الشخصيّة اليهوديّة في الراوية الصهيونيّة المعاصرة | أرشيف

الشهيد غسّان كنفاني (1936 - 1972)

 

المصدر:  «مجلّة الآداب».

الكاتب(ة): غسّان كنفاني.

موعد النشر: 1 آذار (مارس) 1963.

موقع النشر: أرشيف الشارخ للمجلّات الأدبيّة والثقافيّة.

 

حين يتعامل كاتب الرواية الصهيونيّة (1) مع أبطاله، يقع، حتمًا، في فخّ منصور مسبقًا، وما يلبث هذا الفخّ أن يضحى شغل الأبطال الشاغل، سواء بمعالجته مباشرة، أو بمحاولة الالتفاف حوله. ومهما كانت براعة المؤلّف في تغييب أهميّة هذا الفخّ، فإنّه سوف يبقى أبرز علامة في الرواية، وسوف تبرز ضرورة مواجهته مباشرة وراء كلّ موقف حاسم أو انعطاف جذريّ. ولذلك كلّه فإنّه يضحي، دائمًا ومن جديد، محور المواقف الآنية والدائمة والزاوية الإنسانيّة أو الخلقيّة للمشهد بأكمله.

هذا الفخّ هو، بكلّ بساطة، وجوب تقديم المبرّر المقنع الذي حمل البطل اليهوديّ على المجيء إلى فلسطين، كجزء من خطّة سياسيّة ترمي إلى تكريسها دولة يهوديّة، وسوف نُسارع إلى القول بأنّ التبرير التقليديّ الذي يستعمله مناطقة الصهيونيين لا يلائم أيّ عمل روائي جادّ، فإنّه من المضحك حتمًا أن يقول بطل رواية يهوديّ إنّه  إنّما جاء إلى فلسطين لأنّ أجداده احتلّوها قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام ولفترة وجيزة، وما من شكّ في أنّ هذا البطل مطالب بتقديم تبرير أكثر معقوليّة، لا لسبب قدومه إلى فلسطين، فقط، بل السبب الذي من أجله رفض مبدأ الذوبان في المجتمعات التي عاش فيها عشرات من القرون.

إذا وقفنا عند هذه النقطة فقد يكون بوسعنا أن نلتقط تفسيرًا لظاهرة البطوليّة المبالغ فيها في الروايات الصهيونيّة، عقدة التفوّق - إذا جاز لنا التعبير، التي كثيرًا ما تنفرد، مباشرة أو غير مباشرة، في تقديم التبرير الضائع والتي سوف تستمرّ رديفًا للبطل اليهوديّ في الرواية الصهيونيّة، تنمو نموًّا هائلًا ثمّ تنحسر - نتيجة للضغوط التي سبّبتها انحسارات النظريّات العرقيّة بعد انهزام النازيّة - لتبزغ من جديد، بشكل جديد، في الروايات الصهيونيّة المُعاصرة… إنّ الخيط الذي ينظم أبطال الروايات الصهيونيّة منذ منتصف القرن التاسع عشر حتّى منتصف القرن العشرين جاء ليرسم غشاوة أمام التساؤل الذي تطرحه «عودة» البطل الصهيونيّ إلى فلسطين، كأنّما يحاول العمل الروائيّ الصهيونيّ أن يعتبر أنّ التفوّق الفكريّ والخلقيّ والبدنيّ للبطل اليهوديّ، هو مبرّره في إقامة دولة…

ولكنّ هذا التبرير يبقى ناقصًا: إذا كان التفوّق اليهوديّ هو مبرّر البطل الروائيّ الصهيونيّ في إنشاء دولة يستحقّها وتستحقّه فما هي مبرراته «لاقتلاع» شعب آخر في سبيل السيطرة على مكانه؟ إنّ هذا السؤال يقود إلى ممرّ نازيّ خطر… ورغم ذلك، فقد استطاعت الروايات التي ألّفت قبل عام 1948 أن تدور حوله، ولكنّ الروايات التي كُتبت بعد عام 1948 كان عليها أن تواجهه، ومن سوء حظّها أنّها كلّفت «ليون أوريس» بهذه المواجهة في «آكسودس»…

 

-1-

«الأرض الجديدة القديمة» (2) رواية يتوبيّة كتبها ثيودور هرتزل، المفكّر الصهيونيّ المعروف في أواسط القرن التاسع عشر تقريبًا، وتخيّل فيها فلسطين كدولة يهوديّة عام 1923.

