الدود الّذي يأكل معدة الباكي

أنثوني من فيلم The Father، وجاك من فيلم I'm Thinking Of Ending Thing

 

"وكلّ الأشياء الّتي رغبت فيها، حصلت كما أردت"، "والفتاة الّتي أردتها ليست خائفة من ذراعي"، هكذا أراد جاك أن ينهي قصّته، في عالم الحلم الّذي صنعه، بقليل من الأمل ينهي حياته البائسة. ليست هذه هي المرّة الأولى الّتي تتناول فيها السينما موضوع الوحدة، يمكننا ذكر «Eternal Sunshine of the Spotless Mind» (2004) مثالًا، وبالطبع ليست هذه هي المرّة الأولى الّتي تتناول فيها السينما أسلوب الراوي غير الموثوق في سرد القصّة، ومثال ذلك «Fight Club» (1999)  لديفيد لينتش.

هذه الأمثلة بالطبع ليست وحيدة في ظلّ الوسطيّة أو الرداءة لأعمال أخرى كثيرة لم تنقذها الفكرة أو الموضوع، وهنا نأتي إلى فيلمَي «The Father» (2020) للمخرج فلوريان زيلار وبطولة أنثوني هوبكينز وأوليفيا كولمان، وكذلك «I'm Thinking Of Ending Thing» (2020) للمخرج تشارلي كوفمان وبطولة جيس بليمونز وجيسي باكلي وطوني كوليت، وهما مثالان مختلفان في الأسلوب، متشابهان في الموضوع، وجديران باعتبارهما من الأمثلة الممتازة لهذا السرد المعقّد.

 

 

في المشاهد الأولى للفيلمين، ينظر كلٌّ من جاك وأنثوني عبر النافذة، نحو عالم لم يَعُد تحت سيطرتهما؛ جاك ينظر نحو ما كان يمكن أن يكون «الحبّ»، المتمثّل بشخصيّة لوسي، وأنثوني ينظر إلى ابنته وفقدانه «للزمن» المتمثّل في الفيلم بالبحث الدائم عن الساعة.

كلا الشخصيّتين في الفيلمين تفقدان القبضة على ما هو حقيقيّ، وما هو أجزاء من الخيال والذاكرة؛ جاك الّذي يفتقر إلى الثقة في النفس طوال حياته، وقلقه الدائم من الفشل والخيبة في الحبّ، وما كان يمكنه أن يكون إلى أن انتهى أمره آذنًا في مدرسة ثانويّة، لا يراه أحد ولا يقلق به أحد، وأنثوني الّذي يخشى من أن تتركه لا ذاكرته فقط، بل ابنته آنْ أيضًا.

 

رواة غير موثوقين

يُهَيَّأ لنا في الثلث الأوّل من فيلم «I'm Thinking Of Ending Thing» أنّنا نتتبّع قصّة لوسي في رحلتها للقاء والدَي حبيبها جاك، وشكّها في ما إذا كانت تستطيع إكمال هذه العلاقة أو لا، أو إن كانت تستمرّ فيها فقط لأنّه من الأسهل البقاء في علاقة غير صحّيّة بدل إنهائها، لكن، وفي خضمّ الكثير من الحوارات تبدأ لوسي بسرد قصيدة «Bonedog»، الّتي تدّعي أنّها كتبتها، بينما يردّ جاك بأنّه يشعر أنّ هذه القصيدة تتكلّم عنه، لكن في الحقيقة أنّ هذه القصيدة هي لإيفا إتش. دي.، وهنا يتبيّن تأثّر جاك بالكثير من الكتب والأشعار واللوحات، وتخيّله بأنّه هو كاتبها أو راسمها، في ما يتبيّن أنّه خلال نشأته لم يفعل إلّا إعادة كتابتها أو رسمها؛ لعلّه يستطيع أن يستوحي من خلالها عملًا أصليًّا له. هذه الأحلام الّتي كانت مصدر فخر لأمّه، بينما لم يجد من أبيه إلّا الاستخفاف بها، وهذا ما جعله يترك كلّ ما حاول بناءه خلال حياته.

تدخل لوسي إلى غرفة جاك القديمة، فتجد صورة لها وهي صغيرة، غير أنّها تتحوّل فجأة إلى صورة جاك وهو صغير، هنا ندرك أنّ لوسي وجاك ما هما إلّا جزء من خيال وأحلام جاك غير المتخيّل، تتداخل وتتغيّر دون سابق إنذار، كما يتغيّر اسم الفتاة «الحبّ» إلى لوسي ولويتشيا وإيمز، دون معنًى، بينما يبقى تجسيده في الحلم «جاك» كما هو، بحيث يشير هذا إلى توقه إلى الحبّ، لا فتاة بعينها، بل بتجسيدها الأنثويّ.

