"شجرة الكمّثرى البرّيّة"... عن الآباء والأبناء

سنان ووالده في فيلم "شجرة الكمّثرى البرّيّة"

 

الفيلم الجديد للمخرج التركيّ نوري بيلجي جيلان، "شجرة الكُمَّثرى البرّيّة"، الّذي عُرض وشارك في "مهرجان كان السينمائيّ" عام 2018، يمتدّ إلى ما يزيد على ثلاث ساعات، في خليط مثير وعميق من لحظات صمت وتأمّل، وحوارات طويلة وثقيلة لكمّيّة التفاصيل والمواضيع المعقّدة والمركّبة الّتي تتناولها.

إيقاع الفيلم بطيء وطويل، لكنّه في نفس الوقت غنيّ في مواضيعه وثيماته ورموزه، فتصبح المشاهدة الأولى أشبه بانطباع أوّليّ يحتاج إلى مشاهدات أخرى، من أجل النظر بشكل أعمق إلى العوالم الداخليّة للشخصيّات والحوارات المعقّدة بينها؛ فالحوارات في الفيلم تبدو كأنّها مأخوذة من رواية، تنتقل إلينا عبر عشرات السطور من الترجمة، فنشعر للحظات معيّنة بأنّنا "نقرأ" الفيلم بدل أن نشاهده، وهذا الأمر ليس بغريب أو بمفاجئ، نظرًا إلى أنّ الكثير من قصص أفلام جيلان متأثّر بالأدب، وخاصّةً الأدب الروسيّ؛ إذ إنّ فيلمه قبل الأخير، "Winter Sleep"، الحائز على "جائزة السعفة الذهبيّة" في "مهرجان كان السينمائيّ" عام 2014، مستوحًى من قصّة "الزوجة" لأنطون تشيخوف، وبإمكاننا إيجاد إحالات وإشارات في هذا الفيلم أيضًا، لثيمات مركزيّة في روايات دوستويفسكي وتولستوي وتشيخوف.

 

الحكاية

تدور أحداث الفيلم حول عودة سنان (الممثّل دو ديمركول) من مدينة "تشاناكالي"، إلى مسقط رأسه في قرية "تشان" الريفيّة، بعد أن أنهى تعليمه الجامعيّ، محاولًا إيجاد تمويل لنشر روايته الأولى، الّتي تحمل اسم "شجرة الكُمَّثرى البرّيّة". يعود سنان بعد سنوات فيجد أباه إدريس (الممثّل مرات سمسير)، معلّم المدرسة، متورّطًا في ديون للعديد من الأشخاص، بسبب إدمانه على المقامرة في سباقات الخيول. يتنقّل سنان خلال الفيلم بين المدينة والقرية، وبين بيت العائلة والحقل، حيث يكون والده معظم الوقت، محاولًا حفر بئر كي يروي من مياهها الحقل، ويجعل منه أرضًا خصبة تُطعم المواشي.

 

 

يتّضح لنا تدريجيًّا أنّ الوضع المادّيّ الصعب للعائلة، يصل أحيانًا إلى انقطاع الكهرباء في البيت لعدم دفع الفواتير، وهو ما يخلق حالة من انعدام المصادر الأساسيّة للحياة كالطعام، ثمّ إنّ الوضع الاقتصاديّ الصعب يُجبر الأمّ على أن تعمل جليسة أطفال، وهذا ما تعتبره في جيلها أمرًا مهينًا، ونراها أحيانًا هي نفسها مضطرّة إلى استقراض المال من الجيران، كي يستطيع سنان الوصول إلى "مركز الامتحانات القطريّة للمعلّمين". يأتي بحث سنان عن تمويل لنشر روايته الأولى، موازيًا لبحثه عن مهنة تضمن له لقمة العيش، نراه يتقدّم لامتحان تأهيل المعلّمين لكنّه يفشل.

 

نوافذ الابن

خلافًا لوالده الّذي يتمتّع بسحر وجاذبيّة، وقدرة على الفكاهة والبشاشة على الرغم من كلّ الصعاب الّتي تواجهه، يُصَوَّر سنان على أنّه فتًى متشائم، يُساء فهمه، وتصرّفاته تعكس لنا إحباطاته واحتقاره للركود الريفيّ والإحساس الغاضب باستحقاقه الفنّيّ. يتعالى سنان على سكّان القرية، ويعترف لصديقه عبر الهاتف برغبته في "إسقاط قنبلة ذرّيّة على هذا المكان"، لكنّنا نراه على مدار الفيلم يلتقي أشخاصًا مختلفين من القرية؛ فبينما يجتمع بسياسيّين ومموّلين محلّيّين لنشر روايته، يلتقي خديجة أيضًا - الفتاة الّتي كان يحبّها أيّام المدرسة-، ورجال دين، في تسلسل مثير وعميق عن التحدّيات الّتي تواجه الدين في عالمنا الحديث وعصر التكنولوجيا. وأخيرًا، حين يلتقي مؤلّف روايات معروفًا، نرى كيف تتحوّل المحادثة بينهما من إبداء سنان إعجابه في كتاباته، إلى إهانته واللحاق به في طريقه إلى البيت، حتّى يصرخ عليه الكاتب مطالبًا إيّاه أن يتركه.