إلّا أنّ المشاكل التي كان على الرواية أن تواجهها تخطّتها بكلّ سطحيّة وغباء، ذلك أنّه لم يخطر على بال هرتزل وهو يتنبّأ عن أحوال فلسطين بعد حوالي 70 عامًا من كتابة «الأرض الجديدة القديمة» لم يخطر على باله شيء اسمه قوميّة، ويبقى يعتقد بانّ فلسطين سوف تبقى جزءًا من الإمبراطوريّة العثمانيّة، ولم يفكّر قطّ بأنّ اللغة العبريّة سوف تصلح لتكون لغة الدولة، ولذلك فقد جعل يهود فلسطين، يتبنّون - في روايته - اللغة الإنجليزيّة، «لم تكن لديه فكرة واضحة عن فلسطين كبلد عاش فيه العرب قرونًا وما زالوا يعيشون» (3)، ورغم ذلك فإنّ العرب في الرواية، قد اعتبروا قدوم اليهود إلى فلسطين بركة ونعمة، فالأراضي قد ارتفع ثمنها ورشيد بك (شخصيّة عربيّة في الرواية) قد باع أرضه مثلما فعل الجميع ليشاركوا في بناء المجتمع الجديد… (4) واليهود هم، بإيجاز، سبب الخير العميم ولولاهم لبقي القديم على قدمه والسيّء على سوئه، ولواصل العرب في فلسطين حياة الجهل والظلام...

على أنّ رواية هرتزل، وإن حاولت الدوران حول الفخّ ببراعة (لا يهمّنا أن نعرف فيما إذا كان منشؤها جهل هرتزل كما يقول النقّاد، أو ذكاءه وبعد نظره)، فإنّها لم تنج نهائيًّا من أعراض السقوط: فاليهود الذين سيأتون لإنشاء دولة في فلسطين، لن يعمّروا الشرق الأوسط فقط، بل أفريقيا أيضًا، وهم - يجب أن لا ننسى ذلك، الحلّ الوحيد لظلام المنطقة…

ولكنّ الفخّ الذي دار حوله هرتزل سقط فيه الروائيّ الإنجليزيّ، رئيس الوزارة البريطانيّة، بنيامين دزرائيلي في كتابه «دافيد آلروي» الذي نشر ه عام 1833… وبالرغم من عدم توضّح أفكار صهيونيّة حاسمة في هذه الزاوية، إلّا أنّها كانت ذات ضرورة قصوى كعمل تمهيديّ، ففيها يسجّل دزرائيلي آراء عرقيّة متطرّفة تذكّر بالنظريّات العرقيّة التي ستنمو في ألمانيا بعد مئة سنة من ذلك التاريخ، ويكرّس دزرائيلي فكرة نقاء العرق، وتفوّق العبريين، ويجعل من سيدونيا، بطلة الرواية، بوقًا لحمل هذا الطراز يحفل بها الكتاب… ولقد برز هذا التشدّق العرقيّ بروزًا واضحًا دفع إلى مناقشات حادّة شهدتها الصحافة البريطانيّة أيّامذاك، ويهمّنا ممن شاركوا في تلك المناقشات جورج إليوت، التي كُتبت عام 1948 تنتقد عرقيّة دزرائيلي بعنف، وما لبثت، عام 1847، أن دفعت للنشر روايتها «دايفيل ديروندا» التي «نصّبت اليهوديّ الطيّب في الأدب الإنجليزيّ، وصار بوسعها أن تزيد من الوثائق الميّالة للصهيونيّة» (5) ولكنّها تهرّبت ببراعة من الفخّ التقليديّ، وبالرغم من شكليّة الحلّ الذي ارتأته بقولها إنّ معنى الشعب المختار هو كونه قد اختير ليخدم الشعوب الأخرى، إلّا أنّ أبطال الرواية اليهود كرّروا نموذج المتفوّق، وأضافت جورج إليوت إلى تفوّقهم الفكريّ أسطورة نبوّتهم السياسيّة فجعلت الرواية ذات هدف سياسيّ مباشر (6).

