«مترو غزّة»... كابوس في دوّامة عقليّة متكرّرة

من بوستر مسرحيّة «مترو غزّة»

 

«مترو غزّة» مسرحيّة من إخراج هيرڤي لويشيمول، وأداء كلٍّ من شادن سليم وأحمد طوباسي وياسمين شلالدة، بحسب الظهور، أمّا الكتابة فكانت من هيرڤي لويشيمول وخولة إبراهيم. المسرحيّة في 65 دقيقة، تتناول قصّة شابّة من حيفا تقرّر السفر إلى غزّة لزيارة صديقها الّذي انقطعت أخباره. تلتقي الشابّة أشخاصًا غريبين؛ منهم شابّ يعمل في المترو أو بالأحرى هو مترو هذه القصّة، وفتاة تملك شبه خيط يربطها بالصديق المفقود.

تبدأ المسرحيّة باتّصال هاتفيّ بين رجل وامرأة، عن غزّة والأحلام وأحداث حياتيّة، ثمّ يبدأ الجزء الأوّل بالفتاة القادمة من حيفا نائمة على مقاعد بلاستيكيّة، أمّا الديكور فمجموعة من الكراسيّ البلاستيكيّة، وخلفيّة بيضاء مكوّنة من ألواح طويلة استُخدِمت أداة للعرض وجزءًا من الحبكة، ولتقديم الشخصيّات المختلفة. ثمّ تظهر شخصيّة المترو، ليخبر الفتاة أنّها تحت الأرض بآلاف الكيلومترات، في محطّة المترو الّتي تمتدّ على طول قطاع غزّة. شخصيّة المترو هي الأداة ومحرّكة الأحداث الأهمّ في المسرحيّة؛ فبينما تتخبّط الشخصيّات الأخرى، يبدو كأنّ المترو هو الخارطة المجازيّة والحرفيّة لفهم ما ترويه المسرحيّة.

تحاول الفتاة الاتّصال بهاتف الشابّ المفقود. فتاة أخرى تردّ على الهاتف، هنا تظهر أوّل إشارة؛ أنّ الأحداث الحاصلة ليست في إطار من الخيال فقط من أجل خيال، بل هي جزء من الحالة الواقعيّة لما حدث حقيقة. بعد ذلك، يبدأ الجزء الثاني الّذي تظهر فيه الفتاة الّتي تحمل هاتف الشابّ المفقود، وتقول إنّها وجدت الهاتف على الحدود، حيث الأشلاء والدمار والموت.

 

حقيقة ما يحدث، وخرق الجدار الرابع

في منتصف المسرحيّة، تتساءل الفتاة الّتي تحمل الهاتف عن حقيقة ما يحدث، لكنّ المترو يجيب بأنّ الأمر معقّد، وأنّ تفسير ما يحدث لم يُكْتَب في السيناريو، لتدخل الشخصيّات الثلاث في جدال، ثمّ يُوَقَّف العرض. يلوم شخصيّة المترو الفتاة الّتي تحمل الهاتف خروجها عن النصّ، وتعتذر الفتاة القادمة من حيفا للجمهور عن هذا الخطأ. حقيقة ما يحدث أصبحت الآن أكثر وضوحًا، الأمر المعقّد الّذي لا يستطيع المترو شرحه هو أنّ كلّ ما يحدث حلم؛ حلم داخل عقل الشابّ المفقود.

 

بوستر مسرحيّة «مترو غزّة»

 

ليست هذه هي المرّة الأولى الّتي تُستخدَم فيها تقنيّة خرق الجدار الرابع في المسرحيّات، أو في الأفلام، أو الأدب؛ فيُذكَر مثلًا أنّ كورماك ماكارثي استخدم التقنيّة في مسرحيّته «قطار الغروب» لنفس الغاية؛ إذ تسأل الشخصيّة الجمهور بشكل مباشر إن كانت ستكون بخير، واستُخدِمت أيضًا في فيلم «ألعاب مسلّية» (2007)، لمايكل هانيكي، حيث تخاطب الشخصيّة الكاميرا بشكل مباشر في لحظات عدّة، وأهمّها في وسط الفيلم، حيث تتساءل الشخصيّة كيف يمكن للحدث أن يستمرّ في حال عدم وجود محرّك في هذه اللحظة، وكذلك في «مترو غزّة» استُخدِمت التقنيّة لإثارة تساؤل حول حقيقة ما يحدث في هذه القصّة: كيف يمكن لقطار لا يعرف به أحد أن يوجد في غزّة تحت الأرض؟ ربّما كناية عن الأنفاق الحقيقيّة، وربّما - وهو الأرجح - أن تكون خارطة لعقل الشابّ المفقود الّذي عاش حياته في غزّة، لكن هذا ما لا يُصرَّح به صراحة.

