أبطال داوود عبد السيّد: بعض معاناة، بعض حبّ، بعض متعة

أفلام داوود عبد السيّد المُتناوَلة في المقالة

 

البصمة

أطلّ علينا المخرج المصريّ داوود عبد السيّد مؤخّرًا بإعلان اعتزال الإخراج السينمائيّ. لا شكّ في أنّ لهذا القرار إسقاطات على ما تبقّى من السينما المصريّة، في ظلّ ما آلت إليه من تراجع الأفلام القيّمة وأعمال المخرجين الكبار، وعلوّ الأفلام التجاريّة بركاكة محتواها وسطحيّة إخراجها.

لم يكن عبد السيّد مخرجًا غزير الإنتاج، لكن بصمته واضحة، حُسْنُ اختياره لمساحات الرواية وتفاصيلها، تميّز أبطاله، وجودة إخراجه. انتقل عبد السيّد من السينما التسجيليّة إلى الروائيّة، لكنّ أثر الأولى رافقه بوضوح، ولا سيّما في اختيار أماكن الأحداث، ونوعيّة الأبطال والشخصيّات، وصوت الراوي الّذي يأتي ليملأ فراغًا، أو يعزّز فكرة، أو ينطق بما لا يقوى البطل على النطق به جهرًا على مرأًى ومسمع من الشخصيّات الأخرى. هكذا تكتمل الصورة كما في الفيلم التسجيليّ، ويبقى للمشاهد متّسع للتمتّع بعمل سينمائيّ ذكيّ.

يمكنني اعتبار عبد السيّد بطلًا في اتّخاذه قرار الاعتزال، تجسّد ذلك في جرأته اللافتة الّتي برزت في تصريحاته ومقابلاته الأخيرة للصحافة، ورأيه في الجمهور المتلقّي، لكنّ أبطال أفلامه لم يكونوا كذلك في النصّ، بل كانوا أبطالًا مهزومين – ولو بتفاوت - تفتقر حياتهم وتركيبة شخصيّاتهم إلى الكثير من مقوّمات البطل التقليديّ الّذي نعرفه مغامرًا جسورًا فائزًا. في هذا التقصّي المقتضب للبطل المهزوم اخترت أربعة أفلام لعبد السيّد: «الكيت كات» (1991)، و«أرض الخوف» (2000)، و«مواطن ومخبر وحرامي» (2001)، و«رسائل البحر» (2010).

 

إلى اللّابطل

في البدء كان البطل يكتسي مواصفات وَليدَة مفاهيم يونانيّة؛ نصف إنسان ونصف إله، شخصيّة تتحلّى بمُثُل عليا، بالذكاء والشجاعة والقيم والقوّة، إنسان يعارك الأفكار والأحداث والرغبات، ويخرج من معركته سالمًا. ثمّ ظهر مفهوم آخر ما بعد حداثيّ؛ اللابطل المنزوع الصفات الإلهيّة، الإنسان الّذي يخوض معارك لكنّه لا يخرج منها منتصرًا حتمًا.

 

المخرج داوود عبد السيّد

 

عوّدتنا قصص الأفلام – كما الروايات - على صورة بطل يقهر الظروف، ويطوّع المصاعب، ويخرج منتصرًا مهما اشتدّت معاناته، وربّما أبرز هؤلاء الأبطال كان أوديسيوس الّذي خرج في رحلة نحو المجهول وعاد ظافرًا بالنصر. إلّا أنّ شخصيّات أفلام عبد السيّد ليست كذلك، نراقبها على محور زمنيّ مؤقّت وهي تعايش حيثيّات انكسارها، لا تنتصر في حربها ولا تختتم الحكاية بصورة تحفر في الذاكرة. أبطال عبد السيّد عمومًا هم التجانس ما بين المكان وشخصيّاته.

اللابطل، أو البطل المهزوم كما أراه في عدد من أفلام عبد السيّد، إنسان عاديّ، هو بطل لأنّ الحكاية تبدأ معه أو تنتهي به، لكنّه لا يتمتّع بصفات البطولة الكلاسيكيّة، هذا المهزوم نتاج لبيئة ومجتمع وظروف، وهزيمته ليست أبديّة بالضرورة، بل هي مرحلة جديرة بالاهتمام تمكّننا من النظر في عمق التفاصيل واكتشاف عيوب المجتمع، الّتي ترسم خطوطًا عريضة لحياة البطل، وتجعله مهزومًا.