 

-2-

في نهاية القرن التاسع عشر بدأت الهجرة اليهوديّة إلى فلسطين تتخذ شكلها العمليّ، وتنشأ، في هذه الفترة، طبقة من الكتّاب اليهودد نفّذوا أعمالهم الأدبيّة فوق أرض فلسطين، إلّا أنّ شخصيّة «الرائد» (7) ما لبثت أن لبسها أبطال يهود من هذه الفترة في الأعمال الروائيّة اليهوديّة التالية، وأنّه من الغريب حقًّا أنّ الرواية اليهوديّة، في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، والتي كُتبت على أرض فلسطين ذاتها، لم تذكر شيئًا عن هذا «الرائد»… إنّ دافيد شمعوني مثلًا، الذي وصل إلى أرض فلسطين عام 1909 يكتب عن رجل اسمه كاتريل يكره أن يسمّى بأنّه رائد، وهو يحتجّ على الدعايات التي تحاول شحنه بالاعتقاد بأنّه بطل وبأنّه، بمجيئه إلى فلسطين، قد قدّم تضحية كُبرى (8) وكذلك الأمر مع جاكوب شتاينبرغ (1886 - 1948) عاش شبابه كلّه في فلسطين، ورغم ذلك، قإنّه لم يذكرها في شعره، آنذاك، إلّا لماما، وصاموئيل جوزيف آغنون (1888- ) جاء إلى فلسطين وهو في العشرين من عمره، ولم يعكسها في قصصه المبكّرة على الإطلاق… وكذلك الأمر مع فيلسوف اليهود آرون دافيد غوردون (1856 - 1922) الذي لا يعتقد بأنّ اليهود القادمين إلى فلسطين هم ضحايا أو روّاد بمعنى أبطال… وهكذا نرى بأنّ شخصيّة «الرائد البطل» هي من صنع الروائيين اللاحقين، ويبدو روبن وولنرود، أستاذ الأدب العبريّ في جامعة بروكلن، يبدو مضحكًا حين يقرّر أنّ غياب «البطل الرائد» في أعمال «الأدباء اليهود الروّاد» الروائيّة والشعريّة، وانعدام سيرهم وسير المشاق البطوليّة التي تغلّبوا عليها، كلّ ذلك مردّه إلى أنّ أولائك الروّاد لم يشاهدوا فلسطين الحقيقيّة حين وصولهم، بل فلسطين التوراتيّة الخياليّة! (9) والواقع أنّ وولنرود مضطّر لمثل هذا التبرير، لأنّ شخصيّة «اليهوديّ الرائد» سوف تحتلّ مكانًا مرموقًا على أيدي الروائيين الذين جاءوا بعد «الروّاد»، وبنوا على أكتافهم شخصيّة اليهوديّ المتفوّق مثلما حصل في أكسودس، بشكل خاص، وفي أعمال الكتّاب اليهود الأوروبيين.

بعد مرور تلك الفترة بوسعنا أن نميّز بطلًا واحدًا يعيش في ثلاث روايات صهيونيّة تشكّل، عمليًّا، ثلاثيّة في منطق الزمن: الأولى هي رواية آرثر كوستلر (لصوص في الليل) التي كتبها حوالي عام 1945، والثانية هي رواية «أكسودس»، لليون أوريس، التي نُشرت عام 1956، ولكنّها ركّزت على فترة زمنيّة تمتدّ بين 1944 - 1948 تقريبًا، ثمّ رواية الكاتبة الشابة يائيل دايان «طوبى للخائفين» التي نُشرت عام 1960 والتي تناولت فترة ما بعد 1948 وحتّى 1960.

