"حبّ برّيّ" لجمانة منّاع: سعة العالم عبر نقطة ضيّقة

من فيلم "حبّ برّيّ" لجمانة منّاع

 

حظيت أخيرًا بفرصة مشاهدة فيلم جمانة منّاع "حبّ برّيّ" (2018). عُرض هذا الفيلم للمرّة الأولى في العام الماضي، ضمن أفلام "مهرجان برلين السينمائيّ الدوليّ"، وفلسطينيًّا، عُرِضَ ضمن "مهرجان حيفا المستقلّ للأفلام" في دورته الأخيرة، وهو يُعتبر الفيلم الثاني لمنّاع، الّذي جاء بعد نجاح فيلمها الأوّل "مادّة سحريّة تسري داخلي" (2016).

 

الحرب تدمّر مخزن الحبوب في حلب...

تبدأ جمانة قصّتها في "حبّ برّيّ" من نقطة ضيّقة، تكمن في حدث محدّد يحصل عام 2012، سيحظى آنذاك بتغطية صحافيّة عالميّة. في العام المذكور، يضطرّ "المركز الدوليّ للبحوث الزراعيّة في المناطق الجافّة - إيكاردا"، إلى نقل موقعه من حلب الّتي دمّرتها الحرب إلى وادي البقاع في لبنان. يترك المركز خلفه مخزون الحبوب فيؤول إلى الضياع، ومن أجل تكوين مخزون جديد؛ اتّخذ "إيكاردا" طريقة لم يسبق أن اتُّبعت، وهي العودة إلى "بنك البذور العالميّ" في سفالبارد، وهو مستودع الحبوب العالميّ، المحفوظ في جزيرة تقع بين النرويج والقطب المتجمّد الشماليّ؛ بهدف إنقاذ هذه الحبوب في حال حدوث كارثة عالميّة.

 

WILD RELATIVES - Trailer from KLE on Vimeo.

 

طلبت "إيكاردا" استعادة الحبوب الّتي أودعها في هذا البنك قبل أعوام، من أجل استخدامها في تكوين جيل جديد من الحبوب في مقرّها في لبنان. تمرّ بضع سنوات؛ ليصبح المركز عام 2016 مستعدًّا لإرسال جيل جديد من الحبوب إلى النرويج. تتتبّع جمانة منّاع في فيلمها، الجزء الأخير من رحلة هذه البذور بين العالمين.

إن بدا كلّ ما سبق ذكره خلفيّة تقنيّة للمشهد، فعلينا إذن إعادة التفكير. يبدأ الذهول منذ المشهد الأوّل، لقد استطاعت جمانة، في رحلتها الّتي امتدّت نحو عام، تحويل ما هو تقنيّ إلى فيلم متدفّق، وممتدّ، وشاعريّ، ومحفّز للفكر؛ فيلم يفتح أبوابًا على أسئلة كبيرة، ويُعنى باللحظات الصغيرة الّتي تعطي الحياة معنًى.

 

المزارعون هناك أيضًا

يصف عنوان الفيلم بنسخته الإنجليزيّة "Wild Relatives"، نباتات برّيّة ترتبط جينيًّا بالمحاصيل الزراعيّة. تُطوّر هذه النباتات، بفعل نشأتها البرّيّة، أنظمة مناعة أكثر قوّة تعينها على تحمّل الجفاف ومقاومة الآفات. يهجّن المزارعون هذه المحاصيل البرّيّة بأخرى من المحاصيل الزراعيّة؛ من أجل إنتاج أصناف جديدة وأقوى، ويكمن الهدف الأساسيّ في الحفاظ على هذه النباتات البرّيّة. نقابل في مختلف المواسم المتعاقبة خلال هذه الرحلة، أفرادًا من "إيكاردا" و"بنك البذور العالميّ" في سفالبارد؛ موظّفين وعلماء يعملون بشكل حثيث على إنجاز عمليّة معقّدة من إنماء البذور، وفحصها، وتلقيحها، وانتقائها، وتغليفها، وأرشفتها.

