The Great Hack: خطر الخورارزميات الرقمية على الديمقراطية

المحاضر الجامعيّ دايفيد كارول، أحد الشخصيّات المركزيّة في الفيلم

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

نحن نقبل أن نُستغَلّ ونُحوَّل إلى سلع رقميّة من غير أن نحرّك ساكنًا؛ نحن ندرك – بعضنا على الأقلّ - أنّ بياناتنا تجمعها شركات مواقع التواصل الاجتماعيّ الكبيرة (فيسبوك، وجوجل، وغيرهما)، الّتي تبيعها لشركات الإعلانات الّتي تستهدفنا حسب اهتماماتنا الناتجة عن تفاعلنا في هذه المواقع، كلّ ذلك من غير أن نُبدي أيّ ممانعة في هذا الاستيلاء على معلوماتنا الشخصيّة.

لكنّ الأخطر من كلّ ذلك، عندما تتحوّل عمليّة جمع البيانات الفرديّة وتحليلها، عبر شبكات خورازميّة، إلى تلاعب في خيارات سياسيّة، من خلال الدعاية الموجّهة. هذا ما يكشفه الفيلم "The Great Hack" (وثائقيّ 2019، ساعة و54 دقيقة)، الّذي أطلقته شبكة "نتفليكس" قبل شهرين.

 

البريكست ودونالد ترامب

يتناول الفيلم قصّة شركة "كامبردج أناليتكا"، المتورّطة في التلاعب والتأثير في الانتخابات الأمريكيّة، من خلال دعم دونالد ترامب، ودعم حملة خروج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبّيّ "بريكست" أيضًا، ودور الشركة في جمعها بيانات الناخبين عبر شركة فيسبوك، وتحليلها، وتوجيه حملات إعلاناتها لشرائح معيّنة من خلال مواقع التواصل، مستخدمةً العامل النفسيّ، عبر نشر الأخبار الكاذبة؛ إذ كان لها دور مركزيّ في حسم نتائج الانتخابات لصالح الجهة الّتي تعمل معها الشركة؛ وهو الأمر الّذي يهدّد أسس النظام الديمقراطيّ.

 

 

استخدمت الشركة أكثر من خمسين مليون حساب في فيسبوك، بلا علم أصحاب الحسابات، للمساعدة في حملة ترامب الانتخابيّة عام 2016؛ فكانت بمنزلة الذراع الرقميّة للحملة، وأسهم الدور الّذي قامت به حملة ترامب الانتخابيّة، وحملة خروج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبّيّ، في تعزيز دورها وحضورها بين شركات تحليل البيانات.

عملت الشركة أساسًا على شرائح مجتمعيّة محدّدة، كانت متردّدة في التصويت بين دونلاد ترامب وهيلاري كلينتون، وبين المتردّدين حيال "بريكست". قد يدّعي البعض أنّ الإعلانات لا يمكنها التأثير في شعب كامل، هذا صحيح، لكن هي ليست بحاجة إلى ذلك. إذا نظرنا إلى الأرقام في نتائج الانتخابات الأمريكيّة؛ 70 ألف ناخب فقط في ثلاث ولايات حسموا نتيجة الانتخابات لصالح ترامب، وكانت نتيجة استفتاء "بريكست" متقاربة جدًّا: 52% مقابل 48%، لا حاجة إلى فارق شاسع؛ لذلك فإنّ الشريحة المتردّدة هي الّتي تُستهدَف، من خلال الأخبار الكاذبة والعاطفيّة الّتي تعتمد على التخويف.

 

رجال بيض نافذون

لكن كيف جرى فضح كلّ ذلك؟ هذا ما يرويه الفيلم الّذي يبدأ مع المحاضر الجامعيّ ديفيد كارول من مدينة نيويورك، الّذي يقرّر أن يحصل على بياناته الشخصيّة من شركة "كامبردج أناليتكا"، ويرفع دعوى قضائيّة ضدّها، بعد أن علم أنّ الأخيرة أخذت بيانات 50 مليون مستخدم من فيسبوك، وعملت لصالح حملة ترامب. في الوقت نفسه، يحكي الفيلم عن كارول كادوالادر، الصحافيّة الاستقصائيّة في صحيفة "ذا غارديان"، الّتي أنجزت تحقيقًا صحافيًّا حول علاقة "كامبردج أناليتكا" بحملة "بريكست"، ومن خلال بحثها تكتشف أنّ رئيس حملة ترامب الانتخابيّة، اليمينيّ المعروف ستيف بانون، نائب رئيس في شركة "كامبردج أناليتكا"، وبعد بحث معمَّق تمكّنت من الوصول إلى أحد العاملين السابقين في الشركة، كريستوفر ويلي، وهو عالم بيانات يقرّر أن يكشف أسرار عمل الشركة في الصحافة، ويتّهمها بأنّها آلة بروبوغندا كاملة الخدمات.

