"الهديّة": سينما رفض الاعتياديّ

 

مشهد سينمائيّ جديد عن الحاجز؟ سألني متذمّرًا.

قلت: ولِمَ لا؟ هل ثمّة قانون ينظّم ويحدّد كمّ التصوّرات الممكن إنتاجها، عن الوجع الممتدّ من الماضي إلى الحاضر والمستقبل، من خلال ثقوب القهر؟

غالبًا ما نُسْتَفَزّ لمشاهدة فيلم عربيّ أو فلسطينيّ حصرًا مع ترشّحه أو فوزه بجائزة دوليّة، وقد يخيب أمل البعض من أنّ الفيلم لا يقدّم مادّة تتناسب مع ذوقنا «الجمعيّ»، لا يقع ضمن المساحة السينمائيّة الدارجة، ولا يتفذلك في صنع مؤثّرات تقرّبنا من الفنتازي الهوليووديّ، أو أنّ البعض قد يدّعي أنّ الفيلم يجترّ قضيّة معالجة ومتكرّرة فأُصيبوا بالملل، أو أن تخالفهم شريحة أخرى وتنبهر من الفيلم. الأفلام القصيرة غالبًا ما تكون المرمى لمثل هذه الردود، وتخضع لطَيف متنوّع من النقد.

الفيلم محاولة لاختزال الثرثرة وتكثيف المعاناة تصويريًّا، مستعينًا بالحضور السينمائيّ المتميّز للممثّل صالح بكري.

فيلم «الهديّة» للمخرجة الفلسطينيّة – البريطانيّة فرح النابلسي تَرشّح للأوسكار أخيرًا، وهو مدرج ضمن قائمة أفلام «نتفلكس»، دون أن ينتبه معظمنا لوجوده. يذهب إلى مسابقات الأفلام العالميّة، مدركًا أنّه لا يقدّم شرحًا سياسيًّا خطابيًّا، وإنّما يغامر، معتمدًا على الحضور الحسّيّ لممثّليه، والكاريزما البصريّة لبطلَيه لتخدم مساحته القصيرة، ولتطيل التمعّن بكلّ طروحاته المختزلة سينمائيًّا.

يقدّم «الهديّة» موهبة طفلة فلسطينيّة تجيد التمثيل، تُمْسِكَ بدورها جيّدًا، تعرف أنّ الفيلم مدّته خمسة وعشرون دقيقة، وعليها اختصار الكلام لتشبه الواقع القمعيّ. تؤدّي التعابير الحركيّة والبصريّة والحسّيّة دورًا مركزيًّا؛ لتعبّر عن عشرات السنين من حياة الناس ومعاناتهم تحت الاحتلال. يتعامل الفيلم بنجاح مع أحد أهمّ تحدّيات الأفلام القصيرة، وهو ملاءَمة الموضوع السينمائيّ للوقت. الفيلم محاولة لاختزال الثرثرة وتكثيف المعاناة تصويريًّا، مستعينًا بالحضور السينمائيّ المتميّز للممثّل صالح بكري.

 

أن يُنْتِجَ فلسطينيّ فيلمًا

انطلقت السينما في أوائل القرن الماضي، بالأساس، من خلال الأفلام القصيرة، وذلك قُبيل التحوّل التدريجيّ نحو إنتاج الأفلام السينمائيّة الطويلة (الروائيّة). أصبحت الأفلام الطويلة تتقدّم المشهد السينمائيّ، المشهد الأكثر استهلاكًا ورواجًا، تحرّكه دول وشركات كبرى، وتخضع صناعة الأفلام لمعايير وأولويّات الهيكليّة الرأسماليّة الّتي تمنح مساحات التحرّك للفرد من جهة، وتفرز أدوات الضبط من الجهة الأخرى.

رواج السينما وانتشارها أدّى إلى نشوء أكاديميّات السينما في العالم وتوسّعها، وأصبح هناك العديد من الطلّاب والخرّيجين في مجال السينما، لا يمتلكون الموارد للانخراط في دوائر إنتاج الأفلام السينمائيّة الروائيّة؛ وبذلك، تحوّلت الأفلام القصيرة إلى فضاء سينمائيّ تنشط به تيّارات وأفراد راديكاليّة، نسويّة، مثليّة، ونافذة للأقلّيّات وللشعوب المضطهدة، لإيصال صوتها إلى العالم. تدريجيًّا، لاقت هذه الأفلام مكانها في المهرجانات، ونوادي السينما الخاصّة، والمراكز الثقافيّة، لتثبت مساهمتها النوعيّة في إثراء السينما. ورغم النجاحات الّتي تُحَقِّقُها الأفلام القصيرة، ثمّة صعوبة كبيرة في مزاحمة منظومات التسويق والترويج، الّتي تمتلكها ماكنات الإنتاج السينمائيّ الكبيرة. عربيًّا، لا تزال الأفلام السينمائيّة القصيرة لا تحظى بالاهتمام المطلوب لدى الكثيرين، سواء من الجمهور العامّ أو في أروقة العمل الثقافيّ، بالنظر إليه منتَجًا غير سينمائيّ، أو لاعتبارها سينما متمرّدة تطرح قضايا خلافيّة وراديكاليّة، أو لأسباب تتعلّق بالربحيّة.

