مسلسل "قتل إيف": مسخ أنثوي واصطياد كويري

الممثّلتان ساندرا أوه وجودي كومر

.

في المساء، تعود إيف إلى منزلها خائبةً مُحبطةً من أحداث نهارها، تُخرج من حقيبتها قلم الحُمرة، الّذي فوجئت بوجوده هناك في وقت سابق من ذات اليوم. أحمر الشفاه ذلك ليس مُلكها، لكنّها تدرك تمامًا هويّة مَن دسّته في حقيبتها؛ فيلانيل. تغازل إيف أحمر الشفاه، تدوّره بين أصابعها، تزيل الغطاء عنه ثمّ تضغطه على شفتها العليا بإثارة وغريزيّة، تمرّره على شفتها السفلى ببطء، مُثارة، متلذّذة. لكن... للقلم وخزة حادّة تصدم وتجرح شفة إيف فتتأوّه متألّمة... مُثارة، متلذّذة. يمتزج لون القلم الأحمر بالدم، والشبق بالذعر، ويصبغان شفتيها. ثمّ سرعان ما تنكشف الحيلة - يغلّف القلم تحته شفرة حادّة، والغاية منه إلحاق الأذى بإيف ومداعبتها في الوقت ذاته. ليس كلّ هذا سوى تحيّة حارّة وعلامة شوق، من "السايكوباث" فيلانيل إلى المتحرّية إيف.

 

عن المسلسل

يظهر المشهد الموصوف أعلاه في مسلسل "قتل إيف"، وهو مسلسل بريطانيّ أنتجته شركة "بي بي سي أمريكا"، أُطلق موسمه الأوّل عام 2018، ولاقى نجاحًا على مستوى النقّاد والمتفرّجين، تظهر فيه الممثّلتان ساندرا أوه وجودي كومر. في العام الجاري 2019، أُطلق الموسم الثاني، وفي أيّار (مايو) بُثّت الحلقة الأخيرة منه.

 

 

يدور المسلسل حول المتحرّية إيف بولاستري، الّتي تحاول القبض على القاتل المسؤول عن سلسلة من الجرائم، وفي حين أنّه يظنّ كلّ من يعمل في القضيّة أنّ القاتل رجل، تدّعي إيف أنّ القاتل امرأة، في ما يكون تأكيد صحّة الأمر في ما بعد. تجعل إيف من القاتلة فيلانيل نقطة ارتكاز يدور حولها عالمها، ومثل المهووسة تسعى إلى التقرّب منها دون أن تكترث للعواقب.

يظهر المشهد الموصوف أعلاه تحديدًا في الحلقة الثالثة من الموسم الثاني، وعنوانها "اليرقة الجائعة". يتضمّن مشهد قلم الحُمرة ثلاث رسائل من فيلانيل بالنسبة إلى إيف: الأولى أنّ المسافة الّتي تفصلها عن القاتلة قريبة جدًّا، والثانية أنّ القلم يحمل اعترافًا بارتكاب فيلانيل جريمة القتل الأخيرة، أمّا الرسالة الثالثة، فتدلّل على شوقها واشتهائها لإيف، ولكن خلافًا لليرقة الجائعة في القصّة الشهيرة، لا يسكت جوع إيف، ولا يُصيب معدتها مكروه، وتتحوّل دائمًا إلى فراشة خلّابة تدهش الآخرين حتّى الموت.

 

الأحمر

لا يمكنني تذكّر عدد المرّات الّتي تذمّرت فيها، على إثر تقديم قلم الحُمرة بصفته مصطلحًا سينمائيًّا في عمل فنّيّ ما، حتّى أنّه قد يسحبني سيل البرطمة إلى استياء غامر من العمل بأكمله (كليشيهات، صور مستهلكة، أدوات ومجازات سهلة بليدة، تركيبات ميلودراميّة وتوليفات صابونيّة - نسبة إلى المسلسلات "الصابونيّة Soap Operas").

يستدعي أحمر الشفاه اللون الأحمر، وهو لون مسيطر، يسهل توظيفه سينمائيًّا وبصريًّا وصوريًّا لاستحضار معانٍ ودلالات معيّنة

يستدعي أحمر الشفاه اللون الأحمر، وهو لون مسيطر، يسهل توظيفه سينمائيًّا وبصريًّا وصوريًّا لاستحضار معانٍ ودلالات معيّنة، وهو واحد من الألوان النادرة أيضًا، ويمكن تلقّفه بحاسّة الشمّ أيضًا، عند بعض المتفرّجين على الأقلّ. إنّ الاعتماد على اللون الأحمر "وأحمر الشفاه" لا ينسحب على الميلودراميّات فقط، بل نرى أعمالًا لمخرجين لامعين، مثل كوبريك ولينش وهيتشكوك وألمودوفار وسكورسيزي وويس أندرسن وآخرين، اعتمدت أعمالهم عقلًا سينمائيًّا ينطق بالأحمر، ويحكي فيه وعنه وبواسطته. ومع هذا يمكن ادّعاء أنّ للّون الأحمر معانيَ باتت ناجزة بعض الشيء؛ إذ يصعب الفرار من شباكها الدلاليّ المتناهي، معانيَ لها تداعيات نفسيّة تعفي المتفرّجين من إعمال عقولهم، وصنّاع الفيلم/ المسلسل من إجهاد أيديهم الخالقة، بحيث يكتفون بإيماءة يد تلوّح بعصا سحريّة تطلي الشاشة بالأحمر.

