"لازرو السعيد": بحثًا عن الطيبة والبراءة عبر الأسطورة

لازرو (أدريانو تارديولو)

 

ثمّة أفلام جيّدة، أخرى ممتازة، لكن ثمّة أفلام أليس رورڤاخر، الّذي وصل عددها حتّى الآن إلى ثلاثة فقط. رورڤاخر، ابنة الرابعة والثلاثين، أخرجت فيلمها الأوّل "Corpo Celste" عام 2011، تقدّم فيه - بحساسيّة عالية - قصّة فتاة من كالابريا في إيطاليا تدخل سنّ البلوغ، وقد لاقى الفيلم استحسانًا لافتًا لدى النقّاد. أمّا فيلمها الثاني "The Wonders"، فيحكي قصّة عائلة نحّالين ريفيّة من توسكانا، وبلوغ فتاة تُدعى جلسومينا؛ حصد هذا الفيلم "جائزة الچراند بري" في "مهرجان كان السينمائيّ" عام 2014.  

 

أسطورة اجتماعيّة

الآن، تجيء رورڤاخر بفيلمها الثالث والاستثنائيّ، "لازرو السعيد". هذه المرّة نشاهد فيلمًا عن الفتى لازرو، وعن علاقته بالعالم، وبجدارة، حصدت معه جائزة أفضل سيناريو في "مهرجان كان" عام 2018. 

الفيلم عبارة عن أسطورة اجتماعيّة، تستقي المادّة الخامّ من الماضي وتدمجها، مثل عجينة، في الحاضر، بلُطف يجعل ساعة كاملة من الفيلم، تمرّ قبل أن يقع أيّ حدث مفصليّ فيه. حتّى عند وقوعه، لن تتواتر الحبكة، ولن يحدث الكثير، بينما في هذه الـ "لن"، تتبدّل وتتقلّب عوالم كاملة، هناك بالضبط يتجلّى الجوهر الّذي يجعل من السينما شيئًا أخّاذًا. 

 

 

لعلّ لازرو (أدريانو تارديولو) هو الوجه الأكثر براءة، من بين الوجوه الّتي ظهرت على الشاشة الكبيرة منذ عقود. يعيش لازرو في مجتمع زراعيّ في مكان ما وسط إيطاليا، ويعمل في حقول تبغ تابعة لملكة التبغ المحلّيّة، عديمة الإحساس، الماركيزا ألفونسيا دي لونا (نيكوليتّا براسكي)، مع خمسين فلّاحًا وفلّاحة آخرين، سيكون أجرهم من الماركيزا مجرّد بقائهم في الحياة، عبيد على الطريقة الحديثة.  لدى الماركيزا ابن يُدعى تانكريدي (لوكا تشيكوڤاني)، مُفسَد ومتعجرف، سيبني شيئًا فشيئًا، علاقة أخوّة بلازرو، وسيطلب إليه أن يساعده في عمليّة توليف خطفه. لازرو بريء وساذج، ومن السهل أن يُخطِئ المرء ويظنّه أبله. 

 

لعلّها تنتقل بالعدوى

المكان والزمان في هذه القصّة مجهولان؛ فيمكن أن تحدث في القرن التاسع عشر، أو في تسعينات القرن الماضي، يمكن أن تحدث في هذه اللحظة. في الحقيقة، صُوّر هذا الفيلم خارج الزمن. والشخصيّة نفسها الّتي تحمل الاسم التوراتيّ، عازر، حاضرة ومرئيّة طوال الوقت. السينماتوغرافيا الّتي أنجزتها هيلين ليوڤارت، وصُوّرت من خلال شريط سوبر 16، أغنت الفيلم بشكل كبير.

يتّشح الفيلم بغشاء حُبيبيّ ذهبيّ، ذاك الّذي صُنعت منها الصور الأسطوريّة في أذهاننا، وهي بعيدة كلّ البعد عن الأفلام المعلّبة الديجيتاليّة الخارقة النظافة واللمعان، الّتي تبتلعها عيوننا من نيتفليكس.

 

تانكريدي (لوكا تشيكوڤاني) ولازرو (أدريانو تارديولو)

 

في مشاهده الأكثر شاعريّة، تُطيّع الكاميرا الزمن والفصول لصالح إرادتها، حينما تقطّع ماكنة قديمة أوراق التبغ؛ فتصنع بيدرًا ضخمًا جلس فوقه الرجال والنساء والأطفال. نثار ورق التبغ يتطاير في كلّ مكان، ويسقط بلطف فوق رؤوس الفلّاحين. إنّه فصل الصيف، لكنّ هذا المشهد يشعرك فجأةً كأنّ ثلجًا يتساقط، يشغلك هذا المشهد، بنعومة، بألوان من البراءة والمتعة والدهشة من جمال الطبيعة، مشهد يذكّرني بآخر في رواية آنا كارنينا، حين كان ليڤين، من فوق حصانه، ينظر من حوله إلى الفلّاحين الروس، وهم يأخذون قسطًا من الراحة بعد يوم حصاد شاقّ، ساعتئذٍ، لم يرد شيئًا في حياته، سوى أن يكون معهم ومع الطبيعة؛ لعلّ البراءة تنتقل بالعدوى. 