 

-3-

آرثر كوستلر روائيّ بارع، ولذلك فإنّه حريص على عدم السقوط في الفخّ المنصوب أمامه، إنّه يشعر بالخطر شعورًا يرافقه في كلّ فصول الرواية، ولذلك فهو يحمل الموقف الحاسم لمنطق صحفيّ أميركيّ غاضب، ويترك للبطل اليهوديّ (جوزيف) فرصة إبداء رأيه خلال مناقشاته لرفاقه اليهود، وهكذا، فإنّ وجهة النظر اليهوديّة الصرفة تبقى مختفية وراء منطق الصحفي الأميركي الغاضب. ولكن كوستلر لا يجد خيرًا من أن يعرض وجهة النظر العربيّة على لسان فلّاح، أوّلًا، ثمّ على لسان كامل أفندي، المثقّف البرجوازيّ، ويبذل جهده ليجعل الآراء العربيّة آراء هزيلة عن طريق أسلوب الحديث والمعنى في آن واحد… إلّا أنّ وجهة النظر العربيّة تواصل الحفاظ على منطقيّتها بالرغم من كلّ شيء: «ما ينتجه الوادي كاف بالنسبة لنا… نريد أن نعيش كما عاش آباؤنا ولسنا نريد نقودكم ولا تراكتوراتكم ولا أسمدتكم ولسنا نريد -أيضًا- نساءكم اللواتي يزعج منظرهنّ العين!» (10)، وثمّة أيضًا موقف المثقّف الأنيق: «هذه بلدنا نحن، هل تفهم؟ لسنا نريد فضل الأجانب ولا دعمهم، نريد أن نُترك وشأننا، هل تفهم؟ نريد أن نعيش حياتنا ولسنا نريد أساتذة أجانب ولا أموالًا أجنبيّة ولا عادات أجنبيّة ولا ابتسامات متنازلة ولا ضربات تلطيف فوق الكتف ولا عجرفة ولا نساء وقحات ذوات أرداف رجراجة، لا نريد عسلهم ولا نريد لدغهم، هل تفهم؟ لا عسلهم ولا لدغهم!» (11).

ولكنّ كوستلر يحاول أن يردّ الصاع لهذا المنطق كي يظهر الفرق، فهو يترك الصحفيّ الأميركيّ يقول لكمال: «أوف، كفّ الحديث عن بيتك، فهي الخمسمئة سنة الأخيرة لم تكن الدار دارك، بل دار الأتراك!» (12)، وكوستلر يعرف تمامًا أنّ هذا المنطق منطق سخيف، ولذلك يحرص على إغراق القصّة بأوصاف ترمى إلى إعطاء الصورة التي يُريد: «وفي لحظة كرم، قرّر أن يشتري لابنه عيسى زوجة طيّبة بغضّ النظر عن الثمن» ص 27 - و«كلّ كبير عائلة (عربيّة في قرية معيّنة) كانت تتوجّب رشوته على حدة، ثمّ أخذت بصمات الـ563 فردًا بما فيهم الأطفال والبهاليل» ص 14 - وبين ص 103 و ص 120 وصف لتقاليد قرية عربيّة بشكل يقصد إظهار مدى تأخّرها ومأساتها الخلقيّة والماديّة… وفي ص 34 - يقول الشاب اليهوديّ للكهل العربيّ: «هذه التلّة لم تنتج منذ تركها أجدادنا، لقد أهملتموها وتركتم مدارجها تنهار، سوف ننظّف التلّة من الحجارة ونحضر تراكتورات وسمادًا…».

إلّا أنّ كوستلر يفضّل - دائمًا - الابتعاد عن المواجهات المباشرة للمبرّرات التي دفعت اليهوديّ للقدوم إلى فلسطين وبحث مواضيع تفصيليّة قادرة على تضييع القضيّة الرئيسيّة، فالمسألة - في لصوص الليل - هي مسألة تبرير للعنف، وإعطاء رخصة خلقيّة لعصابة آراغون زفاي ليومي لتقوم بأعمالها الإرهابيّة العنيفة، ولا شكّ أنّ كوستلر يرغب في البرهنة بأنّ العنف اليهوديّ هو مجرّد ردة فعل منطقيّة للوحشيّة العربيّة والإنجليزيّة (العرب والإنجليز دائمًا يقفان إلى جانب بعضهما في معظم الروايات الصهيونيّة).