 

 

يحاول فيلم «الهديّة» طرح مادّة سينمائيّة وسط إنتاج أفلام فلسطينيّ متعدّد ومحدود، سواء أفلامًا روائيّة طويلة كانت تلك أو قصيرة، جميعها يواجه تحدّيات الإنتاج في مناخ يخضع برمّته للهيمنة الكولنياليّة، يكون فيه الإنتاج السينمائيّ الفلسطينيّ أشبه بمهمّة مستحيلة، وذلك بحكم المتطلّبات المهنيّة، اللوجستيّة منها والفنّيّة، الأساسيّة لإنتاج أيّ فيلم، وتصبح مهمّة استحضار هذه المتطلّبات «فيلمًا» بحدّ ذاتها، أمام هذه الهيمنة الّتي تتجلّى بـأوجه ونواحٍ متعدّدة تطال تفاصيل الحياة الفلسطينيّة، وتلزم العاملين في الحقل السينمائيّ، كلّ مرّة من جديد، ببذل جهود استثنائيّة في كيفيّة تجاوز المعيقات، أو محاولة التعامل معها وتطويعها لضرورة الإنتاج السينمائيّ.

هذا المناخ المحكوم لآلة الاحتلال وأدواته يفرز إشكاليّات ومعيقات دائمة، حول كيفيّة التعامل مع الغياب شبه التامّ للرأسمال الفلسطينيّ، وفي غياب أكاديميّات سينما فلسطينيّة، وتحدّيات تجنيد مال محلّيّ وخارجيّ لتسهم في الإنتاج السينمائيّ.

لا يمكن حركة النقد السينمائيّ العالميّة والمحلّيّة (إن وُجِدَت) تقديم قراءة فنّيّة نقديّة للسينما الفلسطينيّة، المشتَّتة جغرافيًّا، بمعزل عن كلّ هذه التحدّيات. تحت هذا الواقع المحاصَر تحاول إنتاجات الأفلام القصيرة لشابّات وشبّان فلسطينيّين، التسلّل لميدان السينما العربيّة والعالميّة في واقع محاصَر محلّيًّا ودوليًّا.

 

قصّة الإنسان والأشياء

فيلم «الهديّة» يقدّم قصّة عن الإنسان والشيء تحت الاحتلال، قصّة هديّة لعيد زواج. يبدأ الفيلم بمشهد مبيت العامل الفلسطينيّ في العراء، يليه عبور الحاجز المزدحم بالأجساد الحيّة المقهورة. بعدها تُضيء الكاميرا فضاء غرفة النوم ومطبخ الزوجين وابنتهما، لِتَرْصُدَ حوارًا عائليًّا قصيرًا، ومن بعدها خروج يوسف (صالح بكري) وياسمين (مريم كنج) مودّعَين الأمّ (مريم الباشا) في مشوار يبدو اعتياديًّا للتبضّع وشراء الهديّة، «ثلّاجة» للحياة الزوجيّة.

تمنحنا الثلّاجة (البرّاد) فرصة لتأمّل العناصر الّتي يمكنها أن تشكّل إلهامًا للمادّة السينمائيّة، والموادّ الفنّيّة عمومًا، في سياقنا الفلسطينيّ...

في هذا المشوار العائليّ «الترفيهيّ»، يقدّم الفيلم اللقاء الاعتياديّ للفلسطينيّ بالحاجز، اللقاء اليوميّ. يصطدم المشوار لإحضار الهديّة بمعيقات أصبحت «اعتياديّة»، ويقدّم صورة مرعبة لاعتياديّة الحياة اليوميّة تحت الاحتلال. ينتهي الفيلم بعبور «الهديّة» تاركًا لدى المشاهد «الاعتياديّ» صدمة وحالة ضيق تقترب من حدّ الاختناق.