 

 

ولكن هذا ليس كلّ شيء؛ توجّه جمانة عدستها أيضًا نحو المزارعين وعائلاتهم، والمجتمعات السكنيّة المجاورة للمؤسّستين. نقابل في لبنان اللاجئات السوريّات الخجولات والمرحات، اللاتي يعملن في حقول "إيكاردا"، ونقابل يوسف، سائق التاكسي الّذي يختار تأجير أرضه موقعًا لمخيّمات اللاجئين، بدلًا من استخدامها في مشروع ذي عائد مادّيّ أقلّ كالزراعة. أمّا وليد، فمزارع عضويّ مكرّس، يمتلك مخزونًا صغيرًا من الحبوب البرّيّة، الّتي يقايض بها مزارعين محلّيّين. أمّا في الناحية المقابلة من العالم، في سفالبارد، فتتركنا جمانة مع تجمّع سكنيّ مدنيّ صغير، ومع قسّه المحبّ للاستطلاع، وصديقه العالِم الّذي لا يقلّ عنه فضولًا.

 

"هاي ما بتتقدّر بثمن"!

تعشّش كلّ مواجهة نشهدها في الفيلم داخل مخيّلة صوريّة آسرة للحواسّ، قوامها المشاهد الطبيعيّة المتحوّلة، والطقس المتقلّب، والجبال العظمى، وأنقاض المباني الخربة بجدرانها الّتي تكاد تنطق، والدببة القطبيّة اللامرئيّة، وطائر الكناري في قفصه، ذاك الّذي لا يمكن نسيانه.

لا يلزم الكثير من الوقت للتنبّه إلى أنّ القرويّين والمزارعين أنفسهم، يمثّلون استعارة لِما يُشير إليه عنوان الفيلم بالإنجليزيّة "Relatives Wild"، إلى الأقرباء البرّيّين للعلماء "المدجّنين" والمؤسّسات الكبيرة، الّذين يشرفون على السياسات الزراعيّة.

يذكّرنا الفيلم كيف صاغت مثل هذه المراكز البحثيّة وصنّاع السياسات، إستراتيجيّاتٍ كارثيّةً في الماضي، مثل "الثورة الخضراء" الّتي أتْمَتَت الصناعات الزراعيّة "لمحاربة الشيوعيّة"، وتسبّبت بهجرات واسعة وكثيفة نحو المدن، وبخسارة التنوّع الحيويّ والاستخدام العالميّ للمخصّبات، وبالدمار لملايين الأشخاص مقابل تحقيق مكاسب مادّيّة وسياسيّة.

 

 

على نقيض هذه الحقائق الّتي تشكّل خلفيّة الفيلم، وفي واحد من أكثر مَشاهده حدّةً، يكشف وليد، المزارع العضويّ رهيف القلب، والّذي تربطه أقوى الصلات بأرضه، علاقته لا بشيء إلّا بدودة الأرض الّتي نعرفها جميعًا، وهي مخلوق مثله، تستند معيشته إلى الرابط المتبادل بينهما. "شوفي"، يقول وليد بحرارة، مشيرًا بإصبعه إلى بقعة رطبة من الأرض، تتموّج فيها الديدان: "هاي ما بتتقدّر بثمن، هاي أفضل تربة بالعالم بسبب الدودة". في هذه اللحظة، يحضر إلى الذهن عنوان الفيلم العربيّ "حبّ برّيّ"، ولكن بضمّة على الحاء.

 

نظرة ثاقبة... مشاهد بارعة

مرّة أو مرّتين، تساءلت عمّا يمكن أن تؤول إليه الأحداث في الفيلم، ما الّذي قد يُقال في نهاية المطاف عن بذور مخبريّة مُعبّأة؟ لكن يتبيّن وجود عالم شاسع من ورائها. ولأنّ جمانة تقيّد نفسها منذ البداية بإطار ضيّق يضمّ قصّة محدّدة، فإنّ هذه القيود هي ما يخلق إمكانيّات وصلات غير متوقّعة. وفي الحقيقة، فيلم جمانة ينضح بالحياة بمجرّد أن نلتقط قصّة "إيكاردا"، وأن نلقي نظرة نحو ما تخبّئه وراءها.

تمتلك جمانة نظرة ثاقبة في ما يتعلّق بتكوين مشاهد بارعة، ويظهر في الفيلم الكثير منها؛ ففي أحدها تحلّق الكاميرا فوق امرأة تجلس وتفرز البذور، وتعتمر قبّعة كبيرة جدًّا وحمراء جدًّا، كما لو أنّ فنّانًا انطباعيًّا رسمها. تفتح لقطة لقدمَي أحد موظّفي "إيكاردا"، جالسًا خلف مكتبه في لبنان، تفتح حوارًا مُبهجًا مع لقطة أخرى لقدمَي عازف أورغن كَنسيّ يلعب الفوغا في النرويج. ويفصح وجها مراهقتين عن براءة في أوج ريعانها؛ إذ تضحكان للكاميرا، وتجتمعان حول سيجارة ممنوعة.

