حِنّاء جيجي حديد

ليست المسألة جديدةً، فمنذ اختارتها مجلّة "ڤوغ" لتكون على غلافها، تدشينًا للنّسخة الجديدة لموقعها الإلكترونيّ، وبملابسَ مستوحاةٍ من التّراث الفلسطينيّ، برز اسم الأميركيّة جيجي حديد، أو ازداد بروزًا، مرفقًا بنقاشٍ تناول أصولها الفلسطينيّة، لا سيّما أنّ الغلاف كان أشبه بإعادة إنتاجٍ لغلافٍ شهيرٍ سابقٍ (1988) ظهرت فيه عارضةٌ إسرائيليّة.

كان ذلك قبل عامين، ومنذ ذلك الحين حتّى يومنا، استطاعت حديد أن تشغل الصّحافة وأن تملأ الأغلفة اللّامعة لأهمّ مجلّات الموضة، عارضةً، مودل، واحدةً من أكثر العارضات طلبًا، متخطّيةً ما يمكن أن "يجرّه عليها" أصلها الفلسطينيّ.

وليس الحديث هنا، كما يعنيني، عن الموضة ونجماتها؛ إنّما عن الحضور الفلسطينيّ في شكلٍ لن يرغب به لا الإسرائيليّون المنشغلون بربط الفلسطينيّ في أذهان العالم بصورةٍ نمطيّةٍ عرفوا كيف يروّجون لها، ولا كذلك العقليّات الصّدئة بين الفلسطينيّين، محدودي الإدراك، إسلاميّين وقوميّين ويساريّين ووطنيّين، ممّن لا يجدون في أيّ ذكرٍ آخر لفلسطين، مختلفٍ عمّا يرونه هم، جديرًا بالاعتبار، فكيف بجيجي؟!

لكن لمَ الآن أكتب ذلك، أو أشير إلى ابنة حديد؟ أوّلًا لتأثيرها وأسهمها المرتفعة في عالم الأزياء والمشاهير في أميركا وعموم الغرب، وللرّبط الذهنيّ المتكرّر بينها وبين اسم فلسطين، وثانيًا، وهو المبرّر الأساسيّ، لنشرها على صفحتها على إنستغرام صورةً ليدها مع أخرياتٍ وقد رُسِمَ عليها بالحنّاء، مرفقةً بتعليقٍ تحكي فيه عن حنينها إلى عائلتها الكبيرة، تنهيه بالقول: وكي لا يشير أحدكم إلى "الاستيلاء الثقافيّ" في التّعليقات، انظروا إلى اسم العائلة، حديد. نصف فلسطينيّةٍ وفخورةٌ بذلك.

الكلام عاديٌّ؛ إنّما يخرج عن عاديّته حين تقوله جيجي حديد، لما في ذلك من إشارةٍ إلى فلسطين بلدَ انتماءٍ لها أوّلًا، وبافتخارها بذلك ثانيًا، ولكون فلسطين بذلك بلدٌ لا تُحْصَرُ الانتماءات إليه في تنميطاتٍ معيّنةٍ ثالثًا، ولانشغال الصّحافة، رابعًا، بذلك. لكلامها، بالتّالي، تأثيرٌ ترويجيٌّ لاسم فلسطين في أوساطٍ وجمهورٍ قد لا يعرف من فلسطين غير "جيروساليم" بمعناها الدّينيّ أو السّياحيّ، قد لا يعرفوا أيّهما تقع في الأخرى. وهؤلاء، نسبةٌ كبيرةٌ منهم ستكون حتمًا ضمن الـ 12مليون متابعٍ لصفحتها على إنستغرام.

المصدر: الصّفحة الرّسميّة لجيجي حديد عبر انستغرام

وليست المسألة طارئةً، أي ليست الصّورة والتّعليق الّذي كتبته حديد انفعالًا، تسبّبا به الحنين والجلسة العائليّة؛ كان بإمكانها أن تحذفه مثلًا، أو تتبعه بتعليقٍ يلطّف من عبارة "نصف فلسطينيّةٍ وفخورةٌ بذلك". ولأكون واضحًا، لست ممّن يقولون "فلسطينيٌ وأفتخر" (فكيف بانتماءٍ نصفه فقط فلسطينيٌّ؟!)، ولا أقتنع بأيّ شعورٍ بالفخر يسبّبه أيّ انتماءٍ وطنيٍّ أو قوميٍّ أو دينيٍّ؛ بل لا تثير فيّ عبارةٌ كهذه غير الضّحك أو الضّجر أو اللّا مبالاة كلّما مرّت عليّ، لاستهلاكها غير المبرّر ربّما، فلسطينيًّا؛ أمّا أن تصدر عن واحدةٍ من أهمّ العارضات في العالم، مع ما قد يسبّبه ذلك لها من تضييقات، فيصير الأمر مختلفًا هنا.

بالعودة إلى العائلة، وإلى كون تعليقها ليس طارئًا، نشير إلى أبيها. هو محمّد حديد، رجل أعمالٍ شهيرٌ، يعمل في العقارات وله كذلك صفحةٌ على إنستغرام، وهي ما يهمّني من كلّ ذلك، لبعض الصّور الّتي نشرها مرفقةً بتعليقاته. "كنت في شهري الـ 18"؛ يعلّق على صورةٍ لأسرته، "بعدما طُرِدْنا من فلسطيننا الحبيبة إلى مخيّمات اللّجوء في سوريا… وهذه كانت صورتنا على بطاقة اللّجوء الفلسطينيّة".

ليست جيجي (أو جيلينا نورة) بطلةً ولا رمزًا وطنيًّا (ليتها كانت)؛ لكنّها ناجحةٌ في مجالها، وبمعاييرَ عالميّةٍ، تلحقها الكاميرات أينما حلّت وتفرد الصّحف والمجلّات تحليلاتٍ لما ترتديه، من حذائها حتّى نظّاراتها. وحين تقول إحدى أشهر العارضات إنّها فلسطينيّةٌ، دون أن تُجْبَرَ على ذلك، ودون أن تجد ما هو في صالح نجوميّتها في ذلك، وحين، فوق ذلك، تزيد بأنّها فخورةٌ بانتمائها الفلسطينيّ، فهو تصرّفٌ فيه بطولةٌ وفيه وطنيّةٌ أكثر بكثيرٍ من كثيرٍ ممّا لدى "أبطالنا"، وإن لم يتعوّد شعبنا العظيم أن يكون ذلك مقرونًا بالعري، قيمةً جماليّةً تُضاف إلى ما سبق ذكره.