قد لا تتّفق البطولة مع صفات سلبيّة كالخضوع، والتراجع، واليأس، والفساد، والكذب، والإحباط؛ إلّا أنّ العمل السينمائيّ بقدرته على وضعنا في مواجهة هذه الصفات، يجعلها ممكنة وواقعيّة وطبيعيّة وغاية في الإنسانيّة؛ وهذا ما يجيده عبد السيّد ويبرع فيه؛ فنتفهّم الهزيمة والتهاوي ونتعاطف معها، ونجد لها ما يبرّرها، ونلقي بالمسؤوليّة على دوائر أخرى تتشابك مع حياة البطل، وتضيّق الخناق عليه.

تبدأ حكايات أبطال عبد السيّد في جيل لا يتيح لنا معرفة مردّ أفعاله ومشاعره. لا نعرف شيئًا عن طفولته أو مخزون عقله الباطن، لكنّنا مقتنعون بأنّه بشريّ، وأنّ الصفات الفضيلة ليست سلاحًا فعّالًا في صراعه على البقاء والوجود. نجح عبد السيّد في الذود عن القولبة، وقدّم صورة أخرى مغايرة للبطل. دخل إلى عمق النفس والذهن، حرّر أبطاله من الالتزام بشكل أو نمط أو عاطفة. أنتجت هذه القدرة كلًّا من الشيخ حسني وابنه يوسف في فيلم «الكيت كات»، والمواطن في «مواطن ومخبر وحرامي»، ويحيى أبو دبّورة في «أرض الخوف»، والدكتور يحيى في «رسائل البحر».

 

 

الشيخ حسني وابنه يوسف

للوهلة الأولى يبدو الشيخ حسني بطلًا في فيلم «الكيت كات»، لكن إذا ما أمعنّا النظر فسنجد أنّ محور الحكاية هو يوسف، وما والده وكلّ ما يحيط به من تفاصيل جيو - اجتماعيّة إلّا الحواجز في سباق يوسف ضدّ واقعه. شابّ يطمح إلى السفر خارج بلاده ليعيش ويعمل، والده الشيخ حسني كفيف عابث.

لا يقدر يوسف على تغيير واقعه، أو مجاراة المراوغة الّتي تحيط حياته، فيقع ’فريسة‘ فاطمة الّتي تقوده إلى حضنها، لكنّه سرعان ما يجد نفسه عاجزًا أمام اختبار الرجولة. لا يمثّل هذا العجز الجسديّ نفسه فقط، بل هو كناية عن جوانب أخرى في حياة يوسف الكثير الشكوى، القابع في دائرة البؤس والفقر في قلب حيّ شعبيّ فقير يدعى «الكيت كات». هكذا يتحوّل حضن المرأة إلى ملاذ، لا للجسد بل للنفس، حيث يفرّغ يوسف نفسه من أعبائها.

تتعزّز لابطولة يوسف من خلال انتظاره عون أبيه، لكنّ الشيخ حسني يغامر بكلّ ممتلكاته – البيت - لاهثًا وراء سحب صغيرة من دخان سجائر تمنحه سعادة سريعة التبدّد، وإذا تمكّن من حفر صورته في خيالنا كفيفًا يقود درّاجة ناريّة، فإنّ الطريق تؤدّي به ويوسف إلى النيل، ثمّ يخرجان مبتلّين مبتسمين دون أن يتمكّنا من غسل الفشل.

إنّ من مميّزات حيّ «الكيت كات» تعدّد أبطاله المهزومين وكثرتهم، لا التاجر آمن في تجارته ولا الزوج آمن من خيانة زوجته، ولا الشابّ آمن من محدوديّة الأفق، ولا المرأة آمنة من غياب الحبّ.

 

ثلاثة رجال خائبون وحضن امرأة

وفي مكان قريب من «الكيت كات»، نجد المواطن من فيلم «مواطن ومخبر وحرامي» شابًّا ثريًّا يتورّط في علاقة بشخصيّات من حيّ شعبيّ. المخبر الّذي يراقب تحرّكاته ويزجّ في حياته شخصيّات تعكّر صفوها، وترسم لها مسارات جديدة.