جوزف، بكلّ لصوص في الليل، شخصيّة محبوكة ببراعة: بالنسبة لكوستلر لم يكن من الضروريّ إلباس جوزف ملابس البطولة الخارقة والتفوّق النهائيّ لأنّه جعله يعيش في جوّ يهوديّ، ولكن حين يقترب جوزف من إنسان عربيّ (أو أيّ يهوديّ من أيّ عربيّ) فسرعان ما يميل الميزان بشكل واضح…

الشخصيّات العربيّة التي قدّمها كوستلر شخصيّات مهزوزة معقّدة سطحيّة بالرغم من أنّه حاول أن لا يشير إلى ذلك مباشرة، ولكن ملاحقته لأيّ نموذج عربيّ يرمي إلى إظهار خسّته، في النهاية، أو تفاهته، وهو أمر لا يفعله حين يُلاحق شخصيّة يهوديّة حتّى لو كانت هذه الشخصيّة تتعلّق بيهوديين مسلّحين يخطفان مختار القرية الشيخ من داره - لغرض الانتقام - ويجزّان عنقه في البريّة وهو بلباس النوم.

ورغم كلّ شيء فإنّ كوستلر يبدو منطقيًّا أمام أوريس في «آكسودس»، ولا تبرهن هذه الجملة على «عدالة» كوستلر بل على «ظلم» أوريس المتناهي، ففي الستمئة صفحة التي يلاحق فيها الأبطال اليهود في آكسودس تنتقم الأشياء انتقامًا رهيبًا، مصنّفة بين الأبيض والأسود: تفوّق يهوديّ، خلقيّ وفكريّ وبدنيّ، نهائيّ، وصغار عربيّ، خلقي وفكريّ وبدنيّ، نهائيّ أيضًا: الخير المطلق هو الجانب اليهوديّ، أمّا الشرّ المطلق والخطأ المطلق والنقصان المطلق، فهو الجانب العربيّ!…

إنّه من المحيّر حقًّا أن تحرز رواية آكسودس كلّ المجد الذي أحرزته وهي نموذج هائل لفشل روائيّ يدّعي التاريخيّة وتشويه للنموذج البشريّ الطبيعيّ، وليس هذا الرأي بجديد، فجون كمشه يقول: «كنت قد سألت واحدًا من أهمّ الممثلين الإسرائيليين في الولايات المتّحدة عن آكسودس… فأجاب بأنّه أجبر نفسه على قراءته، لقد كان فظًّا مبتذلًا، ولكنّه كتاب رائع بالنسبة لليهود الأميركيين» (13).

وبالرغم من أنّ كمشة يعتقد - في مقاله نفسه - بأنّ نجاح آكسودس يرجع إلى أنّ أوريس «أعطى الجمهور اليهوديّ في كافّة طبقاته الصورة التي تاقوا إليها…» فإنّه من الواضح أنّ تلك الصورة، لليهوديّ، هي مجرّد تكريس روائيّ للنظريّة العرقيّة النازيّة بشكلها المعكوس، وقد يكون هذا بالذات ثمن نجاحها.

