«هويّة غريب»... لنبني مخيّمًا في الجنّة إذن

هديل يعقوب وعاكف دراوشة من مسرحيّة «هويّة غريب»

 

ليسوا كثيرين مَنْ ينقلون الأفكار إلى الورقة والرغبة إلى حيّز التنفيذ. يغرق الإنسان أحيانًا في كومة من التساؤلات؛ هل عليّ أن أفعل؟ هل أستطيع؟ مَنْ ستُخاطب أعمالي؟ مَنْ سيشاركني هذه الرغبة في قول شيء ما؟ كيف كان ممكنًا أن يجتمع أعضاء فرقة «أثر» المسرحيّة حول الرغبة في خلق حالة ما؟ حالة تحاكي واقعًا سياسيًّا اجتماعيًّا بات وحشًا يأكل الساعين إلى التغيير، وحالة تُعيد النظر في العلاقة ما بين المسرح والجمهور، المسرح والظلم الاجتماعيّ، المسرح وعُهْر التمويل المشروط.

 

مسرحيّة لصناعة مسرحيّة أخرى 

تتألّف فرقة «أثر» المسرحيّة من مجموعة من محبّي المسرح الّذين يتشاركون الرغبة في العمل بعيدًا عن شروط الإنتاج الفنّيّ الّتي تقتل الإبداع وتُكمّم أفواه التغيير والمواجهة. فمن جائزة لنصّ «جسر» لغسّان ندّاف، اجتمع كلّ من غسّان، وخليل، وضياء، ومسعد، وفارس، على أن يُسْمَعَ هذا النصّ، واتّفقوا على تقديم النصّ كقراءة في أماكن مختلفة من رام الله. من هنا بدأ الفريق تدريباته لتقديم النصّ كقراءة مسرحيّة، في محاولة لخلق علاقة ما بين الفرقة والجمهور. وكما يقول المخرج الشابّ خليل بطران:"جئنا لنضع أثرًا ونذهب، يمكن أن يَبْقَى، لسنا متأكّدين، ولكنّنا نريد فعل شيء من الصفر".

"نحن الفلسطينيّين عندما نصعد إلى الجنّة لن يكون ثمّة متّسع لنا، سيبنون لنا مخيّمًا"...

واجه أعضاء الفرقة إشكالات الإنتاج الفنّيّ المتمثّلة في سؤال كيف يمكن إنتاج نصّ «جسر» في مسرحيّة كاملة؟ ومن هنا بدأت رحلة مسرحيّة «هويّة غريب»، وهي المسرحيّة الّتي ظهرت بوصفها حلًّا مالّيًّا لفرقة «أثر»، واتّفق الفريق على إنتاج عمل فنّيّ بتكلفة تقارب الصفر. "سنصنع مسرحيّة لتمويل مسرحيّة «جسر»، فظهرت مسرحيّة «هويّة غريب»"، مُحدِثة حالة لا بدّ من معاينتها جيّدًا، تألّفت من عروض مسرحيّة نفذت تذاكرها في الساعات الأولى، منها ثلاثة عروض في قاعة «مركز خليل السكاكينيّ»، ومن حَمَاسِ الكثيرين لمسرح جديد ولفرقة اتّضحت إمكاناتها في جَسْرِ الهوّة اجتماعيًّا ما بين المسرح والجمهور.  

تَعْرِضُ «هويّة غريب» قصّة بائع متجوّل يبيع المواطنين ما لا يستهلكه وما حُرِمَ منه؛ السجائر والهويّة الخضراء. يتتبّع العمل محاولات هذا «اللا مواطن» في الوزارات والجامعات للحصول على هويّة شخصيّة، كالبقيّة، لكنّ الحظّ لا يحالفه إلى حدّ التأزّم النفسيّ الّذي يدفعه إلى التفكير:"إن كنتم ترفضون وجودي، فسأفعل ما أريد، أنا غير موجود، وسأشخّ على كلّ المؤسّسة، تفضّلوا وحاكموني".

