لينا شماميان في هامبورغ، السوريّون يعودون إلى وطنهم ساعتين

لينا شماميان على مسرح "كامبناجل" في هامبروغ الألمانيّة

عام 2009، وبعد حفلة موسيقيّة للفنّان اللبنانيّ زياد سحاب ضمن مهرجان 'موسيقى البلد' الذي ينظّمه 'مسرح البلد' في عمّان، التقيت بالفنّانة السوريّة لينا شماميان لأوّل مرّة. كان ذلك عند الحادية عشر ليلًا؛ تواصلنا عن طريق أحد منظّمي المهرجان فأخبرتني أن أنتظرها في مدرّج الأوديون ريثما تصل لفحص الصوت ما قبل حفلها في اليوم التالي.

وصلت المسرح برفقة الموسيقيّين، وكنّا قد تواصلنا قبل ذلك عبر البريد الإلكترونيّ؛ هي في سوريا وأنا في فلسطين. حضرت كافّة التجهيزات الصوتيّة للحفل، تصوّرنا ووثّقتُ غناءها على المسرح بفيديو، ثمّ اضطّررت أن أعود إلى فلسطين في اليوم التالي، لذا لم أحضر حفلها في عمّان.

منذ تلك الليلة، بقينا على تواصل.

'جاي!'

قبل أن أسافر إلى ألمانيا لبدء إقامتي في الصحافة الثقافيّة في مدينة شتوتغارت، تواصل معي صديقي الفلسطينيّ السوريّ، رشاد الهندي، المقيم في ألمانيا منذ 19 عامًا، وأخبرني أنّه حجز لي بطاقة لحفل لينا شماميان في هامبورغ. بالرغم من أنّني لم أعرف برنامجي في ألمانيا، إلّا أنّني لم أتردّد لحظة، وقلت له: 'جاي!'

وصلت هامبورغ صباح الثالث عشر من آب (أغسطس) 2016، قادمة من برلين، وذلك ضمن جولة عمل أقوم بها في مدن ألمانيّة عديدة، ألتقي بناس من الحقل الثقافيّ والفنّيّ، وبأصدقاء وصديقات.

مساء السبت، وتحديدًا الساعة الثامنة والنصف، اتّجهنا إلى مسرح 'كامبناجل'، حيث يسع 1200 شخص. بدأ الحضور بالوفود إلى ساحة المسرح، المعظم يتحدّث العربيّة، وتحديدًا اللهجة السوريّة.

البداية 'غزل البنات'

بدأ الحفل قرابة الساعة 9:30 مساءً، اعتلى المسرح أعضاء فرقة لينا شماميان؛ فرنسيّون، تونسيّون ومغربيّ، ومن ثمّ صعدت لينا المنصّة. جلست على كرسيّ، حملت آلة "سنسولا" وبدأت بغناء أغنية 'أورور - يلا تنام'، من كلماتها وألحانها، ومن ألبومها الثّالث، 'غزل البنات'، الذي أصدرته عام 2013.

تنوّعت الأغاني التي اختارتها لينا شماميان ما بين أغانٍ من ألبومها 'غزل البنات'، وأغانٍ من التراث الشاميّ، والتي عرفها الجمهور منذ بداية مسيرتها الفنّيّة. أغانٍ بلهجات متنوّعة ومن مناطق عديدة. غنّت بالعربيّة ومقاطع بالكرديّة، وكذلك أغاني باللغة الأرمنيّة. وفي الأغاني التراثيّة، كلّما ذكرت اسم مدينة من مدن سوريا؛ دمشق، حلب، حمص، حماة، ومدن في العالم العربيّ، مثل بغداد والقدس، تفاعل الجمهور بشكل كبير معها، تفاعل الحنين إلى أماكن القلب البعيدة.