وعلى أيّ حال، فالسؤال الرئيسيّ ما زال واردًا: ما هو المبرّر الذي حمله البطل اليهوديّ للمجيء إلى فلسطين؟ هناك أوّلًا المبرّر العكسيّ: «حتّى لو كان عرب فلسطين قد أحبّوا أراضيهم لما كان بوسع أيّ كان طردهم منها… لقد كان لدى العرب قليل من الأشياء ليعيشوا من أجلها، وأقلّ من ذلك ليقاتلوا في سبيله…» ص588- وهناك ثانيًا المبرّر الإيجابيّ: «تقف إسرائيل اليوم أداة جبّارة وحيدة قادرة على إخراج الشعب العربيّ من العصور المظلمة…» ص588 - إنّ كلمة (وحيدة) هُنا، لم تقع مصادفة، وكلّ شيء في الرواية تعمّد أن يصل إليها، بل إنّ البطل العربيّ الوحيد «الطيّب» في الرواية يرى «أنّ اليهود هم الخلاص الأوحد للشعب العربيّ… فهم الوحيدون الذين جلبوا الضوء إلى هذا الجزء من العالم في الألف سنة الأخيرة…» - ص279 - ولكنّ الأمر لا يقف هُنا، فإنّ صفحات طويلة في آكسودس مخصّصة للحديث عن اليهود ضحايا الاضطهاد النازيّ، وفي غمرة الجوّ الفاجع - المبالغ في فجيعته - يصبّ أوريس عيون قرّائه على قدوم اليهود إلى فلسطين قافزًا من فوق وقفة منطقيّة… وفي فلسطين ينقسم العالم إلى أبيض وأسود، فالعرب هناك قواويد يبيع الصبيّ منهم أخته (ص357) والأطفال العرب - عكس اليهود - يعيشون بلا هدف (ص371)، وإذا أحبّ العربيّ يهوديّة فإنّه من الطبيعيّ أن تبصق بوجهه (ص301) ويبيعون المرأة بعدد من الجمال (ص377) ويعطون نسوتهم للإنجليز (ص432) وإذا قاتلوا فإنّما بتهديد بنادق قادتهم (ص518) والدكان العربيّة لم تكنس منذ عشر سنوات (ص400) والرجال العرب لا يعرفون غير اللغة العربيّة مع العلم بأنّ الطفلة اليهوديّة تعرف الإنجليزيّة والعبريّة والدنماركيّة والفرنسيّة والألمانيّة (ص400)، أمّا اليهود فالأمر يختلف معهم، فأنت لا تستطيع أن تجد يهوديًّا واحدًا يعمل جاسوسًا ولا يمكن أن تفعل شيئًا لتخيفهم (ص115) وهم ينتصرون في إحدى المعارك بواسطة إذاعة أصوات ألعاب ناريّة في مكبّرات الصوت، فيهرب العرب (ص535) والجنديّ اليهوديّ يشكّل «بلا تردّد أعلى مستوى ثقافيّ وعقلانيّ ومثاليّ لرجل تحت السلاح في العالم أجمع» (ص305) وكان موندك قد ترأّس حركة المقاومة البولنديّة - وهو يهوديّ - قبل أن يصير عمره 19 سنة (ص130) ويصبح يهوديًّا عمره 12 سنة أكبر مزوّر جوازات سفر في بولندا (ص135) وهم حين يضطرّون للجوء تحت الأرض يواصلون تمارين الأوركسترا السمفونيّة (ص558) وبوسع الأطفال أن يقاتلوا إذا لزم الأمر ويهزموا فرقة عربيّة (ص560)… إلخ.

على أنّ آري بن كنعان، بطل آكسودس الذي يشبه أبطال الأفلام الأميركيّة المسلسلة «شازام وسوبرمان وطرزان معًا»، هو أكثر شخصيّات الرواية بروزًا، ومما لا شكّ فيه أنّه مجرّد امتداد منطقيّ لجوزيف، بطل «لصوص في الليل» الذي بدا بداءة تبشّر بهذه النهاية، ولكنّه، عمليًّا، لا يقدّم أيّ تبرير «لعودته» إلى فلسطين إلّا تفوّقه الجسديّ والذهنيّ المبالغ فيه إلى حدود مضحكة أمام «قزميّة» الإنسان العربيّ المرافق لحيويّته كي يظهر عجزه أكثر إيلامًا…

هل يحدث هذا لأنّ الكاتب اليهوديّ «يفقد كثيرًا من موضوعيّته بسبب شعوره الكامل بهويّته ومسؤوليّاتها…» (14) أم لأنّ «القرب الشديد من الأحداث والشخصيات يُعطي كتاباته… نوعًا من المايوبيا؟» (15).

في الواقع إنّ هذا لا يحدث بسبب «القرب الشديد من الأشياء» لأنّ ذلك القرب حريّ بإبراز تفاصيل الرقعة الضيّعة التي يسمح القرب المبارغ فيه أن تقع في نطاق الرؤيا، على أنّ هذه التفاصيل، في طريقة رسم أوريس للشخصيّة اليهوديّة، أو الشخصيّة العربيّة، مفقودة تمامًا، ولكن ربّما يحدث هذا بسبب الشعور المرضيّ - وليس الكامل - بالهويّة، الشعور الذي هو، في ذاته نتاج لعقدة في الأساس… المحاولة اليائسة لتغليب منطق دراماتيكيّ على حقائق الواقع البارد علّ - هذه الدراماتيكيّة غير الواقعيّة تحمل الاكتفاء.