يصرخ النصّ في وجه الجمهور الفلسطينيّ من حَمَلة الهويّة الخضراء، ويُسلّط الضوء على جدوى هذه الهويّة من خلال تقديم حالة استثنائيّة لشخص لا يملك هويّة ولا رقمًا وطنيًّا. ومن خلال السخرية، يستعرض النصّ مواقف متّصلة بانعدام الهويّة، ليعرف الجمهور أنّه يُشبه هذا الغريب في عزلته، وفي اغترابه، وأوجاعه الّتي يتسبّب بها الاحتلال وتُضاعفها البنية السلطويّة الفلسطينيّة الّتي تحتكر تعريف الهويّة الوطنيّة ومعناها. يَرفض غريب، يبصق، ويتبوّل، محاكيًا الحقائق المتأصّلة في هذه الهويّة المنقوصة، ليفهم الجمهور أنّه ليس ثمّة فرق بينه وبين الغريب، سوى بضع كذبات تغطّي حالة الظلم الاجتماعيّ الّتي نعيشها.

 

"لن يكون ثمّة متّسع لنا"

نتابع غريب خلال رحتله للبحث عن هويّة، ولاحقًا يدرك أنّه في رحلة للبحث عن وجهة نظر ومقولة يحملها غريب في حالة من الألم والاستنكار. يحاول العيش في مجموعة من أحداث تحاكي المألوف والبسيط، ولكنّ محاولاته تنتهي إلى الفشل. هنا تُوجَّهُ كلّ عناصر العمل إلى الأسئلة المخيفة والبديهيّة:"هل أنا إنسان؟"، "كثيرون يقفون في وجه الحقيقة"، "سجّل عندك، أنا المذنب الوحيد". يُفجِّر غريب الظلم الّذي في داخله، وتتصاعد جرأته لتقوده إلى الممكن الضئيل للخروج من المعضلة، فيمثُلُ أمام المحكمة ويطلب هويّة فيُرْفَضُ طلبه، يطلب الإعدام فُيُرفَضُ طلبه لأنّه غير مواطن ومن الصعب إثبات وجوده، يطلب هويّة وإعدامًا فيختنق الجمهور.

"يجب أن يكون هناك مشروع جمعيّ يمزّق هذه الهويّة المنقوصة، وليس من المنطقيّ أن يتحمّل الأفراد عبء المشروع السياسيّ، نحن هنا أبعد ما نكون عن البطولة، فقط نريد أن نحيا"...

يقول غسّان ندّاف، كاتب المسرحيّة، أنّ المسرحيّة ليست شكلًا من أشكال انتظار للعدالة، ويرفُضُ أن يَظْهَرَ مَنْ يُنصف غريب في نهاية العمل، فـ "ما يحدث هو تطهير عرقيّ، لا نريد للنّاس أن تتنفّس في نهاية العمل، ويجب أن تفهم أنّه ليس ثمّة فرق كبير بينها وبين غريب".

إنّ المقولة الّتي حملها العرض لم تكن حلًّا أو نصيحة، بل كانت إضاءة على واقع مُعاش بشكل يوميّ. وإن كان غريب بلا هويّة، فما هي قيمة الهويّة الخضراء الّتي تعدّها السلطة الفلسطينيّة إنجازًا للشعب الفلسطينيّ؟ الجميع مُعَرّض لأن يكون «لا أحدًا» أمام الاحتلال، أمام الأجهزة الأمنيّة، وكما يقول الممثّل دراوشة الّذي يمثّل شخصيّة غريب في العمل:"لا أريد جواز سفر بريطانيّ ولا هويّة خضراء، يجب أن يكون هناك مشروع جمعيّ يمزّق هذه الهويّة المنقوصة، وليس من المنطقيّ أن يتحمّل الأفراد عبء المشروع السياسيّ، نحن هنا أبعد ما نكون عن البطولة، فقط نريد أن نحيا".

 

