"خارج المكان... إدوارد سعيد": البحث في الاغتراب وصراعاته وثائقيًّا

Ermina Takenova | Al Jazeera

 

أدرك إدوارد سعيد أنّ ما رأته عيناه في حيّ الطالبيّة بالقدس، في أثناء زيارته الأولى إلى بيته، وأنّ ما شعر به نفسيًّا عندما علم بإصابته بسرطان الدم، جعل حياته تبدو كأنّها "خارج المكان"؛ بهاتين الكلمتين، عنوَن سعيد مذكّراته ليقصّ علينا حكايته، الّتي عمل من خلالها على جسر المسافة بين الزمان والمكان، وبين حياته اليوم وحياته بالأمس.

يلتقط الفيلم الوثائقيّ الّذي أنتجته "قناة الجزيرة الوثائقيّة"، ويحمل عنوان "خارج المكان... إدوارد سعيد" - إخراج: محمّد جميل، وهبة نمر بوريني - قصّة حياة إدوارد سعيد محلّقًا خارج المكان الفلسطينيّ، ويعطي الفيلم مساحة لصورة سينمائيّة متقَنة، ممزوجة بشغف الاستماع إلى كلمات معبّرة من أقرباء سعيد وزملائه؛ ليكمل هذا العمل السينمائيّ الوثائقيّ سيرة مفكّر فلسطينيّ، أرادها هو أن تكون حكاية ذاكرة لعالم مفقود أو منسيّ.

 

البحث عن المكان

من الجمال الّذي تركه إدوارد سعيد في مؤلَّفه "خارج المكان"، الصادر عام 2000 - نقلته إلى العربيّة "دار الآداب للنشر والتوزيع"، وبترجمة من فوّاز طرابلسي - قدرته على المزج في الكتابة بين نمط "المذكّرات" ونمط "السير الذاتيّة"؛ فعلى الرغم من اختيار المؤلّف صنف المذكّرات في العنوان الفرعيّ للكتاب، إلّا أنّ القارئ يجد نفسه أمام خليط متناغم من الأحداث والمواقف الشخصيّة، والّتي تتبلور كلّما تنقّل القارئ بين سطور الكتاب.

 

غلاف كتاب سعيد، "خارج المكان" | twgram

 

هذا الكتاب، بمساراته وموضوعاته واضطراباته، يُعَدّ الأساس لفهم المكان ومعالمه عند إدوارد سعيد. بالتوازي مع تطوّر شكل الاستعمار في فلسطين، ولا سيّما بعد حرب عام 1967، أسهم فقدان البيت، والإحساس بالبُعد عنه، وصعوبة العودة إليه، في تشكيل الجزء الرئيس من رحلة سعيد للبحث عن المكان. وثمّة – أيضًا - قضايا أخرى، مثل الهويّة واللغة والمرض والموسيقى، حرّكت لدى سعيد فعله الجماليّ في كتابة مؤلَّفه.

ثمّة مَنْ يذهب إلى اعتبار الكتاب سيرة ذاتيّة عابرة للثقافات، ولعلّ عمليّة التنقّل بين أقسام الكتاب، بموازاة الاستماع إلى أحاديث أقرباء سعيد وزملائه في الفيلم، تضيء لنا على جماليّة هذا العبور المتناغم بين الثقافات؛ فنحن هنا أمام مثقّف أتقن عبور الهويّات، زد على ذلك أنّنا أمام مثقّف، يرى في ذاته صاحب هويّة متعدّدة ومركّبة، ومنتمية إلى الإنسيّة، ومتفاعلة مع الآخر.

 

فلسطينيّة الاغتراب

في الفيلم الوثائقيّ "خارج المكان ... إدوارد سعيد"، تجري عمليّة البحث عن المكان؛ فمن خلال التركيز على حياة سعيد؛ يمكننا أن نرى - في الوقت ذاته - حياة ملايين الفلسطينيّين، الباحثين أيضًا عن المكان، وكلاهما؛ أي سعيد والفلسطينيّين، شاعر دومًا بالنفي والاغتراب؛ ولهذا يطرح الفيلم ذكريات مفكّر تلحّ على جسده المريض ليكتبها، وتجربة تحمل في طيّاتها فصولًا عن المنفى؛ تجربة شخصيّة، وتجربة فلسطينيّة عامّة طالت شعبًا بأكمله.

