أين الأغنية الفلسطينيّة؟

الفنّانة الفلسطينيّة كاميليا جبران

من يستطيع أن ينكر أو يتجاهل الأزمة الّتي تمرّ بها الأغنية الفلسطينيّة؟ لا سيّما عندما بدأ الجيل الجديد من الفنّانين الفلسطينيّين بالظّهور على الشّاشات العربيّة نجومًا، حيث قدّم بعضهم أغاني من التّراث الفلسطينيّ، فلم تُتلقّ كما يجب. أذكر أنّ هيثم خلايلة أدّى موّالًا فلسطينيًّا في برنامج 'أراب آيدول'، فأثنى عليه وائل كفوري مركّزًا على صعوبة الغناء اللّبنانيّ! في نظري، أصاب كفوري خطأين بحجر واحد، فهو لم يميّز اللّهجة الفلسطينيّة، كما أنّه لم يدرك بأنّ مجد الكروم، بلدة هيثم، تبعد قرابة السّاعة تقريبًا عن بيروت، أو عن محافظة جبل لبنان، الّتي يُنسب إليها الغناء اللّبناني الجبليّ.

هويّات في هويّة

أتّفق مع الموسيقيّ الفلسطينيّ، حبيب حنّا، حين يقول إنّ الموسيقى الفلسطينيّة جزء لا يتجزّأ من موسيقى سوريا الكبرى، بل أزيد على ذلك أنّ موسيقى أقطار بلاد الشّام تداخلت وتمازجت كثيرًا فيما بينها، فمثلًا تغنّي فيروز 'دار الدّوري عالدّاير يا ستّ الدّار'، ويغنّيها الفلسطينيّون في مناسباتهم بكلمات ولهجة مختلفين، ويغنّي الفلسطينيّون أيضًا 'فوق إلنا خل فوق' بكلام ولهجة مختلفين؛ ولا بدّ هنا من الإشارة أيضًا إلى تداخل غناء الشّام مع غناء العراق، وتحديدًا شماله، بوصفهما ينتميان إلى أصول ثقافيّة سريانيّة واحدة، فلو رجعنا إلى الغناء السّريانيّ لوجدناه على هيئة كثير من أغانينا الشّعبيّة في الأقطار الخمسة: العراق، وسوريا، ولبنان، وفلسطين، والأردن.

ذكرت الفنّانة الفلسطينيّة ريم تلحمي على صفحتها في 'فيس بوك'، موقفًا حدث معها في تونس، إذ كانت تغنّي، فعلّق رجل تونسيّ بما معناه: 'لا تتعبوا أنفسكم فليس هناك أغنية فلسطينيّة، هي إمّا لبنانيّة أو مصريّة.'

يمكن سوق أسباب عديدة لهذه القناعة الّتي يمكن أن أراها منطقيّة، لكن قبل ذلك يجدر بي أن أذكّر أصحاب هذا الرّأي بأنّ اللّبنانيّين والفلسطينيّين، ومنذ آلاف السّنين، ينتمون إلى ثقافة واحدة، هي الثّقافة الكنعانيّة، مرورًا بسلسلة ثقافات مشتركة، كما أنّ مناطق التّماس الفلسطينيّة مع أقطار عربيّة أخرى، تجعل كلّ منطقة تتمتّع بصبغة ثقافيّة خاصّة، إلى الحدّ الّذي يجعل الغزيّ، مثلًا، أقرب إلى الثّقافة المصريّة منه إلى ثقافة بلاد الشّام.

هذا التّداخل الثّقافيّ الجميل، من شأنه أن يوقع الأغنية الفلسطينيّة بين منزلتين، ففي الشّمال يتشبّع الغناء التّراثيّ الفلسطينيّ بروح الشّام، ويميل إلى مصر ميلًا جميلًا في الجنوب؛ لكن هذا لا يبرّر غياب الأغنية الفلسطينيّة الواضح، والأزمة الّتي تمرّ بها. فحين يطلق محمّد عسّاف، نجم فلسطين الجديد، ألبومًا لا يحمل بين دفّتيه سوى أغنية فلسطينيّة واحدة، وهي وطنيّة، فهذا مؤشّر إلى الفقر الفاضح لدى الشّاعر الغنائيّ والملحّن الفلسطينيّين.

أين المشكلة؟

علينا أن نخرج من وصاية اللّحن الثّوريّ والأغنية الوطنيّة، فلقد أثبتنا فيها نجاحًا مرضيًّا، ولم يعد بمقدور العرب أن يتقبّلونا بلون جديد. لقد حصرنا أنفسنا بالأغنية القتاليّة، لست ضدّها بالطّبع، لكنّني مع العودة إلى ما قبل الاحتلال، فالغناء لم يكن حكرًا على حسّ واحد، ولن يكون.