تمنحنا الثلّاجة (البرّاد) فرصة لتأمّل العناصر الّتي يمكنها أن تشكّل إلهامًا للمادّة السينمائيّة، والموادّ الفنّيّة عمومًا، في سياقنا الفلسطينيّ، وكيف لهذه العناصر أن تكون مركّبًا لوجستيًّا وفنّيًّا وإنسانيًّا في نفس الوقت، وعن المساحات الممكنة لاشتباك اللوجستيّ الفنّيّ بالحسّيّ لإحداث تواصل إنسانيّ، وطرح لغة سينمائيّة وفنّيّة يمكن أن تتجاوز محلّيّة الفيلم وتواضع إمكانيّاته، لتُنْتِجَ واقعًا إنسانيًّا وسياسيًّا عابرًا للمكان وإحداثيّاته الجغرافيّة. تشكّل الثلّاجة دعوة للنقاش حول المدى المفتوح، والمحاصر بنفس الوقت، في كيفيّة الاستفادة من الموادّ الاعتياديّة المتاحة، وتحويلها إلى فعل سينمائيّ أو فنّيّ آخر. يشكّل الشيء – الثلّاجة - نموذجًا لكيفيّة موضعة الموادّ الاعتياديّة في حياتنا اليوميّة، كالزعتر والعكّوب مثلًا، أو آلات الحراثة أو العزف إلى عناصر ملهمة تدفع الفكرة الفنّيّة إلى الأمام؛ لإنتاج مقولات سياسيّة واجتماعيّة، دون أن تكون انطلاقته مرتبطة بوجود موارد ماليّة عملاقة قد تُفْقِد العمل الفنّيّ من منسوب استقلاليّته الأيديولوجيّة، ومن حجم انتسابه وانتمائه لقضايا شعبه.

 

هديّة لا تلتزم التفاصيل

يلفت انتباهنا «الهديّة» إلى أنّ عائلة الأفلام القصيرة قد لا تلتزم - وغالبًا لا تلتزم - بنسخ متقن للأدوار، ولا تمتلك الموارد لتحريك أعداد من الناس للتلاؤم مع الحقيقة على الأرض، لكن بطبيعة الأفلام القصيرة، وضمن مقدراتها الفكريّة والتمثيليّة، سواء محترفة كانت أو مواهب، قادرة على إحداث اختراقات في الفكرة وفي الحراك التمثيليّ، كمشهد الحاجز في بداية الفيلم، وبالتالي ملامسة الوعي العامّ والسينمائيّ بشكل خاصّ.  

بطبيعة الأفلام القصيرة، وضمن مقدراتها الفكريّة والتمثيليّة، سواء محترفة كانت أو مواهب، قادرة على إحداث اختراقات في الفكرة وفي الحراك التمثيليّ...

بعض الانتقادات الموجّهة إلى الفيلم تركّز حول تكرار «سينما الحواجز»، أو لأنّ اللغة العبريّة غير متقنة، أو نقد يُوَجَّه إلى استعمال الإنجليزيّة بالحوارات مع الجنود بادّعاء مخالفتها للواقع. هذه الانتقادات لا ترى أنّ الفيلم، كأفلام فلسطينيّة أخرى، يرفض أن يسلّم بحقيقة وجود الحاجز كحالة اعتياديّة تخنق أوكسجين الفضاء، ويعطي قيمة تتجاوز الرمزيّة، ترفض التعاطي مع «اعتياديّة» اللغة أداةً للقمع، وبالتالي تسليط الضوء على هويّة «الغريب».

لم أخض تفاصيل الفيلم، تاركًا ذلك للمشاهد، لكن هي قراءة مُخْتَصَرُها أنّه بمقدور سينما الأفلام القصيرة أن تتبوّل على الاحتلال وتنتصر لياسمين.

 

 

«الهديّة» (25 دقيقة).

إخراج: فرح نابلسي. تمثيل (أدوار رئيسيّة): صالح بكري، ومريم كنج، ومريم الباشا.

إنتاج: نيتيف ليبيرتي Native Liberty.

 

 

فايد بدرانة

 

 باحث وكاتب. حاصل على البكالوريوس في علم الاجتماع والأنثربولوجيا والعلوم السياسيّة، والماجستير في مجال السياسات العامّة من الجامعة العبريّة في القدس، كما يحمل شهادة في الدراسات الثقافيّة. يحضّر لرسالة الدكتوراه في موضوع المجتمع المدنيّ وبلورة الهويّة الوطنيّة في الجامعة العبريّة. كتب عدّة مقالات في السياسة، والنقد الموسيقيّ والمسرحيّ، والسينما.