وهنا يذكر الفيلم أنّ خصوصيّة "خارج المكان"، تعود أساسًا إلى خصوصيّة تجربة المنفى، الّتي عاشها سعيد كغيره من الفلسطينيّين. وعن المكان يقول الكاتب اللبنانيّ إلياس خوري في الفيلم: "’خارج المكان‘ هو الشعب الفلسطينيّ... وإدوارد روى قصّته... بصفته فلسطينيًّا، ومن الشعب الفلسطينيّ"، وكذلك تقول أستاذة الدراسات الإنسانيّة في "جامعة كولومبيا"، جوري فيسواناثان: "لقد رأى - إدوارد – ’خارج المكان‘ انعكاسًا لأن تكون فعليًّا خارج المكان؛ والمكان هو فلسطين".

 

 

في كتب السير أو المذكّرات، المسافة بين قصّة الكاتب ووصف الأحداث وتفسيرها، مسافة شاسعة؛ إذ يسمح لك الكتاب بالتعمّق في تقديم الطرح، أمّا في الفيلم الوثائقيّ، الّذي يعتمد على مشاهد تمثيليّة ومقابلات وسيناريو، فإنّ المُشاهد يدرك تمامًا أنّه أمام تجربة سلسلة.

إنّ احتراف العمل الوثائقيّ في "خارج المكان... إدوارد سعيد"، حال دون تقديم طرح مبسّط وسلس؛ فقد عالج الفيلم لبّ إشكاليّة سعيد مع المكان، وشعوره بأنّه خارجه منذ يفاعته، وهو الّذي توجّه إلى تعلّم الموسيقى صغيرًا؛ ليجد له ملاذًا للخروج عن سلطة العائلة والمدرسة والمجتمع. ولطالما عبّر سعيد في مذكّراته عن شعوره الدائم بالاغتراب في المكان، الّذي وُلد ونشأ فيه، وهذا بالتأكيد قبل وقوعه فريسة للمنفى القسريّ.

 

ذرّة تافهة

يضعنا الفيلم أمام ثلاثة أحداث مهمّة، كلّ حدث مختلف عن الآخر، وكلّ حدث تعاطى معه إدوارد سعيد بشكل مختلف، وذلك منذ وصوله إلى نيويورك، في الخامسة عشرة من عمره، إلى حين إصابته بالمرض، في النصف الأوّل من تسعينات القرن الماضي.

بعد رحلة قصيرة في القاهرة ولبنان، يعرض الفيلم مشاهد لأبراج مدينة نيويورك في الولايات المتّحدة الأمريكيّة؛ ليستحضر هنا سعيد في مذكّراته، ويقول: "لقد حوّلتني ضخامة نيويورك الهائلة وبناياتها الشاهقة... إلى ذرّة تافهة؛ فأخذت أتساءل عن موقعي من هذا كلّه"، تُبرز هذه الكلمات اضطراب سعيد مع المكان الجديد، والمكان عند سعيد هنا هو نيويورك؛ فهو لم يستسغ قطّ رحلته إلى نيويورك، ولطالما أحسّ باغتراب الهويّة، وعدم القدرة على التأقلم مع المكان الجديد.

 

أغلفة كتب سعيد: "العالم، النصّ، الناقد"، و"تغطية الإسلام"، و"الاستشراق"

 

في المقابل، يعود سعيد ليروي لنا في مذكّراته، بأنّ الاغتراب الّذي عاشه في نيويورك، لم يمنعه من الحرص الدائم على بناء حياة خاصّة في الولايات المتّحدة؛ حتّى لا يبقى غريبًا عن الحياة النيويوركيّة، ولا يشعر بأنّه غريب عن هذا المجتمع الحداثيّ.

هذا التناقض الغريب الّذي يظهر في حياة سعيد، يترك القارئ والمشاهد بحالة اضطراب في صراع سعيد مع المكان؛ فهو تارةً يرى في نيويورك لحظة اغتراب عن هويّته لانفصاله عن الوطن، وتارةً أخرى يرى فيها ملاذه إلى التحرّر، وهو الّذي يقول في مذكّراته: "إنّ عدم اكتراث أحد بوجودي منحني شعورًا غريبًا... بالتحرّر لأوّل مرّة في حياتي".