لماذا لا نغنّي أغنية عاطفيّة بلحن فلسطينيّ مواكب، ولهجة فلسطينيّة طريّة من وحي اليوميّ؟ هل توقّف الفلسطينيّون عن الحبّ؟! ربّما أدّت أغنية 'مهما صار' الّتي غنّاها عسّاف في فيلم 'يا طير الطّاير' دور المنقذ لمشروعه، لكنّها ليست كافية، وفي الوقت نفسه لا يمكننا أن نحمّل المسؤوليّة كلّها لهذا الفتى الجميل، وهنا لا بدّ من التّأكيد على أن ثمّة فنّانون فلسطينيّون يقدّمون أغنيات باللّهجة الفلسطينيّة، واللّحن الفلسطينيّ الجديد، ويقارعون الظّروف رغم صعوبتها؛ أذكر منهم تجربة دلال أبو آمنة مع بطرس خوري وعلاء عزّام، وتجربة رنا خوري ودرويش درويش، وحبيب حنّا مع عدد من المغنّين والموسيقيّين في إطار عمله بالمشغل، وريم تلحمي مع الشّاعر خالد جمعة والملحّن سعيد مراد، وتجربة ريم بنّا، وعمّار حسن مع الشّاعر غسّان زقطان، وكميليا جبران، وأمل مرقس، وتريز سليمان، وسناء موسى، وسلام أبو آمنة، وفرقة تراب، وفرقة ولّعت، وغيرها، كلّ هذه تجارب تستحقّ التّقدير والاحتفاء، لكن أين المشكلة؟ لماذا لم تصل هذه الأغنيات كما يجب لعموم الفلسطينيّين والعرب حتّى يؤمنوا بأن ثمّة أغنية فلسطينيّة تُحَسُّ وتُرى كما حصل مع سيمون شاهين وتريو جبران على المستوى الموسيقيّ؟

ثمّة أيضًا فلسطينيّون زرعوا أراضي الأشقّاء أغاني من نور، ظلّت خالدة، دون أن يدرك أحد الطّعم الفلسطينيّ الكامن فيها؛ رياض البندك الّذي لحّن 'يا عيني عالصّبر'، من كلمات نجيب محمّد نجم، وكتب ولحّن كلًّا من 'سهرت اللّيل' و'ما اعرفش غير حبّك يا جميل'، اللّتين غنّاهما جورج وسّوف، ومحمّد غازي الّذي درّب فيروز على الغناء، ومنير وجميل بشير اللّذان يُعَرّفان بأنّهما عراقيّان، ,وفهد نجّار أيضًا، الّذي صنع العديد من الأغنيات الأردنيّة. هذه الأسماء، وغيرها، أسماء فلسطينيّة، لكنّها لم تساهم بشكل مباشر في صناعة أغنية فلسطينيّة، ونحن نريد أغنية فلسطينيّة، وليس فقط فنّانًا فلسطينيًّا، مثل أغنية 'ما أكدر أكولّك' الّتي غنّتها سميرة توفيق، وهي من ألحان جميل العاص.

تسويق المُسوّق

كنّا نقول لإخواننا العرب فيما مضى، إنّ الأغنية الفلسطينيّة موجودة، لكنّ السّوريّين يمتلكون آلتهم الإعلاميّة الّتي أوصلت فنّانيهم وأغنياتهم إلى ما وصلوا إليه، وإنّ حلب أدّت دورًا مهمًّا - في ظلّ الاستقرار الّذي كانت تعيشه - في تأسيس مدرسة فنّيّة عربّية خاصّة، وإنّ اللّبنانيّين حباهم الله بالمسرح الرّحبانيّ الّذي عبّر عنهم خير تعبير، وأسّس امتدادًا فنّيًّا هائلًا للأجيال اللّاحقة الّتي جعلت بيروت مدينة الفنّ، لكنّ الفلسطينيّين يرزحون تحت احتلال يجبرهم على جعل تنظيف البندقيّة أولويّة.

 لكنّنا الآن، وفي ظلّ بروز نجوم كالّذين ذكرتهم، لا نجد ما نردّ به عليهم سوى أن نقول: إنّنا نمتلك آلة إعلاميّة لا مبالية، لا تسوّق سوى المسوَّق. نعم، إنّها تسوّق محمّد عسّاف، وهيثم خلايلة، وهيثم الشّوملي، الّذين صعدوا بجهود شخصيّة عن طريق MBC  وقناة المستقبل، بينما تغفل تلك الآلة النّجوم الّذين يطرحون الغناء الفلسطينيّ ذا النّكهة الخاصّة، دون تدخّل شركات الإنتاج الّتي تصبغ الفنّان باللّون الّذي تريد.

لا أريد أن أنتقص من منجز نجوم الغناء الفلسطينيّ الجدد، بل أريد الثّناء عليهم، فلقد شقّ كلّ من عسّاف وخلايلة والشّوملي طريقهم بالأظافر، وهذا جهدٌ يُحمد، لكنّني أريد أن ألفت النّظر إلى أنْ ثمّة فنّ فلسطينيّ أكبر بكثير من الّذي يصل إلى العالَمين خارج حدود بلادنا الصّغيرة كقبضة يدٍ أو قلب. أريد أن أقول إنّ تقصيرًا كبيرًا، أو تراخيًا شديدًا، في الآلة الإعلاميّة الفلسطينيّة، من شأنه أن يلوي ذراع أصحاب المشاريع الجادّة وذات البعد الاستراتيجيّ فنّيًّا، وهذا واقع علينا البدء في تغييره لنحقّق لأغنيتنا الفلسطينيّة حضورًا تستحقّه.