المسرح ضدّ التمويل المشروط

كان خيار الفرقة إنتاج العمل دون طرق أبواب التمويل، وهذا ما يقول عنه المخرج خليل بطران: "نحن كفرقة، معنيّون بتجربة جديدة من كلّ النواحي، لا نريد مموًّلا يشارك في التحضير للمسرحيّة، بل نريد أشخاصًا يحبّون التمثيل، نريد أن نتعلّم جميعًا من التجربة". وذلك ما ترتّب عليه عدم استخدام الديكور أو معدّات الإضاءة، وعدم تقاضي الممثّلين والممثّلات أجرًا أو مكافآت؛ فكانت روح العمل حاضرة في طريقة العمل نفسها، وانعكست على التوجّهات البنيويّة في الإنتاج والمعالجات الفنّيّة للمادّة. ومن هنا ظهرت الحاجة لخلق نمط جديد بسيط في العرض؛ فتمّ تشكيل المشاهد بطابع كرتونيّ يستند على حركة المؤدّيين، وبدالّة هرميّة تشبه لعبة «السلّم والحيّة»، وكما يقول بطران:"كان يجب أن نلعب لعبة، فحوّلنا النصّ إلى مادّة كرتونيّة، وكاتفناه بموسيقى حيّة، وخلقنا الصورة وشعرنا بالكوميديا، وهكذا وصلنا إلى روح العرض". كان هذا الخروج الصارخ عن المألوف في الإنتاج علامة مميّزة لفرقة «أثر»، وقد بعَثَ بروح جديد في المسرح الفلسطينيّ الّذي يعاني من معادلة التمويل المشروط بالتخلّي عن النزعة الفلسطينيّة والمضامين الجريئة، ولكنّ «أثر» كان موقفها أن «طُزّ» بكلّ هذه الحسابات، وكما تقول الفرقة:" ثمّة نصّ يجب أن يُسْمَع، ومسرحيّة لتُرَى، كما هي".

يقول فكتور شكلوفسكي، الكاتب والأديب الروسيّ، أنّ "الفنّ يُؤَلْفِنُ الغريب حتّى يجعله قابلًا للاستيعاب، ولفعل ذلك يُقدِّمُ مادّته بطريقة غير متوقّعة وحتّى غير معهودة: صدمة الجديد". وذلك ما يمكنُ تطبيقه على النصّ ذو المحتوى الثقيل بما يقدّمه من نموذج متقدّم من اضطراب الهويّة الوطنيّة، فشخصيّة غريب اخْتِيرَتْ نموذجًا في كتابة ومعالجة النصّ وتقديمه، وكما يقول ندّاف:"لا ننتظر الحلّ والتعاطف"، فسعى العمل إلى إثارة التساؤلات وتحفيز الجمهور على نقد الواقع، بدلًا من التماهي مع الأزمة الّتي يعيشها غريب. ذلك ما كان ممكنًا عندما فُحِصَتْ الشحنات الشعوريّة المضمّنة في العمل بدقّة وكُسِرَت بطرق مختلفة، من خلال الكوميديا والضحك قبل إحداث التوتّر العاطفيّ في تفاعل الممثّلين مع الجمهور بين الحين والآخر. إضافة إلى وجود راوية للأحداث كجزء أدائيّ متضمّن في النصّ، وحَمْلُ النصوص من قبل الممثّلين لـ "خلق علاقة مع الورق" كجزء أساسيّ من العرض.

"الفنّ يُؤَلْفِنُ الغريب حتّى يجعله قابلًا للاستيعاب، ولفعل ذلك يُقدِّمُ مادّته بطريقة غير متوقّعة وحتّى غير معهودة: صدمة الجديد"...

 

بهذه التقنيّات ضُبِطَ إيقاع العرض وطابعه، الأمر الّذي مكّن الجمهور من أخذ مسافة من أزمة بطل المسرحيّة، ومن ثمّ الاستدلال على المضامين السياسيّة والاجتماعيّة الّتي يتناولها العمل.

"لن تظلّ الأشياء كما هي عليه، لأنّها كما هي عليه الآن"؛ ذلك ما يقوله برتولد بريخت، الكاتب المسرحيّ الألمانيّ، وهو القول الّذي يُفْتَرَضُ بالمسرح اتّباعه. فمن المهمّ الانسلاخ عن وجهة نظر المؤسّسة، فالتجديد لا يمكن أن يحدث داخل الأُطر المقبولة والمألوفة، ويُفترض بالمسرح طرح الأسئلة واستفزاز المتواطئ في دواخلنا. لا نحتاج مسرحًا يقدّم الفنّ كحلّ بديل، أو كأطروحة تقبل التأويل نافذة للهرب، بل مسرح يحرّض ويُضيء على غرابة أن يكون كلّ هذا الحال بما هو عليه عاديًّا.

 


 

موسى نزّال

 

 

ممثّل مسرحيّ وناشط في مجال الدعم المجتمعيّ. دَرَسَ «العلوم الماليّة والمصرفيّة» في «جامعة بير زيت». يعمل في التمثيل منذ العام 2015، وينشط حاليًّا مع مسرح «بسطة»، وتدريب الدراما في مؤسّسة «تامر للتعليم المجتمعيّ».