 

من الأكاديميّ إلى المثقّف

عام 1967 عاد إدوارد سعيد مجدّدًا للصراع مع المكان؛ والمكان هو ذاته مدينة نيويورك. يتناول الفيلم الفصل الثاني من حياة سعيد في نيويورك، وهو الفصل الّذي أسهم في تشكيل مستقبله الفكريّ، وهنا يقول سعيد في مذكّراته: "لم أعد الإنسان ذاته بعد 1967، فقد دفعتني صفعة الحرب إلى نقطة البداية، إلى الصراع على فلسطين".

يقدّم الفيلم رواية ثلاثة من المقرّبين إلى سعيد، هم: الفيلسوف الأمريكيّ نعوم تشومسكي، وعضو "اللجنة التنفيذيّة لمنظّمة التحرير الفلسطينيّة" حنان عشراوي، وأستاذ تاريخ السياسة والفكر العربيّ الحديث في "جامعة كولومبيا" جوزيف مسعد. تفاصيل دقيقة يرويها هؤلاء، تلمس من خلالها - ولو بلمحة بسيطة - صراع سعيد وحربه مع المكان.

 

من اليمين الأعلى: حنان عشراوي، نعوم تشومسكي، جوزيف مسعد، حميد دباشي، جوري فيسواناثان، إلياس خوري

 

وفي الفيلم نلتمس من آراء هؤلاء الثلاثة، تحوّل سعيد بعد هزيمة 1967، من أكاديميّ جامعيّ إلى مثقّف عامّ يخاطب الجمهور الأمريكيّ، ويطمح إلى أن يصبح صوتًا فلسطينيًّا وإن كان وحيدًا ليصارع على المكان؛ بهدف دحض الرواية الإسرائيليّة، والتغطية الإعلاميّة الأمريكيّة المساندة لإسرائيل.

 

"بروفيسور الإرهاب"

يأخذك الفيلم، في الفصل الثالث من حياة إدوارد سعيد، إلى مشاهد مألوفة للحرب الّتي تعرّض إليها في نيويورك؛ لنستعيد من خلالها قوّة هذا الصوت الصادح، لا من أجل فلسطين فحسب، بل من أجل المظلومين والمضطهدين والمشرّدين والمنفيّين؛ ما كلّفه أن يوصف حينئذٍ "بروفيسور الإرهاب". ويرصد الفيلم الحرب الّتي تعرّض إليها سعيد بسبب كتابه "الاستشراق"، وبسبب محاولاته الحديث عن الصهيونيّة وربطها بالاستعمار على فلسطين.

تُعَدّ هذه المرحلة الزمنيّة مهمّة في حياة إدوارد سعيد؛ فقد أتبع سعيد كتابه "الاستشراق" الصادر عام 1978، بكتب "المسألة الفلسطينيّة"، و"تغطية الإسلام"، و"العالم... النصّ... الناقد"، في أعوام 1979 و1981 و1983 تواليًا، وقد اكتسبت هذه الكتب أهمّيّة كبيرة في المسارين الفكريّ والأدبيّ لسعيد؛ وهنا يقول أستاذ الأدب المقارن في "جامعة كولومبيا"، حميد دباشي: "لن نستطيع فهم أعمال سعيد في هذه المرحلة، إن لم نفهم نزعته الأدبيّة والفكريّة، وانشغاله بسؤال التكيّف"، ويعني دباشي بالتكيّف هنا؛ التكيّف مع المكان، وهو الّذي يضيف قولًا: "إنّ هذين الجانبين من حياة سعيد - الفكر والمكان - مترابطان بشدّة".

 

مريم

إذا كانت ذكريات مريم سعيد - زوجة إدوارد سعيد - غائبة بما يكفي عن مؤلَّفه "خارج المكان"، فإنّ من الواجب القول إنّ الفيلم الوثائقيّ نجح في استحضارها؛ من خلال تقديمها في صورة سينمائيّة جميلة، عكست حرقتها وألمها على فراق زوجها، وامتلاكها الشوق والحنين لإدوارد الّذي رحل صغيرًا. تحملنا مريم معها في محطّتين مهمّتين من حياة إدوارد، هما الرحلة إلى فلسطين والصراع مع المرض.

 

مريم وإدوارد سعيد

 

عن العودة إلى فلسطين، وزيارته بيته في حيّ الطالبيّة في القدس، تقول مريم إنّ سعيدًا لم يستطع الدخول إلى البيت، ولم يطلب حتّى من سكّان البيت إذنًا لدخوله، وبالتوازي مع ذلك، يعرض الفيلم اللحظات الهشّة الّتي عاشها الزوجان قبل وفاة سعيد، وكأنّنا في المحطّتين أمام لحظات أعادت لسعيد حالة الشعور بالخسارة من جديد.