 

 

لربّما يُعتبر الضوء أحد أهمّ جوانب الفيلم وأكثرها إثارة للدهشة. يبدو لوهلة أنّ الضوء مثله مثل بقيّة الناس في هذا الفيلم، هو بحدّ ذاته شخصيّة من الشخصيّات. تبدو الأشياء كلّها في عدسة كاميرا مارتي فولد المتأنّية شفّافةً، ومباشِرة، وحاضرة بلا وساطة، ومثلك أيّها المُشاهد، فإنّها تمتصّ الضوء ذاته. إنّ قضاء يوم رماديّ في وادي البقاع هو أمر حميم، حتّى أنّه بإمكانك أن تعرف أيّ ساعة من النهار هي تلك. هذه القدرة على خلق فضاء مفتوح، مساحة خالية للتنفّس، تسمح بطريقة ما لكلّ الأشياء الأخرى أن تتجاور، بطريقة حدسيّة وطبيعيّة في عالم الحقيقة.

 

تيّار باطنيّ من القلق

على الرغم من سعة هذا العالم، إلّا أنّه مغلق وخانق بنفس القدر. في الإطار الأوّل (Frame) في فيلم جمانة، نرى كومة من الفحم المشتعل، أمّا الإطار الأخير فأكثر إتقانًا من أن يُتلفه الوصف. في هذا المشهد، تستنشق كومة مظلمة وجهنّميّة من الغبار أبخرةَ العالم السفليّ لمنجم الفحم، حيث تودَع البذور. هذه المشاهد المصحوبة بشريط صوتيّ (Sound Track)، الّتي ترافق الفيلم وتتقاطع معه في خفقات نابضة، تقرّبنا من تيّار باطنيّ من القلق الّذي يتدفّق تحت السطح الهادئ، لكي نتذكّر أنّ في هذا العالم أشياء ليست أبدًا على ما يرام.

إنّ الانسجام الّذي يبدو كما لو أنّ الفيلم يسعى إلى خلقه، سيبقى على الأرجح ذا مصير معلّق. كلّ الأشياء تحكمها الحركة والتدفّق، وفي الحقيقة، فإنّ الطريقة الّتي يتكشّف فيها الفيلم، بخليط صوره المجرّدة، ووجوهه، ومبانيه وجباله، ولقطاته الليليّة، ومعادنه؛ توحي بأنّ كلّ هذا يتوق إلى شرط الموسيقى، نحو المنطقة الّتي بمقدور العقل أن يعيش فيها دون الصورة.

 

 

"نعرف من منظور علميّ أنّ وقت حياة الأرض محدود، وأنّ الشمس ستتمدّد مسبِّبة انفجار الأرض"، يقول القسّ النرويجيّ بصبر لصديقه، بينما يحاولان التوازن كطفلين مرحين فوق عارضة خشبيّة، مقرّين بزحف هذا الكوكب نحو حتفه. من المؤكّد أنّ ما يشغل اهتمام منّاع، يأخذنا إلى ما هو أبعد من قصّة انتقال مقرّ "إيكاردا"، وفي الوقت نفسه، فإنّ هذه القصّة حاضرة في كلّ جانب من جوانب الفيلم.

في إحدى لحظات الفيلم، ينطق صوت بالسؤال: "هل تظنّ أنّ البشر أخيار؟" كما لو كان السؤال يقيم دعائم الفيلم كلّه، دون أن يقع في شرك العاطفة أو الدوغما.

 

* سيُعرض فيلم "حبّ برّيّ"، عرضًا خاصًّا، بالتعاون بين فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة و"جاليري فتّوش"، يوم 25.06.2019.

 

آدم زعبي

 

منتج سينمائيّ وتلفزيونيّ. عمل في المؤسّسة الإيطاليّة للمنتجين والمخرجين المستقلّين (API) مساعد مخرج للإيطاليّ إتوري سكولا. أسّس أوّل مهرجان دوليّ للسينما في فلسطين عام 2003. أدار استوديو للإنتاج في لندن مدّة 8 سنوات، يتخصّص في ابتكار مضامين بصريّة لشركات رائدة مثل "غوغل"، و"ناشونال جيوغرافيك"، و"بي بي سي"، وغيرها. حاصل على درجة الماجستير في الحقوق الروحيّة الدوليّة من جامعة SOAS  في لندن.