، للشاعر اللبنانيّ طلال حيدر؛ إذ يُحكى أنّه كتب القصيدة بعد رؤيته مجموعة مقاومين من ثلاثة شبّان فلسطينيّين وفتاة فرنسيّة، يمشون في بعلبك.

في الفيلم، تصدح موسيقى زياد الرحباني بأغنية "وَحْدُن"، ويظهر "مانشيت" بالأبيض والأسود؛ معلنًا استشهادهم. ينتهي الفيلم برقص الفتاة الفرنسيّة على البحر؛ مستحضرًا أسئلة البحر والبياض والرقص، وحالة التعبير دون وجود تفاصيل الوجه في مقابل تفاصيل الفستان الأبيض، والبحر الهادئ، والشمس الساطعة، والأساور والخلاخيل.

 

 

يجسّد الفيلم قصّة القصيدة الّتي غنّتها فيروز؛ في محاولة ربّما لشقّ "طريق إلى فلسطين"، والفيلم لمخرجته الفرنسيّة من أصل فلسطينيّ، نورما مرقص، من إنتاج لبنانيّ فرنسيّ.

يجيب طلال حيدر عن السؤال "مين وَحْدُن؟" في مقابلة ضمن برنامج "ديوان العرب"، قائلًا إنّهم: "كلّ اللّي سكنوني وراحوا من اللّي سكنوني وعلّموني شو يعني الحبّ، شو يعني البارودة اللّي بتقاتل اليهود، شو يعني أهلي اللّي فلّو، كلّ اللّي سكنوني هنّ وَحْدُنْ".

 

الـ "حنين" بناءً وترميمًا

فيلم "حنين" لأسامة بواردي، من إنتاج "أفلام فلسطين"، تربطه بالفيلم السابق حالة استعادة فلسطين في الهدوء التامّ، بين لقطات نهاية "وَحْدُن" مع هدوء البحر، وبداية "حنين"، عندما تنزع سعاد العامري، المعماريّة والكاتبة الفلسطينيّة، الرقم الّذي وضع على بوّابة منزلها الحجريّ، محقّقة فعل الرفض، ومواصلة هدوء حياتها اليوميّة.

يمضي فيلم "حنين" في حالة هادئة، تبدأ بامتلاء بيت سعاد القديم بالصور، على المرايا وفي كلّ زاوية ممكنة، قبل أن يُسكر ذلك الهدوءُ صوتَ الّذين يركّبون، قسرًا، رقم المنزل على قوس البوّابة الحجريّ، فتخلع سعاد الرقم أوّل مرّة، قبل أن يُعاد تعليقه مرّة ثانية في نقطة أعلى من البوّابة.

يصوّر الفيلم يوميّات سعاد في بيتها، ورقصها على أنغام "يا مسافر وحدك" على الغراموفون، وتعاطيها مع أحد أطفال الحيّ، واعتقال أبي ذلك الطفل، وينتهي السرد البصريّ بخلخلة مقصودة ومتوقّعة لسعاد، وهي تنزع رقمًا آخر عن باب بيتها.

 

 

تركيبة "حنين" وموسيقاه تعملان على استحضار أشكال الذاكرة الصلبة، الّتي تعرف شعور الحنين ورغبة العودة، ولكن تعامله عن بُعد، بمعاملة الشخص الّذي يستحضر الذاكرة، ويتعامل معها جزءًا أساسيًّا من تركيبة محيطه اليوميّ؛ ليصبح الحنين حسبما تمارسه سعاد حالةً من البناء، الّذي يُستحضر بطقوس الدخان والعرق والغناء، عبر حالة من إدراك الذات المستمرّة والملحّة.

مع بداية الفيلم، كان كافيًا حضور سعاد العامري، المعماريّة الفلسطينيّة الّتي أسّست "مركز الرواق للمعمار الشعبيّ" في 1991؛ ليصبح الفيلم كاملًا إسقاطًا من حالة الحفاظ على البنيان الفلسطينيّ، والتركيز على الترميم، وإبقاء الذاكرة الجمعيّة للفلسطينيّين، والحفاظ على تسلسل التاريخ الفلسطينيّ عبر التوثيق، والإعمار، والحفاظ على التراث كلّه، بمفهومه الواقعيّ الصلب، والأبعد في معاملته عن الرومانسيّة، الّتي تُصبغها حملات كثيرة على مختلف القضايا الفلسطينيّة.