 

"لم ينحنِ في وجه الموت"

وهنا يكشف الفيلم عن نكبة أخرى اقتحمت حياة سعيد؛ فاكتشافه إصابته بمرض سرطان الدم قلب حياته رأسًا على عقب، ووضعه على العتبات الأولى من منفاه، والّتي سيكون لها أثر بالغ في حياته الشخصيّة ونتاجه الفكريّ. يقول سعيد الّذي بدأ بكتابة مذكّراته عام 1994: "حين باشرت ذلك العلاج في آذار عام 1994، أدركت أنّني دخلت المرحلة، إن لم تكن الختاميّة من حياتي، فعلى الأقلّ المرحلة الّتي لا عودة عنها إلى حياتي السابقة".

هذه الكلمات تضعنا أمام سؤال مهمّ، في لحظة تاريخيّة، لمثقّف ناضل من أجل فلسطين. ماذا يفعل سعيد المصاب بمرض عُضال، عندما أقرّت "منظّمة التحرير الفلسطينيّة" في عام 1993، توقيع "اتّفاق العار بالنسبة للفلسطينيّين؟".

يقول حميد دباشي عن سعيد: "إنّ صورة واحدة لآرييل شارون، كانت كافية لتعيد له مخيّلته الأخلاقيّة الشجاعة والجريئة... إنّه لم ينحنِ في وجه الموت قطّ".

 

إدوارد سعيد على الحدود اللبنانيّة الفلسطينيّة، يلقي حجرًا نحو "إسرائيل" عام 2000

 

في محطّة مهمّة في الفيلم، تُطرح مقابلات مهمّة مع تشومسكي وعشراوي وإدريس ودباشي؛ للحديث عن غضب سعيد وإحباطه من هذا الاتّفاق، وشعوره بأنّ ما حصل للفلسطينيّين غير عادل على الإطلاق، ويطرح الفيلم أيضًا مشهد سعيد في تمّوز (يوليو) عام 2000، عند الحدود اللبنانيّة – الفلسطينيّة، وهو يرمي حجرًا إلى الحدود المحتلّة؛ ليعود لقب "بروفيسور الإرهاب"؛ فيصدح في المكان ذاته الّذي أزعج سعيدًا، والمكان هو نيويورك. 

 

بدل الخاتمة

رغم الإشكاليّات الحقيقيّة الّتي تمرّ بها معالجة الأفلام الوثائقيّة، إلّا أنّ الفيلم السينمائيّ الوثائقيّ "خارج المكان... إدوارد سعيد"، حملنا معه في رحلة من البحث والتحقيق الوثائقيّ، في حياة مفكّر ومناضل فلسطينيّ، ظلّ لديه شغف دائم للصراع مع المكان، ليس للدفاع عن أفكاره فحسب، بل للدفاع عن قضيّته وقضايا المضطهدين؛ بوصفه إنسانًا متعدّدًا ومتجدّدًا، ومنتميًا إلى سؤال الضحيّة.

هذا هو إدوارد سعيد كما رثاه محمود درويش، المتشبّع بالقيم الكونيّة والنزعة الإنسيّة، وهذا هو المثقّف، الّذي ظلّ باحثًا عن هويّة متعدّدة ومركّبة ومتفاعلة مع الآخر، وهذا هو الفيلم الوثائقيّ الّذي ارتحل مع سيرة سعيد ومذكّراته، وقدّم لنا رؤية سينمائيّة لصراعه مع المكان، وشعوره الدائم بأنّه خارج المكان.

 

 

إيهاب محارمة

 

باحث فلسطينيّ يقيم في الدوحة. حاصل على الماجستير الأوّل في الدراسات الدوليّة من جامعة بيرزيت، والثاني في السياسات العامّة والتعاون الدوليّ من معهد الدوحة للدراسات العليا. شارك في مؤتمرات وملتقيات وورشات عمل في دول عربيّة وأوروبيّة عديدة، في مجالات متعدّدة، أبرزها الحوكمة، وسياسات تعزيز الحوار، والاندماج والهجرة، ومحاربة التغيّر المناخيّ، ودبلوماسيّة الاتّحاد الأوروبيّ، وما بعد الكولونياليّة، ودون ذلك.