يستحضر اللون الأحمر دون كلفة، موضوعات مثل الحبّ، والجنس، والشبق، والشغف، والشهوة، وكلّما ازدادت دُكْنته سيطرت عليه - ربّما - معانٍ تحمل سوادًا، كالغضب، والخطر، والعنف، والقتل، والهيمنة، والاستبداد. والقلم الأحمر كثيرًا ما ظهر في حقبة أفلام العتمة Noir (دراما الجريمة ذات الخصائص الجنسانيّة)، واعتُبر تحليليًّا غرضًا ورمزًا فالوسيًّا (قضيبيًّا) بتمثيله الهيمنة القضيبيّة؛ أي ربّما للّون وللقلم الأحمر حمولة رمزيّة بصريّة وذهنيّة وثقافيّة، تخنق اللغة السينمائيّة بدل أن تفتحها على وسعها، ربّما.

في الموسم الأوّل، يكشف لنا المسلسل عن ضحيّة فيلانيل الأولى؛ تقع فيلانيل في حبّ معلّمتها المتزوّجة، وتغار من زوجها، وتقرّر أن تقطع قضيبه وتقتله. تنطوي أهمّيّة مشهد قلم الحُمرة والشفرة المخبَّأة تحتها بتقديمها لهذه الجزئيّة، فإن كان القلم الأحمر يُعتبر رمزًا قضيبيًّا، يمكن أن ندّعي أنّ الشفرة المخبّأة داخله، تسعى إلى تفتيت القلم وتدميره من الداخل؛ أي أنّ المشهد يقدّم رمزيّة جماليّة للإخصاء.

 

 

 

Queerbaiting

لكنّ دمًا جديدًا يسري في مشهد قلم الحُمرة من مسلسل "قتل إيف"؛ فهو يجمع بين الشغف والشهوة من جهة، والخطر والعنف من جهة ثانية، ويلخّص العلاقة القائمة بين السايكوباث فيلانيل والمتحرّية إيف، بما تحملها من تناقضات وتوتّرات والكثير الكثير من الأدائيّة واللهو. تتطوّر بين الاثنتين علاقة يملؤها توتّر أيروسيّ مثليّ، وفي هذا المضمار، ليس ثمّة جديد؛ فالكثير من المسلسلات الّتي تكون ضمن الجانر البوليسيّ الدراميّ، يقدّم علاقة مركّبة بين القاتل والمتحرّي الّذي يبحث عنه ويلاحقه، ويكون الواحد مرآة الآخر، أو بمصطلحات نفسيّة/ أدبيّة "الأنا الأخرى Alter Ego"؛ علاقة قد تصل أقصى درجات الحميميّة، لكن تحول غالبًا دون تحقّقها في المستوى المادّيّ/ الجسديّ، ومسلسل "هانيبال" نموذج على ذلك، حين نشهد توتّرًا أيروسيًّا مثليًّا بين هانيبال القاتل وآكل لحوم البشر (Cannibalism) والمتحرّي ويل؛ إذ يُقفَل المسلسل نهائيًّا عند موت الاثنين ملطّخَين بدمائهما، يجمعهما عناق طويل حميميّ، لا يقطعه حتّى سقوطهما عن التلّة نحو المحيط.

اتُّهم مسلسل "هانيبال" بما يُسمّى "Queerbaiting"، وهو مصطلح يُطلَق عند محاولة صنّاع المسلسلات والأفلام جذب - أو استدراج - المتفرّجين الكويريّين بواسطة زرع توتّرات أيروسيّة مثليّة بين شخصيّات العمل، لكنّها تتبدّد عادة وتتبخّر، فلا يتحقّق أيّ نوع من "الممارسة المثليّة/ الكويريّة"؛ وهذا لرفع نسبة مشاهدات المسلسل فقط.

فيلانيل تدرك ذلك وتوظّف "أنوثتها المفرطة" من جهة كسلاح قاتل تفتك به وتبطش، وفي الوقت ذاته تعرف أنّ نفس السلاح - الأدائيّة الأنوثيّة المفرطة - يحوّل شرّها إلى غير مرئيّ

هذا المصطلح إشكاليّ بعض الشيء، على الرغم من صحّته بانتقاده النزعة الربحيّة والتجاريّة لشركات الإنتاج، إلّا أنّه من حيث بناء الشخصيّات ودواخلها، قد يفوّت أحيانًا اتّهام كهذا، قراءةً عميقة وناضجة لسيكولوجيّة الشخصيّات وأبعادها، وتداخلها شكلًا ومضمونًا مع عناصر أخرى في العمل؛ فالتوتّر الأيروسيّ - كغيره من توتّرات - قد لا يحلّ ولا يستكين، فيظلّ قوّة محرّكة ضروريّة في دفع الشخصيّات والحبكة قدمًا، إلى الخلف أو إلى كلّ الاتّجاهات. 