تراث

حين أعلنت لينا شماميان آخر الحفل عن الأغنية الأخيرة، ارتفعت أصوات الجمهور مطالبة بأغانٍ متنوّعة، فاختارت لينا أن تغنّي أغنيتها قبل الأخيرة مع الجمهور بلا موسيقى. وحين لفظت الكلمات الأولى من أغنية 'عَ الروزانا،' كان الجمهور قد بدأ بأكمله بالغناء معها. وبعدما أنهتها، أشارت إلى أنّ الأغنية الأخيرة ستكون الأطول من بين الأغاني التي قدّمتها.

بدأت الأغنية الأخيرة بكلمات من الأرمنيّة، ومن ثمّ سافرت بالأغنية إلى أغانٍ تراثيّة شاميّة وقدود حلبيّة، وسرعان ما أخذ الحفل منحى الأغاني التي تجلب الحنين معها إلى البيت، حتّى وإن كنّا لا زلنا نعيش فيها. وقف الجمهور على أقدامه، قسم تحرّك من مكانه باتّجاه المساحات التي ستتّسع للرقص والدبكة، وقسم آخر اختار أن يبقى إلى جانب كرسيّه للرقص. انتهى الحفل بتصفيق تواصل لدقائق معدودة، وصوت واحد يهتف: 'سوريا! سوريا! سوريا!'

مهرجان الصيف

في حديث خاصّ لمجلّة فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة مع أنس عابورة، الذي يعمل في مهرجان الصيف بهامبورغ، والمبادر لإقامة حفل لينا شماميان، أخبرني أنّ البطاقات بيعت جميعها، وأنّ أعدادًا كبيرة من السوريّين اللاجئين في مدن عديدة في ألمانيا قادمون لحضور الحفل.

وقال عابورة عن المبادرة لإقامة الحفل: 'اقترحتُ ضمن المهرجان إقامة حفل لينا شماميان، وكذلك حفل كاريوكي شرقيّ. وُلِدَت فكرة الحفل في آذار (مارس) الماضي، واقترحت تنظيم حفل لفنّان سوريّ أو فنّانة سوريّة، فطلبوا منّي اقتراحات، وكان اسم لينا شماميان الوحيد الذي اقترحته. كما كنت قد اقترحت أن تكون السعة الأقلّ للحفل هي 1500 كرسيّ على الأقلّ، وكانوا قد أبدوا استعدادًا لزيادة سعة المسرح من خلال إضافة كراسٍ، فأضافوا 400 مقعدًا للمسرح. ومنذ الإعلان عن الحفل، وبعد الترتيبات اللوجستيّة اللازمة، لاقى الحفل إقبالًا كبيرًا.'

فضاء ثقافيّ يُخلق

وفي حديث عن مشاريعه المستقبليّة، قال أنس: 'مشاريعي المستقبليّة ستكون دعوة المزيد من الفنّانين السوريّين، بما في ذلك إقامة حفلة إضافيّة للينا، وكذلك حفلة كاريوكي شرقيّ، مرّة كلّ شهرين، وفرقًا موسيقيّة جديدة في الساحة الفنّيّة، ومعارضًا فنّيّة وفوتوغرافيّة، بما في ذلك أعمال متعلّقة بالمسرح وبعض النشاطات على المستوى الإنسانيّ والسياسيّ المتعلّق بموضوع اللاجئين في ألمانيا بخاصًة، وأوروبا بعامّة.'

لعلّ هذه المبادرة هي خير ما يمكن أن تقوم به مجموعات عديدة تعمل في القطاع الثقافيّ بعيدًا عن وطنها. من جهة، تكمن أهمّيّة المبادرة بخلق فضاء ثقافيّ يحتوي كلّ من يحنّ إليه، ومن جهة ثانيّة، يعرّف الجمهور على ما تقدمه الساحة الفنّيّة العربيّة اليوم، سواء في الوطن العربيّ أو خارجه، والأمر الثالث هو تعريف الجمهور غير العربيّ على هذا الإنتاج الثّقافيّ الإنسانيّ الذي لا زال ينبض بالحياة والأمل، رغم كلّ الخراب.