 

ثلاث شظايا

تخبر الفتاة الّتي تحمل هاتف الشابّ المفقود قصّتها؛ الأخ الّذي مات، والأب الّذي أُصيب وعُطِبت رجله. إنّها الأحداث ذاتها يكرّرها المترو لاحقًا؛ المترو الّذي يحلم طوال المسرحيّة بالحركة والحرّيّة وبلاد أخرى والفلسفة. في الثلث الأخير من الرواية، نجد الشابّ أخيرًا، تنهار الصبيّة القادمة من حيفا، الشابّ الميّت دماغيًّا، نتيجة لفقد الأكسجين خلال المواجهات على الحدود.

هنا، يتّضح كلّ شيء؛ فالفتاة الّتي تحمل هاتف الشابّ المفقود هي صدمة الحدث العالق، بينما المترو هو الحلم والتمرّد الأخير. أمّا الفتاة فهي عالقة بين أن تكون انعكاسًا لشخصيّة أخرى أشارت إليها المسرحيّة في البداية خلال الاتّصال الهاتفيّ بين الشابّ والفتاة، وبين أن تكون الجزء الّذي يبحث عن حقيقة ما يجري. إنّها ثلاث شظايا لشخص واحد، أحلامه وألمه وحقيقته.

 

كابوس يُعيد سرد ذاته

في الأحداث الأخيرة في المسرحيّة، يعود المترو لترتيب الديكور، أو يعيد شريط الحدث من جديد، يعيد الألواح البيضاء إلى مكانها، يخبرنا حكايته أو بالأحرى حكاية الشابّ، عن الأحلام المفقودة، والموت الّذي يحيط به. كلّ شيء يرجع إلى ما كان عليه في البداية، مجموعة من المقاعد البلاستيكيّة، ألواح بيضاء، وصبيّة نائمة على المقاعد. إنّها دوّامة، جحيم عقل الشابّ وهو يعيد ترتيب ما حدث له في كلّ مرّة، وفي كلّ مرّة يُعاد العذاب والجحيم من جديد إلى اللانهاية، محاولات يائسة لعقل يفتقد الأكسجين محبوس بجسد لن يحصل على حرّيّته.

 

من مسرحيّة «مترو غزّة»، «مسرح الحرّيّة غزّة»

 

ربّما لا تكون الرواية أصيلة تمامًا، وليس هنالك في الحقيقة قصّة أصيلة تمامًا؛ فنجد شبهًا مثلًا في فيلم  «Eternal Sunshine Of The Spotless Mind» من ناحية متاهات العقل وفقدان الذكريات الّتي نحاول التمسّك بها. لكنّ ما جعل المسرحيّة متقنة هو النصّ المحبوك بعناية شديدة من الكاتبَين، والأداء المتقن للممثّلين، ولا سيّما شادن سليم وأحمد طوباسي؛ فالمستويات العالية من الشعور الّتي وصلت إليها شادن حملت المسرحيّة حرفيًّا، ومارس طوباسي بحرفيّة ألعاب الخفّة والرقص والأداء الحركيّ الممتاز، مصاحبًا ذلك بُعد فلسفيّ قد نقله طوباسي بكلّ خفّة وطلاقة. تثبت هذه المسرحيّة أنّ فنّ المسرح ليس بتقنيّته العالية، بل هو مرتكز أساسًا إلى رؤية قويّة وممثّلين واعين وإخراج مُتقَن، باستخدام المحدّدات الّتي يعانيها المسرح الفلسطينيّ تحديدًا؛ من فقر في التمويل، وشحّ الدعم، وقلّة الجمهور المهتمّ على الأقلّ في مناطق معيّنة.

 

سرد غزّيّ أصيل

الصدمة الغزّيّة الّتي نقلها المخرج والكاتبان مستندة إلى روايات أهل غزّة المحكيّة؛ إذ صمّم الفنّان الفلسطينيّ من غزّة، محمّد أبو سل، العرض جرافيكيًّا من خلال الفيديو والصوت وشهادات عيان؛ لينقل لنا جزءًا صغيرًا من الأزمة النفسيّة الّتي يعيشها الغزّيّ في كلّ حالاته، حيث مشاهد الدمار وأصوات الانفجارات والموت المستمرّ لكلّ شيء، من أشلاء الناس وأحلامها، إلى الرغبة في العيش والحبّ، والوعي الّذي يأبى أن يزول رغم كلّ الجهل الأسود الّذي يحاول الاحتلال إنزاله على أهل هذه البقعة الّتي لا تنتهي حكاياتها وآلامها. ورغم الرغبة الّتي تجتاحنا في رؤية غزّة مثل الجنديّ القويّ دائمًا، إلّا أنّ صرخات الألم والحزن تكاد تسحب فؤاد السماء إلى النار المشتعلة في الجحيم، الّذي يفقد آماله الأخيرة للحياة، بغير كوابيس الكرات الناريّة الصاخبة.

 


 

حكيم خاطر

 

 

 

كاتب وروائيّ فلسطينيّ. صدرت له رواية «الفتاة» (2017)، ورواية «كليشيه وديستوبيا» (2019)، الحاصلة على الجائزة التشجيعيّة من «مؤسّسة عبد المحسن القطّان» في «مسابقة الكاتب الشابّ – حقل الرواية».