أمّا عن أنثوني فيبدو الانتقال بين المشاهد المختلفة مربكًا حتّى نهاية الفيلم. تتغيّر أدوار الشخصيّات وأشكالها، يتغيّر شكل آن، يتغيّر شكل زوجها، يتغيّر حوارهما ويتداخل، بينما يفلت أنثوني قبضته على ما هو واقعيّ، يتغيّر الأثاث باستمرار، تختفي وتظهر اللوحات في أماكن مختلفة، يختلف المكان رغم تشابهه، تدريجيًّا وبشكل متخبّط نفهم ما حدث للوسي، بينما تبقى آن الحيّة غامضة، حيث لوسي بين حالتين، الموت والاختفاء، أمّا آن فهي بين حالات عديدة: البؤس، الوحدة، القبح، السعادة، الزواج، الطلاق، الرحيل، باريس.

 

خنزير مزرعة تنهشه الديدان

في الثلث الأخير من فيلم «I'm Thinking Of Ending Thing» يتداعى حلم جاك غير المتخيّل، في الرقصة الأخيرة لما هو التجسيد المثاليّ لنفسه ولحبيبته المتخيّلة. يقتل الآذن (تجسيد القلق لدى جاك) الراقص الذكر، وبهذا يظهر كيف أنّ قلق جاك وخوفه هما ما جعلاه في النهاية وحيدًا في عالم غير مبالٍ، وهي سرديّة لا تتماشى مع الدراما الرومانسيّة عادة، بأنّ الإنسان الجيّد سيكسب حبّ الفتاة، أو أنّها ستنظر من خلاله إلى جوهره رغم كلّ شيء في النهاية.

 

 

نهاية جاك باردة. في تلك الليلة الباردة يخلع ملابسه في شاحنته الفورد، وفي حلم أخير يتبع خنزيرًا ناطقًا يملؤه الدود، مشيرًا بذلك إلى مشهد في النصف الأوّل من الفيلم، حيث ينفق عدد من الخنازير في مزرعة أبي جاك بسبب إهماله لها؛ ما أدّى إلى تفشّي الدود فيها. يرمز هذا المشهد إلى الإهمال والاستهزاء الّذي أوقعه الأب على جاك خلال نشأته.

يقول الخنزير: "ليس سيّئًا للغاية عندما تتوقّف عن التفكير لأنّك مجرّد خنزير، أو أسوأ خنزير مليء بالدود. في النهاية، على أحد أن يكون خنزيرًا مليئًا بالدود، إنّه مجرّد حظّ! تلعب بما لديك من أوراق، وتمضي فقط، لا تقلق حيال شيء... ثمّة طيبة في العالم، عليك فقط أن تبحث عنها... حتّى الآن كخيال، كشبح، كذكرى، كرماد كما ستصبح أنت، كلّ شيء متماثل حين تمعن النظر كفاية، بصفة فيزيائيّ، أن تعلم ذلك، أنت، أنا، الأفكار، جميعنا شيء واحد!".

 

نهايتان من وحدة

في النهاية، ينهي جاك حياته وحيدًا، يتجمّد من البرد حيث يراوده حلمه الأخير، يجد فيه الحبّ، يحصل فيه على جائزة «نوبل»، يقف له كلّ مَنْ تنمّر عليه أبواه، رفاق المدرسة وحبيبته، يصفّقون إلى ما يشبه الشبح، ينتهي الفيلم على لقطة طويلة، لما يشبه شاحنة قد غطّاها الثلج، لوحة في غاية الجمال والسكينة، كان أبو جاك سيكرهها حتمًا.

أمّا أنثوني، فيستيقظ هذه المرّة في مكان مختلف تمامًا، غرفة صغيرة في دار عناية للعجزة، تقبل الممرّضة عليه، يصرخ: "مَنْ أنت؟ أين أنا؟ أين آن؟"، حيث ندرك، في تلك اللحظة تحديدًا، أنّ كلّ ما شاهدناه كان أجزاء متداخلة من ذاكرة أنثوني المعطوبة. ويبدأ سير الأحداث السابقة بالتراصّ خطّيًّا. لا نزال لا نعلم تمامًا متى حصلت الأحداث، لكنّنا الآن نعلم أنّها حدثت، أنّ آن رحلت، أنّ أنثوني قد فقد ساعته وقبضته على الزمن أخيرًا. في تلك اللحظة يبكي أنثوني على صدر الممرّضة المألوفة الوجه في الفيلم، ويقول: "أشعر كأنّني أخسر كلّ أوراقي". وينتهي الفيلم بلقطة طويلة لأغصان الشجر، يداعبها الريح من نافذة الّذي فقد الزمن.

تقول إيفا إتش. دي.:

العودة إلى المنزل أمرٌ فظيع
سواء لعق الكلب وجعك أو لا؛
سواء كان لديك زوجة
أو وحدة متجسّدة على شكل زوجة تنتظرك.
العودة إلى المنزل وحدة فظيعة،
إذن، وأنت تفكّر
في الضغط البارومتريّ المرهق
هناك من حيث أتيت
بِوَلَع
لأنّ كلّ شيء أسوأ
بمجرّد عودتك إلى المنزل

 

 


حكيم خاطر

 

 

 

كاتب وروائيّ فلسطينيّ. صدرت له رواية "الفتاة" عام 2017، ورواية "كليشيه وديستوبيا" عام 2019، الحاصلة على جائزة تشجيعيّة وإشادة من مؤسّسة عبد المحسن القطّان في مسابقة الكاتب الشابّ - حقل الرواية.