 

نحل مانداڤيل

قصّة الفيلم مستوحاة من قصّة حقيقيّة، جرت أحداثها في إيطاليا في الثمانينات، حين اكتشفت الشرطة مجتمعًا من الفلّاحين، استُخدموا عبيدًا في حقول التبغ فأعتقتهم. في أحد مشاهد الفيلم، تقول الماركيزا لابنها تانكريدي، ناظرةً من خلال النافذة إلى الفلّاحين في الحقل: 

"الخدم كالوحوش، كالحيوانات، انعتاقهم ومنحهم الحرّيّة سيعني وعيهم لحالة العبوديّة الّتي كانوا عليها".

لمعت هذه الجملة بالتحديد كمفتاح لعالم الفيلم الداخليّ، ثمّ أخذت الأفكار تتفرّع من ذهني، الّذي عادت إليه أسطورة أخرى مختلفة، من مرحلة دراستي لفلسفة القانون، وهي أسطورة النحل، عمل جدليّ للفيلسوف والاقتصاديّ الهولنديّ برنارد مانداڤيل (1670- 1733)، وإخال أنّ رورڤاخر، الّتي نشأت في عائلة نحّالين ودرست الفلسفة، مطّلعة عن كثب على هذه الأسطورة.

 

 

كتب مانداڤيل مقاله الاقتصاديّ على شكل قصيدة؛ قصّة نحل في بيّارة وظّفها استعارةً للمجتمع الإنسانيّ، كان لقصيدته آنذاك أثر بالغ، في المفكّرين في حقلَي السياسة والاقتصاد، ولا تزال تؤثّر في المنظومات الآنيّة الفاعلة. مانداڤيل يزعم أنّ نجاح المجتمع والاقتصاد، لا يمكن أن يتحقّق دون الطمع والأنانيّة والرذيلة، دون أن نملك الرغبة في أن نكون أفضل من غيرنا. لا يمكن فصل النجاح عن هذه القيم الشرّيرة. 

مانداڤيل عالم الاجتماع الأوّل، الّذي سعى نحو الخروج من الدين، ومن منظومة الأخلاق الإلهيّة؛ فهو يشير إلى توجّهات علمانيّة؛ من أجل فهم المجتمعات. الصدق والنوايا الحسنة ستقود المجتمعات نحو الفشل، أمّا الغبن فيدعم المحامي! والقمار يحوّل الأموال من أيدي مَنْ لا يدركون قيمتها، إلى أولئك الّذين يدركونها ويستثمرونها بحكمة. إنّ الاستهلاك والرفاه لا يمكن أن يستندا إلى الصدق. يدّعي مانداڤيل أنّنا بحاجة إلى أيدٍ عاملة زهيدة، وإلى الإبقاء على جزء من المجتمع معدمًا من الناحية التعليميّة؛ وبذلك يتوافر دائمًا أناس للأعمال قليلة الشأن، لكن الضروريّة. 

 

هروب الذئب

في عالم استهلاكيّ مظلم ومخادع، حيث البنوك تتمتّع بقوّة تحكّم عظيمة في حيواتنا، حيث نشعر جميعًا بأنّنا - في مكان ما - عبيد، هل تلقي رورڤاخر الضوء على البراءة والطيبة؛ لتقول لنا إنّهما الخلاص؟ وهل ظلّت المعجزة هي الطريق الوحيد له؟ 

 

 

بهذا المزيج من القوّة والجمال الّذي يتّصف بهما صوتها، تتغلغل الصور والمفردات الّتي جاءت بها رورڤاخر، عميقًا إلى آبار جوفيّة، تتركنا مع أسئلة تبدو أكثر من الإجابات.

في المشهد الأخير الّذي يخطف الأنفاس، يحاول ذئب وحيد الهرب من زحام مدينة حديثة عاديّة، إلى موطنه في الطبيعة، مخلصًا للقطيع، حيث سيكون هناك آمنًا وفخورًا وحرًّا. 

 

 ترجمة: أسماء عزايزة.

 

 

آدم زعبي

 

منتج سينمائيّ وتلفزيونيّ. عمل في المؤسّسة الإيطاليّة للمنتجين والمخرجين المستقلّين (API) مساعد مخرج للإيطاليّ إتوري سكولا. أسّس أوّل مهرجان دوليّ للسينما في فلسطين عام 2003. أدار استوديو للإنتاج في لندن مدّة 8 سنوات، يتخصّص في ابتكار مضامين بصريّة لشركات رائدة مثل "غوغل"، و"ناشونال جيوغرافيك"، و"بي بي سي"، وغيرها. حاصل على درجة الماجستير في الحقوق الروحيّة الدوليّة من جامعة SOAS  في لندن.