صحيفة "ذا غارديان" أنجزت تحقيقًا صحافيًّا حول علاقة "كامبردج أناليتكا" بحملة "بريكست"، ومن خلال بحثها تكتشف أنّ رئيس حملة ترامب الانتخابيّة، اليمينيّ المعروف ستيف بانون، نائب رئيس في شركة "كامبردج أناليتكا"

إضافة إلى هؤلاء الشخصيّات، يتتبّع الفيلم مجريات الأحداث، بعد انتشار الموضوع في الإعلام، مع العاملة السابقة في الشركة، الّتي أبرمت عقد حملة ترامب مع "كامبردج أناليتكا"، بريتني كايزر، الّتي تقرّر أنّها "لم تعُد مهتمّة بالدفاع عن رجال بيض نافذين"، وتكشف هي الأخرى أسرارًا مخفيّة، حول طبيعة عمل الشركة البريطانيّة ودورها في التلاعب بالانتخابات حول العالم.

يطرح الفيلم موضوع استحواذ الشركات الإعلاميّة الكبرى على البيانات الشخصيّة للمستخدمين - الّتي أصبحت قيمتها أكثر من النقط، ودرّت العام الماضي تريليون دولار من الأرباح - من زاوية استخدام هذه البيانات لأهداف سياسيّة، كما يتتبّع مسار فضح "كامبردج أناليتكا" حتّى إغلاقها. كما يطرح الفيلم أسئلة جدّيّة تتعلّق بخطر تأثير التكنولوجيا الرقميّة على حياتنا ومستقبلنا، وعلى النظام الديمقراطيّ في الغرب والعالم. تبدو المسألة أنّها أصبحت أكبر من هذه الشركات وأكبر من أيّ شخص؛ فالأمر لا يتعلّق باليمين أو اليسار، ترامب أو غيره، بل بمسألة جوهريّة تخصّ جميع البشر: أما زال بالإمكان حقًّا أن تحصل انتخابات حرّة وعادلة من جديد؟ هل ثمّة مَنْ يضمن ألّا يحصل تدخّل شبيه مستقبلًا من قِبَل شركات تُسهّل السلطويّة من خلال التلاعب بالناس؟ الأمر المثير أنّ فضيحة "كامبردج أناليتكا" عُرفت للجمهور بعد أن ضربت العمليّة الديمقراطيّة في الغرب، علمًا أنّها عملت سابقًا في العديد من الحملات الانتخابيّة في العالم، واتّبعت الطريقة ذاتها، وأسهمت في وصول أنظمة قمعيّة إلى الحكم.

 

جرائم فيسبوكيّة

يركّز الفيلم على دور شركة فيسبوك في هذا السياق، ويعرض التطوّرات الّتي قادت إلى البدء بمساءلة الشركة، والتحقيق مع مديرها مارك زوكيربيرغ في الكونغرس؛ ففيسبوك اليوم تواجه انتقادات وضغوطات عالميّة، بعد الكشف عن استحواذ "كامبردج أناليتكا" على بيانات نحو 87 مليون مستخدم، واستغلالها في أغراض انتخابيّة حول العالم، من دون موافقتهم. وهو ما أثار أزمة خصوصيّة، ودفع سلطات عدّة إلى اتّخاذ إجراءات بحقّ الشركة؛ فقبل شهرين تمامًا، ومع فترة إطلاق الفيلم، قرّرت "لجنة التجارة الاتّحاديّة الأمريكيّة"، وبعد عمليّة تحقيق أجرتها "هيئة التجارة الفيدراليّة" في قضيّة "كامبردج أناليتكا"، إلى تغريم فيسبوك 5 مليارات دولار، إلّا أنّ قرارًا كهذا لا يمكن اعتباره يحلّ المشكلة، لأنّه يعطي حصانة للمسؤولين التنفيذيّين في فيسبوك؛ إذ لم يضع قيودًا حقيقيّة على نماذج أعمال فيسبوك وانتهاكاتها، علمًا أنّ مبلغًا كهذا يُعَدّ دخلًا لفيسبوك في شهر واحد فقط.