توفّر هذه اللقاءات المختلفة والمحادثات "الفذّة"، إضاءات مهمّة على المشاكل والتحدّيات المتعلّقة بالحياة في تركيا اليوم، ومكانة الفنّان فيها. جميع هذه المواضيع - الدين، والتكنولوجيا، والأخلاق، والإرادة الحرّة، والزواج، وطبيعة الواقع، والتأمّل الذاتيّ - تحوّل مسيرة سنان في الفيلم إلى أوديسة شخصيّة روحانيّة نحو التنوير والوعي.

الحوارات في الفيلم تبدو كأنّها مأخوذة من رواية، تنتقل إلينا عبر عشرات السطور من الترجمة، فنشعر للحظات معيّنة بأنّنا "نقرأ" الفيلم بدل أن نشاهده، وهذا الأمر ليس بغريب أو بمفاجئ، نظرًا إلى أنّ الكثير من قصص أفلام جيلان متأثّر بالأدب...

تفتح لنا هذه التبادلات نوافذ نفهم من خلالها نظرة سنان إلى العالم؛ فيبرز انعدام وجود القوّة المحفّزة في حياته، الّذي يتمثّل بنظرته الكئيبة إلى الحياة والعلاقات الإنسانيّة. على الرغم من أنّه يريد إلقاء قنبلة ذرّيّة على القرية، إلّا أنّه في حديثه مع خديجة لا يُظهر أيّ مشاعر مختلفة تجاه المدينة الكبيرة والعالم الأكبر. حين تخبره خديجة بأنّها تحلم برؤية العالم واكتشاف مدن بعيدة مختلفة، يجيب سنان بأنّه زار كلّ هذه الأمكنة، ولا شيء فيها يستدعي الإثارة والجمال. تكشف هذه المحادثات واللقاءات بين سنان والناس عمق أزمته الوجوديّة، والصعوبة في مواجهة عبثيّة الحياة.

تتّسم طريق سنان نحو تحقيق أدائه الفنّيّ بالتعقيد المستمرّ، فيدرك أنّ الاحتمالات الوحيدة الممكن تحقيقها للكتّاب والمبدعين - خاصّةً أولئك الّذين يعيشون بعيدًا عن إستنبول - هي العمل في وظائف غير ذات صلة؛ فإمّا أن يصبحوا مدرّسين، وإمّا أن يتّجهوا نحو مهن أكثر ربحًا، وهي الانضمام إلى القوّات البوليسيّة، كصديق سنان الّذي نتعرّف عليه فقط من خلال مكالمة هاتفيّة، في المشهد ربّما الأكثر نقدًا بشكل مباشر للواقع السياسيّ في تركيا. جميع هذه التفاصيل تُوَظَّف لنقد حالة البطالة للشباب في تركيا، والمكانة الثانويّة للثقافة والتعليم والفنون.

 

الأب يبكي كلبه

على الرغم من الصعوبات والإحباطات، وحقيقة أنّ فرص كسب العيش من الكتابة تبدو باهتة كلّ يوم، إلّا أنّ سنان يثابر، مع اقتناع قويّ ينبع من تصميمه على عدم اتّباع خطى والده، وهو كاتب سابق تخلّى عن طموحاته أمام واقع الحياة القاسي. ربّما يكون هذا السبب الحقيقيّ في العلاقة المتوتّرة بينهما، الّتي نشهدها طوال الفيلم: خوف سنان الشديد من مصير فاشل شبيه بمصير والده.

إنّها اللحظة المفصليّة في الفيلم، حين تأخذ الأحداث مجرًى آخر وتكشف الجانب الخفيّ لعالم الأب، حين يتّضح لنا ولسنان وعائلته مدى تعلّق الأب بكلبه؛ ففي أحد المشاهد بين سنان وأمّه، بعد نشر الرواية، تحكي له أمّه عن ليلة استيقظت فيها، فوجدت زوجها منزويًا في غرفة من غرف البيت يبكي كلبه...