 

 

تبدأ حكاية المواطن من محاولاته البحث عن معنًى لحياته، فيجدها في كتابة رواية، وحين يقف على مفترق عاجزًا عن الإبداع تدخل حياته ’حياة‘ فتاة فقيرة تضيف إلى حياته لونًا آخر، فتصبح جزءًا من روايته.

لكن ما إن تنتهي الرواية ويحتفي المواطن حتّى يحرقها الحرامي قبل نشرها، مدّعيًا أنّها مليئة بالكفر وخالية من ذكر الله! فلا يجد المواطن المهزوم بدًّا من الانتقام فيقتلع عين الحرامي. هكذا تُوْلَد ثلاثيّة من الرجال الخائبين، تربط خيوطهم امرأة واحدة، تحبّ الحرامي وتهاب المخبر، وتقدّم جسدها لمتعة المواطن. وهناك على هذا الفراش يسرد المواطن خيباته كما لو كان حضن هذه المرأة هو ملاذه النفسيّ الوحيد.

 

الدكتور يحيى ونورة المثليّة

في مرحلة ما، يفقد أبطال عبد السيّد هويّاتهم، ويبحثون عن هويّات أخرى أكثر أُنْسًا، وهذا من مكوّنات انهزامهم، السعي وراء المعنى للكيان والحياة والأفعال؛ ممّا يحوّلهم غالبًا إلى أصحاب إعاقة معنويّة – ولو مؤقّتة – لاهثين وراء أسئلة لا تنتهي بانتهاء زمن الشريط السينمائيّ؛ فلا يتجاوز أبطال عبد السيّد المهزومين نقاط ضعفهم، لا تنزع عنهم محاولات المقاومة سمات الضحيّة، لكن هذا ما يجعل تماهينا معهم أكثر احتمالًا، وانخراطنا عاطفيًّا في مآسيهم أكبر حجمًا.

الدكتور يحيى في «رسائل البحر» شابّ وهبته الحياة مالًا، وسلبته القدرة على النطق السليم؛ فلم يَعُد قادرًا على مزاولة مهنته هربًا من سخرية زملائه ونفاد صبر مَنْ يحدّثهم. يعيش في الإسكندريّة مع وحدته بعيدًا عن اختبارات الحياة الحقيقيّة، تتوالى أيّام حياته بشكل رتيب حتّى يلتقي نورة. تدّعي نورة أنّها عاملة جنس لكنّها في الحقيقة تهرب إلى يحيى من وحدتها، وبالنسبة إلى يحيى فهي روح يقذف فيها البطل خيباته، ويروي قصصًا صغيرة عن بؤسه.

ينهزم يحيى تباعًا، حين تنكشف أمامه الحقيقة بأنّ حبيبته مثليّة، وحين تسكن نورة روحه وقلبه دون أن يعلم عن حقيقتها شيئًا، وحين يطرد من بيته، وحين يقدّم له البحر رسالة كُتِبَتْ بلغة تتعذّر قراءتها.

 

المنقباوي وأبو دبّورة

يتعمّق عبد السيّد كثيرًا في تركيب شخصيّاته، تبدو طبيعيّة وصادقة، لا يجتثّ منها النفسيّة ولا العقليّة المهزومة ضمنًا، تلفّها المعاناة على اختلاف انتماءاتها الطبقيّة، فعبد السيّد عايش المجتمع المصريّ من خلال أفلامه التسجيليّة، ومن هناك – كما يبدو - وُلِدَت شخصيّات أفلامه، بعيدة عن التكلّف؛ فالثريّ والمثقّف، والحالم وصاحب السلطة، يغلبهم عدم القدرة على إبصار نور جديد، أو تغيير جامح، أو انعتاق من السجن النفسيّ.