 

الحفاظ على البذرة في "عيني"

اختُتم "طريق إلى فلسطين" بفيلم "عيني" لأحمد صالح، وهو فيلم قصير من الدمى المتحرّكة. يبدأ بمشهد حجر وغبار مربك، يليه منظر لم يتجسّد في قراءتي إلّا بمنظر النكبة. يحكي الفيلم قصّة طفلين يهاجران خلال النكبة؛ ليبقيا مع أُمّهما الّتي تحثّهما على "الحفاظ على بذرتهما حتّى الوصول إلى المأوى"؛ فيقرّر الطفلان أن يسقيا بذرتهما ويحافظا عليها؛ بالموسيقى الّتي يعزفانها.

 

 

في الفيلم تجسّدت صورة المخيّم بالبنيان المتراصّ؛ عبر شجر البيوت الجميلة العامرة، وفي الصورة نرى المخيّم واقفًا على بنيان رفيع هشّ، تتراكم فوقه البيوت والمنازل بشكل مترابط وعشوائيّ متلاصق، كحال المخيّمات في كلّ مكان. يحكي فيلم "عيني" حالة من الصمود والتكاتف في الحرب، في محاولة لإحياء سلام البيوت. وفي تصوير النكبة، يغيب الأب وتظهر الأُمّ والطفلان.

يموج الطفلان في أثناء جمعهما الخردوات، في سماء مليئة بالقطع اللمّاعة، الّتي يجدان فيها خلاصهما. وفي النهاية يبيعان أكبر قطعة عثرا عليها، ويشتريان عودًا يعزفان عليه أجمل الألحان، ويشتركان في العزف، في آن واحد، على نفس العود، بعد أن فقد كلّ منهما عينًا وذراعًا.

 

الذاكرة في الأفلام الثلاثة

تحكي الأفلام الثلاثة طرقًا من فلسطين وإلى فلسطين، في داخلها وخارجها. في الأفلام الثلاثة ثمّة سرد لحالات واقعيّة فعليّة، ومحاولة لإبراز طريق متعدّدة الجوانب إلى فلسطين.

يبني كلّ فيلم الذاكرة من وجهته؛ بحدث فعليّ في "وَحْدُن"، الّذي استحضر جثّة الفتاة وهي واقفة في البحر، أو ترقص بجانبه بكلّ هدوء، ثمّ تستحضر الذاكرة بحالة بنيان مرتّبة متراصّة في "حنين"؛ لإجبار الذات على التعامل الواقعيّ مع الحنين والذاكرة، واستحضار كلّ ما فيها بشكل منظّم ومرتّب، يتخلخل في النهاية في محاولة رفض مستمرّة، لِما يُفرَض على الذاكرة الفلسطينيّة، ممثّلًا ذلك في رقم معلّق على قوس حجريّ لمنزل عتيق.

وتتمثّل الذاكرة في حالة شعريّة تعبيريّة في "عيني"، عندما يفقد كلا الطفلين عينًا، ويعيشان في المخيّم المركّب على أساس هشّ لا يحمله، وتعيش الذاكرة في تصوير الحفاظ على اللحن الجميل؛ علّه يحمي البذرة الطيّبة الّتي أوصت عليها الأُمّ لحظة التهجير.

 

وعي عن فلسطين

نرى ضمن العديد من المهرجانات السينمائيّة حول العالم، وجود الأفلام الفلسطينيّة المستقلّة، وتلك الّتي تحكي فلسطين بطرق مختلفة متنوّعة؛ فيبني كلّ مخرج فلسطين حسبما يراها في أفلامه. وتشكّل الأفلام جزءًا من الذاكرة الجمعيّة الّتي تبني وعيًا عن فلسطين؛ تعبيرًا عن فضاءات فنّيّة مختلفة حول العالم؛ لتعيد ترتيب ذاكرة فلسطينيّة جمعيّة في العالم.

إنّ للفعاليّات الفلسطينيّة، الّتي تقيمها المجموعات المستقلّة والناشطون والجاليات الفلسطينيّة حول العالم، دورًا مهمًّا في جمع الفلسطينيّين والعالم معًا، واستحضارهم فلسطين هنا في الدوحة، وفي كلّ مكان في الخارج؛ لتكون - ربّما - حالةً يعيش بها الجميع فلسطينيّتهم بطريقتهم الخاصّة، بفلسطين جميعًا لا أجزاء.

 

 

مجد حمد

 

حاصلة على البكالوريوس في الإعلام من جامعة بيرزيت، وعلى الماجستير في الأدب المقارن من معهد الدوحة للدراسات العليا. مهتمّة بالأبحاث والنصوص التي تجمع النظريّات من مختلف التخصّصات؛ تأثيراتها في المجتمع وتفاعله معها، ولا سيّما الدراسات المرتبطة بالمدن وفهم الحيّز والفضاء.