كما يطرح الفيلم أسئلة جدّيّة تتعلّق بخطر تأثير التكنولوجيا الرقميّة على حياتنا ومستقبلنا، وعلى النظام الديمقراطيّ في الغرب والعالم. تبدو المسألة أنّها أصبحت أكبر من هذه الشركات وأكبر من أيّ شخص

ومن الانتقادات العالميّة الّتي شهدها فيسبوك أخيرًا، جاءت على لسان لاري سانجر، المؤسّس المشارك لموسوعة "ويكيبيديا"، الّذي قال: "هذه الشركات تستغلّ البيانات الشخصيّة للمستخدمين، لجني الأرباح على حساب الانتهاكات الجسيمة للخصوصيّة والأمن؛ حين يمكنهم أن يصوغوا تجربتك، والتحكّم في ما تراه، ومتى تراه". وأطلق سانجر إضرابًا ضدّ وسائل التواصل الاجتماعيّ لإثارة الانتباه إلى مخاوفه، وأوضح في "إعلان الاستقلال الرقميّ"، المنشور على مدوّنته الشخصيّة، أنّ الإمبراطوريّات الرقميّة الهائلة يجب أن يُستبدَل بها شبكات لامركزيّة من الأفراد المستقلّين.

وانتقد الشريك المؤسّس لعملاق التكنولوجيا الأمريكيّ "أبل"، ستيف وزنياك، انتقد شركة فيسبوك، ودعا مستخدميها الشهر الماضي إلى أن يتوقّفوا عن استخدامه إذا ما كانوا "يقدّرون" خصوصيّتهم. وأشار إلى أنّ الشركة تغزو خصوصيّة الناس، والطريقة الوحيدة للفرار من ذلك هي المغادرة، وأضاف أنّه يمكن للشركة أن تتنصّت على أجهزة المستخدمين، ولا توجد أيّ طريقة لمنع ذلك. وكان وزنياك قد حذف حسابه على موقع فيسبوك العام الماضي، في أعقاب الكشف عن فضيحة ضلوع شركة الاستشارات السياسيّة "كامبردج أناليتكا"، بالتدخّل في الانتخابات الرئاسيّة الأمريكيّة عام 2016.

 

خدمة تُتاجر بحياتك الشخصيّة

وفي هذا السياق أيضًا، كشفت وسائل إعلام أمريكيّة، قبل أسابيع قليلة، تعاقُد عملاق التواصل الاجتماعيّ فيسبوك، مع مئات من الأشخاص الّذين تلخّص عملهم في الإصغاء إلى مقتطفات من محادثات صوتيّة، لمستخدمي الشبكة الاجتماعيّة ونُسَخها الأخرى؛ وأقرّت الشركة بعد تقرير أعدّته وكالة "بلومبيرغ"، أنّها وظّفت أشخاصًا فعليّين للتنصّت على محادثات المستخدمين الصوتيّة، مدّعية أنّ ذلك كان بإذنهم، وأنّها أوقفت هذه الممارسة. وقالت فيسبوك في بيان لها: "تمامًا مثل أبل وجوجل، أوقفنا المراجعة البشريّة للصوت، قبل أكثر من أسبوع".

ليس هذا الفيلم حتمًا أوّل طارحي هذه الأسئلة، ولعلّنا نجد في شبكة "نتفليكس" المسلسل الدراميّ "بلاك ميرور - Black Mirror" الشهير، الّذي ينطلق من ثيمة خطورة التطوّر التكنولوجيّ الرقميّ

وفي فضيحة أخرى أيضًا، الشهر الماضي، تعرّض نحو 419 مليون رقم هاتف خاصّ بمستخدمي فيسبوك للتسريب، بما في ذلك 133 مليون رقم لمستخدمين من الولايات المتّحدة، و50 مليون مستخدم من فيتنام، و18 مليون رقم آخر لمستخدمين من بريطانيا؛ وهو ما جعلها متاحة للآخرين، وفق ما نشر موقع "سي بي أس".

وأضاف الموقع أنّ فيسبوك قطعت الاتّصال بالبيانات حال معرفة التسريب، وذلك بعد إبلاغ موقع "تيتش كرانتش" في تقرير له عن مضيف "الويب"، وأكّدت فيسبوك قول الموقع، مُعلنةً إجراءها تحقيقًا بشأن الوقت الّذي جُمّعت فيه قاعدة البيانات تلك ولصالح مَنْ.