 

 

في «أرض الخوف» تزرع المخابرات المصريّة الضابط يحيى المنقباوي بين تجّار المخدّرات، تقلب مسار حياته من ضابط خيّر إلى شرّير، يحمل تصريحًا رسميًّا بالقتل والنهب والتجارة بالمخدّرات. خلال العمليّة غير محدودة الزمن، يواظب يحيى على مراسلة المسؤولين عنه، لكن ذلك لا يحميه من بطش ضبّاط آخرين ولا من نفسه، بعد أن تملّكها الانفصام؛ فلم يَعُد قادرًا على التمييز بين يحيى المنقباوي ويحيى أبو دبّورة.

تتميّز هذه الشخصيّة عن غيرها بمدى عمقها، بحوارها مع ذاتها وخطاب المحاسبة الّذي ينتهجه أبو دبّورة؛ أملًا في حماية نفسه من نفسه الأخرى. هو تجسيد عظيم لقدرة الإنسان على تقمّص شخصيّات متعدّدة في آن، وتيهه بين رغباتها المختلفة حدّ التضارب.

رغم خلفيّته وانتمائه للسلطة إلّا أنّ أبو دبّورة ضعيف أمام ’المعلّمين الكبار‘ من تجّار المخدّرات، يختار له المعلّم مكانته بين رجال ’الكار‘، كما يختار له زوجته هناء الّتي ستحمل ابنه الوحيد دون غيرها من النساء، أمّا  المخابرات فتختار له اللامكان واللاهويّة، وهو عاجز.

 

انتصار رغم الهزيمة

لو اختار يوسف في «الكيت كات» البحث عن عمل مهما كان شاقًّا، لانتصر على واقعه وحظي بتذكرة سفر. كان بمقدور الدكتور يحيى في «رسائل البحر» أن يتعالج لينطق بمحتوى عقله بطلاقة، لكنّه اختار الهزيمة، وكذلك كان المواطن في «مواطن ومخبر وحرامي»، عندما اختار ارتكاب جريمة بحقّ الحرامي، بدل أن يعيد كتابة الرواية. أمّا الضابط يحيى في «أرض الخوف»، فكان أكثر هؤلاء بؤسًا؛ إذ يجعل الواقع المصريّ من رفضه المهمّة المخابراتيّة عمليّة انتحار بطيء.

يعيش البطل المهزوم بعض معاناة وبعض حبّ وبعض متعة، لا يسعفه عبد السيّد بحوار، ولا حدث يحرّره من تشبّثه بدور الضحيّة. رغم ذلك نحبّ أبطال عبد السيّد لأنّ هذه سنّة حكايات المهزومين؛ كلّ ما فيها من خيبات هو انعكاس للمجتمعات الّتي ينتمون إليها، بخيبتهم يكشفون خيباتنا جميعًا، حزنهم حزننا واعتلال أخلاقهم اعتلال أخلاقنا. قلّة حيلتهم أمام السلطة قلّة حيلتنا، طمعهم بالمال طمعنا جميعًا، ولهاثهم وراء الحبّ هو ما يجعل حلوقنا تجفّ.

 

 

لا نجد بدًّا من حبّهم رغم العيوب؛ فللبطل المهزوم إذا ما أُحْسِنَ تشكيله - قدرة على اكتساب حبّنا كلّما تطوّرت الرواية وخلع عن نفسه غطاءً يجعلنا نرى فيه دواخلنا وأسرارنا وجموح رغباتنا، لكن اللابطل يبقى أكثر جرأة منّا وجسارة لارتكاب الأخطاء.

البطل المهزوم يبقى منتصرًا في ذهنيّة المشاهد، بقدرته على الإقناع بأنّه مسيّر بفعل ما بناه له المجتمع قبل السيناريو؛ فالمخابرات اختارت طريق أبو دبّورة، والأطبّاء الساخرون دفعوا الدكتور يحيى إلى الوحدة، والثراء دفع المواطن إلى حياة اللهو والسطحيّة وانعدام الهدف، والفقر دفع يوسف إلى التشبّت بجلّابيّة والده الكفيف، الّذي يقوده في طريق دون أن يبصرها أصلًا!

 


 

سماح بصول

 

 

 

مواليد الرينة في الجليل. ناقدة سينمائيّة، وكاتبة في مجال الفنون البصريّة والأدب. تحمل شهادة البكالوريوس في الأدب المقارن  والماجستير في ثقافة السينما.