ينجح سنان نهاية المطاف في نشر روايته، عن طريق بيع الشيء الوحيد الّذي يجلب إلى أبيه السعادة في هذا العالم، ألا وهو كلبه. إنّها اللحظة المفصليّة في الفيلم، حين تأخذ الأحداث مجرًى آخر وتكشف الجانب الخفيّ لعالم الأب، حين يتّضح لنا ولسنان وعائلته مدى تعلّق الأب بكلبه؛ ففي أحد المشاهد بين سنان وأمّه، بعد نشر الرواية، تحكي له أمّه عن ليلة استيقظت فيها، فوجدت زوجها منزويًا في غرفة من غرف البيت يبكي كلبه. فقدان الأب كلبه يدفعه تدريجيًّا إلى ترك المنزل، والاستقرار في البيت الصغير في الحقل ليعتني بالمواشي.

في تسلسل المشاهد الأخيرة للفيلم، نرى أنّ الشخص الوحيد الّذي قرأ رواية سنان هو والده، ونراهما في المشهد الأخير يتحدّثان عن الماضي، والمستقبل، والأحلام، وعن شجرة الكُمَّثرى البرّيّة.

 

بئرٌ تُحفر

تأخذ الاستعارة المركزيّة في الفيلم - شجرة الكُمَّثرى الوحيدة، المشوّهة والغريبة - بُعدًا مجازيًّا وحرفيًّا. يذعن سنان في النهاية إلى قبول العديد من أوجه التشابه بينه ووالده؛ كلاهما روحان ترفضان الخضوع لسخرية الحياة ومرارتها، كلاهما يشبهان شجرة الكُمَّثرى المنعزلة الغريبة الأطوار والمشوّهة. ثمّة حزن عميق وجميل يتخلّل الفيلم كلّه، ويصل ذروته في ذلك المشهد الّذي تنحصر فيه جميع الاستعارات والرموز البصريّة، الّتي تمتدّ على مدار الفيلم كلّه، حين يتكشّف البوح والتقارب الأخير الّذي نشهده بين الأب وابنه، بألم سنان الكبير من جهة ورغبة كليهما في ذلك القرب والدفء.

"شجرة الكُمَّثرى البرّيّة"فيلم رثائيّ، محكم في المشاعر والصور والأفكار. إنّه بمنزلة لوحة تتعمّق في ذاتها، وتكشف التوتّرات الّتي تسود تركيا اليوم؛ توتّرات تتجلّى في علاقة سنان بوالده: التوتّر بين جيل الماضي وجيل المستقبل، والتوتّر العائليّ والروحانيّ والثقافيّ.

يذعن سنان في النهاية إلى قبول العديد من أوجه التشابه بينه ووالده؛ كلاهما روحان ترفضان الخضوع لسخرية الحياة ومرارتها، كلاهما يشبهان شجرة الكُمَّثرى المنعزلة الغريبة الأطوار والمشوّهة.

موضوع علاقة الأب بالابن، دائمًا كان وما زال من المواضيع المركزيّة في الأدب والفنون. أشهر الأعمال الأدبيّة والمسرحيّة تمحور حول هذه العلاقة، من قصص التوراة إلى "رسائل كافكا" إلى أبيه، إلى مسرحيّة "هاملت". إنّها العلاقة الصعبة المعقّدة، الّتي ترافق البطل طوال حياته، وتحتلّ كيانه ووجوده حتّى تمسح كلّ شيء فيها.

حين كان كافكا مريضًا يلازم الفراش، كما جاء في رسائله، حضر والده إلى الغرفة فوقف على الباب، وأدخل رأسه قليلًا رافعًا نفسه، ليتمكّن من رؤية ابنه في السرير. لوّح له بيديه، وكانت تلك اللحظة من أسعد لحظات حياة كافكا؛ تلك اللحظة القصيرة البسيطة، حين يختفي كلّ شيء ليحلّ مكانه شعور الانتماء، والدفء والحبّ.

إنّها ذات اللحظة في الفيلم، وتلك اللحظة الّتي بدونها ما كنّا رأينا سنان في آخر مشهد في الفيلم، يحفر البئر بعزيمة وقوّة؛ بدون تلك اللحظة ما وُلدت من جديد رغبته في الحياة، وأمله في وجود مياه تحت الأرض.

 

 

شادن هيب

 

من مواليد الناصرة عام 1993. حاصلة على البكالوريوس في الأدب الإنچليزيّ وتاريخ الفنّ والسينما من "جامعة تل - أبيب"، تدرس الماجستير في الأدب الإنچليزيّ في الجامعة نفسها.