حكاية نضال... جسد رائدة

الممثّلة رائدة طه في "عبّاس 36"

 

عادت سارة من جامعتها في بيروت، ذات صيف لصيق بالنكسة؛ فاعتقلها جيش الاحتلال تسعة شهور؛ بتهمة الانتماء إلى تنظيم "تخريبيّ"، ونقل رسائل إلى الفدائيّين، وشاء القدر أن يدافع عنها المحامي علي رافع، الّذي أحبّها وطلبها للزواج، وأغراها لمغادرة القدس وولوج قلبه؛ بشبّاك يطلّ على البحر، في شقّة من عمارة، عنوانها 36 شارع عبّاس، حيفا.

 

علي وسارة في منزل "أبو غيدا"

أنجبت سارة خمسة أبناء في تلك الشقّة، ونشرت الكثير من الغسيل قبالة البحر، وطبخت الكثير من الطعام وهي تناظر موجه ومراكبه، غير أنّها لا تنفكّ تقول إنّ المنزل ليس لها، إنّما لعائلة "أبو غيدا"، الّتي لجأت بعد النكبة إلى بيروت فدمشق فالنمسا، ومن النمسا جاء مستوطن يهوديّ أكرمته دائرة النصب والتزوير، المسمّاة "أملاك الغائبين"، ومنحته ملكيّة العمارة الّتي شرع في بيع بعض شققها، فاشترى إحداها المحامي علي؛ ليعيش فيها مع زوجته سارة وينجب خمسة أبناء، بينهم واحدة "غلباويّة" أسماها نضال؛ فكان اسمها على جسمها ووصفها.

 

من اليمين: نضال، وسارة، وعلي رافع، ورائدة طه

 

أعرف نضال، وأستطيع تمييز صوتها من بعيد، وهو صوت مرتفع في كلّ الحالات؛ حزنًا أو فرحًا، إعجابًا أو انتقادًا، وهو صوت لا يأتي منفردًا، بل مصحوبًا بالشعر المنكوش، والحركات الانفعاليّة لليدين والرجلين والجذع، والعينين الواسعتين المتحفّزتين، والكلام المتدفّق كصليات الرشّاش أو كسَيل هدّار، بلهجة فلسطينيّة خالصة. نضال تفعل ذلك بمنتهى العفويّة والتلقائيّة، ولو فعلته قصدًا لكانت ممثّلة بارعة، ولكنّها لا تستطيع أبدًا أن تبدّل جلدها، ولا أن تتخلّص من عفويّتها؛ ولهذا احتجنا إلى الفنّانة المبدعة رائدة طه؛ لتتقمّص شخصيّتها وتروي لنا رحلة البحث الطويلة، عن أصحاب البيت الحقيقيّين أو من بقي منهم، وكيف أعادتهم ولو جزئيًّا إلى حيفا، وأعادت إليهم منزلهم.

 

محاكمة

ساعةً كاملة على خشبة "مسرح قصر الثقافة" في رام الله، الّذي امتلأت مقاعده كلّها، استطاعت المبدعة رائدة؛ ومن خلال "مونودراما" "36 شارع عبّاس/ حيفا"، أن تتقمّص - بمنتهى الإتقان - شخصيّة نضال، ووالدتها، وشخصيّات أخرى؛ لتحاكم من تركوا ديارهم، ومن لا يسعون إلى العودة إليها، ومن لا يحرسون الذاكرة؛ وحتمًا لتحاكم الاحتلال الّذي قتل وشرّد واستولى، وسعى إلى تغيير وجه البلاد ولغتها.

 

جانب من حيّ عبّاس في حيفا

 

لن أتحدّث أكثر عن هذا العمل، وهو الثاني لرائدة بعد إبداعها مونودراما "ألاقي زيّك فين يا علي"، الّذي روت من خلاله قصّتها الشخصيّة، وقصّة والدتها بعد استشهاد والدها الفدائيّ علي طه، ورحلة عمّتها الطويلة مع استعادة جثمانه من ثلّاجة الشهداء، لن أتحدّث أكثر عن هذين العملين؛ فمشاهدتهما واجبة، ولا حديث يفيهما حقّهما.

 

همسة عتاب

لست من محبّي الانتقاد، ولا سيّما انتقاد الأعمال الجادّة، المليئة بحسن النوايا والأهداف السامية، ولكن في صدري همسة عتاب، لا بدّ منها لراحة الضمير، وهي موجّهة إلى رائدة طه، وإلى رعاة العمل من "مركز الفنّ الشعبيّ" و"قصر الثقافة" في رام الله، وغيرهم، مفادها أنّ التقنيّات الصوتيّة كانت ضعيفة، والإضاءة لم تخدم العمل، وأنّ العمل كان بحاجة إلى ديكور يختصر الوصف الّذي قدّمته رائدة، ويفتح المجال لها للتركيز على التأثير في الجمهور، وربّما لو استُعين بشاشة تعرض أحيانًا ذلك الدرج الّذي سلكه المهاجرون، والسفن الّتي أدخلت المستوطنين، والمعارك الّتي دارت، وغيرها من المشاهد المرتبطة بالمطار والسفر؛ لكان أفضل.

 

رائدة طع في "عبّاس 36"

 

وأخيرًا، كنت أودّ لو التزمت رائدة التزامًا مطلقًا بالقصّة كما هي، ولم تُقحم نفسها فيها، من زوايا تجربتها في السفر عبر مطار اللدّ، وأنّها صديقة لنضال وللعائلة، وأنّها تعرف البيت، وشهدت جزءًا من قصّة عودة أصحابه.

قد أجد تبريرًا غير كافٍ للإقناع، حين أتعاطى مع العمل بنسخة رام الله، الّتي يعرف كثير من فاعليها نضال شخصيًّا، وكيف تحتفل بعيد ميلادها، الّذي يُتناول في العرض، لكنّني سأفقد كلّ وجاهة لهذا المبرّر، حين أقول إنّ العمل سيُعرض خارج رام الله وفلسطين.

رجائي أن تعمل رائدة ومُخرجا عمليها الأوّل والثاني، على تقديم عرضين يُخصّصان للتصوير تلفزيونيًّا؛ فما من شكّ في أنّ للعروض جمهورها النوعيّ، لكنّه قليل قياسًا بعموم الجمهور، وما من شكّ في أنّ لهذه العروض نهاية، وأنّها يجب ألّا تموت بانتهاء العروض.

 

 

عماد الأصفر

 

 

إعلاميّ فلسطينيّ.