ويأتي هذا بعد سلسلة فضائح فيسبوك المتعلّقة بخصوصيّة بيانات مستخدميه، بعد اختراق بيانات 87 مليون مستخدم في فضيحة "كامبردج أناليتكا"، و50 مليونًا آخرين في يوم الـ "Log Out"، والاعتراف أيضًا قبل 5 أشهر، بالتحميل عن غير قصد لجهات الاتّصال الخاصّة بالبريد الإلكترونيّ، لنحو 1.5 مليون مستخدم، من دون علمهم.

 

أسئلة التكنولوجيا والمستقبل

لعلّ أبرز ما يضعه الفيلم أمام المشاهد في الختام، الأسئلة المطروحة للمستقبل، المتعلّقة بقدرة التكنولوجيا الرقميّة على التأثير وصياغة مستقبلنا، بشكل يهدّد النظم الديمقراطيّة ويؤدّي إلى تنامي الشعوبيّة، ويثير نعرات التفرقة، في الوقت الّذي كان فيه الهدف من مواقع التواصل والإنترنت التقريب بين الناس.

ليس هذا الفيلم حتمًا أوّل طارحي هذه الأسئلة، ولعلّنا نجد في شبكة "نتفليكس" المسلسل الدراميّ "بلاك ميرور - Black Mirror" الشهير، الّذي ينطلق من ثيمة خطورة التطوّر التكنولوجيّ الرقميّ، فيعرّضها بشكل خياليّ حادّ، مسلّطًا الضوء على ما يمكن البشريّة أن تصل إليه من فقدان السيطرة.

تكمن أهمّيّة هذا الفيلم أيضًا، في أنّه يروي تفاصيل القصّة على أسنة أبطالها، الّذين كانوا يومًا جزءًا من "كامبردج أناليتكا"، وطرحوا على أنفسهم لاحقًا أسئلة أخلاقيّة حول الدور الّذي يقومون به

لكن في الوقت ذاته، يطرح الفيلم جانبًا آخر مهمًّا أيضًا يتعلّق بمُساءلة هذه الشركات وملاحقتها؛ فقد كان كفيلًا بأن يرفع مواطن واحد، كما شاهدنا في الفيلم، دعوى ضدّ "كامبردج أناليتكا" مطالبًا بالحصول على بياناته، حتّى يتحوّل الموضوع إلى قضيّة رأي عامّ، وتبرز هنا أهمّيّة الصحافة ودورها، ولا سيّما الصحافة الاستقصائيّة، الّتي تقصّت هذه القضيّة وأخرجتها إلى الرأي العامّ.

كما تكمن أهمّيّة هذا الفيلم أيضًا، في أنّه يروي تفاصيل القصّة على ألسنة بالأبطالها، الّذين كانوا يومًا جزءًا من "كامبردج أناليتكا"، وطرحوا على أنفسهم لاحقًا أسئلة أخلاقيّة حول الدور الّذي يقومون به. هؤلاء الأبطال ينحون اليوم منحًى آخر في حياتهم، تجاه قضيّة البيانات الشخصيّة للمستخدمين، من خلال حملات التوعية والنشاط، بهدف وضع أحكام وسياسات تنظّم عمليّة الحفاظ على الخصوصيّة، بعيدًا عن تلاعب الشركات، وحملات تطالب بالحقّ في البيانات الّتي نوافق على أن نسلّمها للشركات؛ لأنّنا لا نقرأ شروط الاستخدام الطويلة والمضلّلة.

من المؤكّد أنّ في السنوات القادمة، سنشهد المزيد من هذه الفضائح، والمزيد من الحِراكات المطالِبة بحماية البيانات، ومن غير المستبعد أن تصبح قضايا البيانات الشخصيّة - على تنوّع مجالاتها والتهديدات الناجمة عنها – شبيهة، في أهمّيّتها والنقاش السياسيّ حولها عالميًّا، بقضايا التغيّر المناخيّ وتحدّياته، بالنسبة إلى العديد من الناشطين.

 

 

ربيع عيد

 

 

صحافيّ فلسطينيّ، كاتب وعضو طاقم في فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة. يعمل في الصحافة منذ عدّة سنوات. كتب في العديد من المواقع والصحف العربيّة، كما عمل رئيسًا لتحرير صحيفة فصل المقال. حاصل على البكالوريوس في  العلوم السياسيّة من جامعة حيفا، والماجستير في الإعلام والدراسات الثقافيّة من معهد الدوحة للدراسات العليا.