من العبث والسذاجة وصف التوتّر بين فيلانيل وإيف بأنّه بمنزلة طُعم يُدَسّ للكويريّين؛ لأنّ فيلانيل - السايكوباث والقاتلة المحترفة - تعيش في الفيلم تجارب جنسيّة متعدّدة، وهي كويريّة جهرًا، كما أنّ كويريّتها ليست "سابتكست Subtext"، خلافًا لكويريّة هانيبال وويل المفترَضة والمضمَّنة في مسلسل "هانيبال".

 

السايكوباث الأكثر جمالًا

فيلانيل تصرّح لإيف بحبّها، وبمدى اشتهائها لها، فتُورّط إيف، المتورّطة أصلًا، وتضعها أمام معضلة أخلاقيّة وإنسانيّة ومهنيّة؛ فهي مأخوذة "بالحرّيّة" الّتي تتمتّع بها فيلانيل في قتل ضحاياها وتعذيبهم، وتُبدي في الوقت نفسه إعجابًا وذعرًا من برودتها عند فعلها ذلك. وأهمّ من هذا كلّه أنّ الإغواء المركزيّ الّذي تجسّده فيلانيل بالنسبة إلى إيف، يكمن في اعتبارها الأنا الثاني لها، بواسطته تستكشف جوانبها المظلمة وتمنحها متنفّسًا وتعبيرًا؛ ولهذا فإنّ إقامة علاقة جنسيّة/ جسديّة بينهما حتمًا ستُبدّد التوتّر، وتنقل إيف من معسكر "المتحرّين والمحقّقين" إلى معسكر "الأشرار والمجرمين"، وقد تأتي بضربة قاضية للمسلسل.

فيلانيل شرّيرة جدًّا، شريرة وسايكو، وهي من الأشرار الأكثر "جمالًا" و"إثارة" في رأيي على الشاشات الآن. فيلانيل تدرك ذلك وتوظّف "أنوثتها المفرطة" من جهة كسلاح قاتل تفتك به وتبطش، وفي الوقت ذاته تعرف أنّ نفس السلاح - الأدائيّة الأنوثيّة المفرطة - يحوّل شرّها إلى غير مرئيّ، ويمنحها بطاقة عبور سريعة، بحيث لا يمكن التعرّف عليها، أو تخيّلها مسؤولةً عن تلك البشاعة وذلك القبح.

 

 

ثمّة فهم مغلوط حول "السايكوباثيّة Psychopathy"؛ إذ تعتقد الغالبيّة أنّ إنسانًا كهذا لا يمكن أن يتعاطف مع الآخر. يكمن سرّ التعاطف في أن تستطيع وضع نفسك مكان الآخر، لكنّ الإنسان السايكوباث لا يتعاطف معك على المستوى العاطفيّ، إنّما يستطيع أن يتعاطف معك ذهنيًّا؛ أي أنّه يعرف تمامًا كيف يضع نفسه مكانك، وكيف يفكّر مثلك، ثمّ كيف يؤثّر فيك ويتلاعب بك، لكن دون أن يشعر بشيء. وفيلانيل تلعب وتتلاعب في كلّ الناس والأشياء، تمامًا مثلما تفعل مع أنوثتها، وإيف فقط تكون استثناء لهذه "القاعدة". 

 

الكابوس

نهايةً، يذكّر المسلسل بأقوال باربرا كريد من مادّتها "المسخ الأنثويّ"؛ فيها تقول إنّ الكتابة النقديّة حول النساء في جانر أفلام الرعب، ركّزت غالبًا على المرأة على أنّها ضحيّة عاجزة أمام الشرّ والمسخ، وذلك تماشيًا مع التحليلَين النفسيّ والاجتماعيّ التقليديَّين. تتحدّى كريد التحليل الفرويديّ واللاكانيّ – الذكوريّ - باعتبار أنّ الخوف أو الفزع من المرأة يكمن في كونها "مخصيّة"/ ناقصة "Castrated"، وتقول إنّ خوف الرجل من أن يُخصى، أدّى إلى أن يطوّر تخيّلًا/ تصوُّرًا آخر فظيعًا، وهو يتمثّل بأنّ المرأة تسعى إلى أن تخصي الرجل.

أقسم أنّ فيلانيل هي الكابوس الأكبر بالنسبة إلى فرويد وأصحابه.

 

 

تمارا ناصر

 

 

دارسة للأدب الإنجليزيّ، والسينما، وعلم النفس. حاصلة على شهادة علاجيّة ولقب ثانٍ من جامعة حيفا في البيبليوترابيا - العلاج بالقصّة، والقراءة، والكتابة.