في حديث خاصّ للينا شماميان لفُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة حول الحفل، قالت: 'قال لي كثيرون إنّهم بكوا، ضحكوا، رقصوا وشعروا بأنّهم عادوا إلى سوريا مدّة ساعتين من الزمن. طاقتهم وتفاعلهم والموسيقى والمسرح وكلّ التفاصيل أعادتني أنا أيضًا إلى بلدي مدّة ساعتين، وبعد الحفلة، عندما التقيت بالجمهور والتقطت صورًا معه وتحدّثت إلى الناس، شعرت كم نحن عطشون للدفء. سعدتُ جدًّا بالناس التي وصلت من فلسطين والخليج خصّيصًا ليحضروا الحفل، لأنّ الحدود أحيانًا لا تسمح لنا بأن نلتقي... مثل هذا الحفل، يحفر أثره قلبي لفترة طويلة، ويعطيني طاقة للاستمرار.'

قصص ومفاجأة

لم أشاهد حفلات موسيقيّة للينا شماميان قبل هذه المرّة، لكنّني استمعت إليها منذ البدايات. أذكر جيّدًا أنّ أغانيها كانت جزءًا أساسيًّا من الأغاني التي بثثتها ضمن برنامجي الإذاعيّ 'عَ البال' في إذاعة الشمس قبل 8 أعوام، لكنّني، متابعةً لإنتاجها الموسيقيّ، لاحظت تطوّرًا واضحًا على كلّ المستويات، سواء في التوزيع أو الأداء، لا سيّما ما يتعلّق بتقديم الأغاني التراثيّة الشاميّة، إذ نجحت لينا بإضافة بصمتها الخاصّة الصوتيّة والحياتيّة إلى الأغاني، فأحضرت عالمها الخاصّ ودمجت عوالم موسيقيّة متنوّعة وغنيّة. والأهمّ من ذلك أنّها نجحت في إضافة عنصر المفاجأة لبعض الأغاني، إذ من الصعب على المستمع أن يعرف إلى أين ستذهب الأغنية، تلك التي بدأتها بآهات على أنغام موسيقى الجاز، ووصلت إلى 'يا مال الشام.'

تميّز الحفل أيضًا، وحضور لينا، بأنّها أرفقت قصصًا بالأغاني، لم تخلُ أغنية واحدة من قصّة تسردها لينا للجمهور، سواء قصصها الشخصيّة أو قصص الأغاني المتنوّعة؛ ما قرّب الأغاني إلى الجمهور الذي لم يعرف الأغاني ولا اللغة.

حاجة الإنسان

كان من الواضح حاجة السوريّين لحفلات مثل حفل لينا شماميان في هامبورغ، الحاجة المتجسّدة بالحضور الذي وصل من مدن عديدة، لا للاستماع إلى أغانٍ عربيّة، سوريّة تحديدًا، بل أيضًا من أجل الالتقاء بالناس، أكانت لقاءات مخطّط لها أو عفويّة؛ شخص يلتقي بشخص آخر لم يره منذ ترك سوريا، وآخر يعرف صديقة من أيّام الدراسة...

هذه الحاجة، هي حاجة الإنسان للعودة إلى فضائه الثقافيّ الأوّل، ذاك الذي ابتعد عنه اختيارًا أو قسرًا، والذي بإمكان الإنسان خلقه في غرفته أو بيته الذي يسكنه بعيدًا عن وطنه، لكنّ القيمة المضافة تكمن بمشاركة هذا الفضاء مع آخرين في نفس المكان، سواء أناس يعرفهم أو جاؤوا من نفس بقعة الأرض التي هتفوا باسمها نهاية الحفل: 'سوريا! سوريا! سوريا!'

ربّما يكون هذا المشهد كافيًا لأن يحكي قصص الناس اليوم، تعبهم وقرفهم من كلّ من يغرس خرابًا ودمًا في وطنهم وغضبهم عليه، ويريدون سوريا؛ الإنسان والأرض.