وهكذا فقد كان من المنطقيّ أن تصل إلى الساحة كاتبة مثل يائيل دايات لتكتب «طوبى للخائفين»، والواقع أنّ العنوان في ذاته يحمل جذور العقدة فهو يوحي بأنّ الكتاب إنّما دفاع عن الخوف في «بلد» لا يخاف في الناس من أيّما شيء!

وفي «طوبى للخائفين» تحاول دايان أن تمحو أثر الرجل البطل القويّ الصارم، إلّا أنّها، كنقطة بدء، تعترف بإمكان وجوده، بل أنّ بطل «طوبى للخائفين» لا يخاف وهي ترى ذلك منطقيًّا كنتاج للماضي ولكنّها لا ترغب فيه الآن.

وراء الشخصيّات المسالمة الهادئة في «طوبى للخائفين» تلوح أشباح رجال قادرين على أن يكونوا أبطالًا ساعة يشاؤون إلّا أنّ «صوت الضمير» في الكتاب يعتقد بأنّ هذا الأوان ليس أوان البطولة… «ولذلك فإنّ البطل عند دايان هو نهائية لرحلة أبطال آكسودس».

ثمّة مشهد هامّ في طوبى للخائفين يصلح لإثبات ذلك الكلام بشكل مثاليّ: البطل نموذج يصعد الجبل الواقع على الحدود برغم كلّ المخاطر، وعلى قمّة ذلك الجبل يكتب في مذكّراته: «صحت: من هو الأقوى؟ أتعرف من أين أتى الصدى هذه المرّة؟ من الأردنّ! من الليطاني، من الطريق إلى دمشق في الشمال، ومن سقف السماء الواطي!» - ص113 - إنّ الذي يستنتج من هذا الكلام - حتّى دون أن نحمله على محمل رمزيّ - هو اقتناع البطل الكامل بمدى قدرته اللانهائيّة وطاقته غير البشريّة وتفوّقه المطلق، أمّا المشهد الذي يليه مباشرة، وهو قدرته على قتل رجل عربيّ وامتناعه عن ذلك لمجرّد عدم رغبته ففيه الشيء الكثير من المعاني التي ترمي إليها المؤلّفة في تحيّتها للخوف والخائفين.

إنّه عالم مزدحم من الأبطال الخرافيين والبطولات التي لا تصدّق، ورغم ذلم فإنّ كلّ هذه الملاحم المتراكبة لم تنجح في حجب السؤال الأساسيّ الذي يطرحه القارئ الجادّ على نفسه حين يمسك رواية صهيونيّة ليجد فيها ما يفيد…

..........

إحالات:

[1]  نعني بالرواية الصهيونيّة، خلال هذه الدراسة، الرواية التي يتعامل أبطالها بشكل مباشر أو غير مباشر مع الأهداف السياسيّة للحركة الصهيونيّة التي وُلدت بمؤتمر بال في نهاية القرن التاسع عشر، بغضّ النظر عمّا إذا كانت من نتائج الصهيونيّة السياسيّة أو من مسبّباتها.

[2]  Alt NEULAND

[3]  NEWOUTLOOK NO 7 (29)

[4]  NEWOUTLOOK NO 8 (39)

[5]  من شيلوك لسفنغالي، ص162.

[6]  تُرجمت الرواية إلى العبريّة ونشأ معها جيل من المفكّرين اليهود وفي 1948 أطلق اسم جورج إليوت على شارع في تل أبيب.

[7]  PIONEER.

[8]  أدب إسرائيل الحديثة - روبن وولنرود - ص50.

[9]  أدب إسرائيل الحديثة - روبن وولنرود - ص9.

[10] لصوص في الليل - ص34 (على لسان فلّاح عجوز).

[11]  لصوص في الليل - ص177 - على لسان كمال أفندي.

[12]  لصوص في الليل - 175.

[13]  جون كمشه، جويش أوبزرفر، العدد 17، مجلّد 10 (274-1962).

[14-15] - أدب إسرائيل الحديثة - روبن وولنرود ص2.

 

 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.