فترة الاحتلال الصهيونيّ لقطاع غزّة

خان يونس (1956)

 

المصدر:  «مجلّة الآداب».

الكاتب(ة): عدنان يوسف

زمن النشر: آذار (مارس) 1958.

 

أُتيحت لي فرصة زيارة قطاع غزّة، بعد أن أنعم الله عليه بانسحاب القوّات الإسرائيليّة من بعد احتلال غاشم دام حوالي أربعة أشهر، وكنتُ موفدًا من قبل إدارة فلسطين في جامعة الدول العربيّة لجمع البيانات والإحصاءات والمعلومات والصور التي تمثّل فترة الاحتلال الصهيونيّ وما رافقها من اعتداءات وفظائع وخسائر في الأرواح والممتلكات. وقد قضيت في القطاع ثلاثة أسابيع تيسّر لي خلالها عن طريق المسؤولين في الإدارة المصريّة وبلديّة غزّة وخان يونس وفي وكالة الإغاثة وعن طريق بعض شباب المنطقة، أن أقف على حقائق ومعلومات وصور غوتوغرافيّة وإحصائيّات كانت نواة لكتاب جامع تزمع الأمانة العامّة لجامعة الدول العربيّة إصداره عن هذه الفترة البغيضة من حياة الأمّة العربيّة، وقد أصدرت مؤقّتًا كتابًا مختصرًا مدعّمًا بالصور وعملت على توزيعه في معرض دمشق الدوليّ الأخير، كما قامت بترجمته إلى اللغة الإنجليزيّة وأرسلته إلى نيويورك لتوزيعه أثناء انعقاد دورة الأمم المتّحدة الأخيرة.

لقد خرجت من زيارتي هذه بانطباعات ونتائج وحقائق رأيت أن أجملها في بحثي هذا، ولن تفي هذه المعلومات بكلّ الغاية المنشودة لأنّها مجرّد انطباعات من شخص زار قطاع غزّة وهي تنعم بالحرّية، إلّا أنّ التجربة الحقيقيّة هي تلك التي عاشها من وجد أثناء فترة الاحتلال وخاصّة من كان له شرف العمل الوطنيّ في المقاومة الشعبيّة السلبيّة والإيجابيّة، ومع ذلك، رأيت أنّه من المفيد أن أكتب عمّا خرجت به من زيارتي هذه، لأنّ مجرّد زيارة القطاع فرصة لم تتح إلّا للقليل من الشباب العربيّ المنتشر في وطننا الكبير، كما أنّ كوني موفدًا في مهمّة رسميّة، وكوني أحد أبناء غزّة أتاح لي الوقوف على معلومات لم تتيسّر للكثيرين ممّن زاروا هذا القطاع (كما أنّني قابلت الكثيرين ممّن عُذّبوا أو ممّن شاهدوا المآسي والكوارث وكذلك بعض شباب المقاومة الشعبيّة) أضف إلى ذلك إيماني بأنّ الدعاية ضدّ الصهيونيّة وإظهار مدى فظاعة اعتداءاتها علينا يجب أن يبدأ به أوّلًا في الوطن العربيّ وأن يطّلع على ذلك كلّ عربيّ، لكي ينمو في نفسه حقد دائم على هذا العدوّ الذي فرض علينا وعلى ما اقترفه بحقّ عرب فلسطين خاصّة والعرب أجمعهم عامّة، فمن الواجب علينا أن نُرضع أطفالنا كره الصهيونيّة وأن نعلّم أبناءنا أهداف الصهيونيّة، وما جرّته علينا من ويلات وكوارث، كما نعلّمهم مبادئ القراءة والكتابة وأن يتناسب ذلك مع تطوّر مداركهم وعقولهم، فنحن إن لم نتعلّم كيف نحقد وكيف نكون أعداء لخصومنا، فلن نعرف كيف نحارب وبأيّ روح وبأيّ وازع وبأيّة وسائل.

نظرًا لما بيّنت في هذه المقدّمة، أردت أن أكتب هذا البحث ورأيت أن أضعه بشكل نقاط متعدّدة.

 

-1-

دخل اليهود قطاع غزّة تنفيذًا لمؤامرة ثلاثيّة غادرة، دخلوا تظلّلهم الأساطيل الجويّة الفرنسيّة والإنجليزيّة، وتمهّد لزحفهم أساطيلها البحريّة، ويخلي الطريق أمامهم الاعتداء البريطانيّ الفرنسيّ على بورسعيد، فوصلوا مدينة رفح في أوّل نوفمبر 1956، ومدينة غزّة في 2 نوفمبر (وهو يوم ذكرى وعد بلفور المشؤوم) ومدينة خان يونس في 3 نوفمبر. ومن الثابت أنّ القوّات الفرنسيّة ساعدت في احتلال مدينة رفح، فعزلت بذلك باقي قطاع غزّة، وما أن استسلم القطاع إثر المؤامرة الثلاثيّة ونتيجة الغلبة في العدد والأعتدة، حتّى دخلت القوّات اليهوديّة تبثّ الذعر في النفوس وتُطلق الرصاص دون وعي وفي كلّ اتّجاه، فتقتل وتهدم وتشوّه ثمّ تنهب النقود والحليّ والمجوهرات والمأكولات والملبوسات، فكان ذلك أسوأ بداية لأسوأ عهد عاشه قطاع غزّة.

 

-2-

أبرز ما يخرج منه المرء بعد اطّلاعه على ما حصل عند احتلال القطاع وأثناء هذا الاحتلال هو روح الشرّ والانتقام والحقد الكامنة في نفس كلّ يهوديّ والمسيطرة على تصرّفاته، وخاصّة عندما جوبهت هذه القوّات بمقاومة باسلة في مدينة خان يونس من قوّات الفدائيين والجيش الفلسطينيّ والجيش المصريّ. لقد سقطت مدينة رفح وهي تقع جنوبيّ خان يونس صباح يوم 2 نوفمبر، ومع ذلك فقد استمرّت خان يونس في مقاومتها الباسلة بشجاعة منقطعة النظير، وقاومت جحافل الجيش الإسرائيليّ حتّى ظُهر يوم 3 نوفمبر. وهُنا بدأت روح الشرّ جليّة في نفوس القوّات الإسرائيليّة فقصفت المدينة بمدافع طائراتها وبمدافع الميدان دون أيّ تمييز، وما أن دخلت هذه القوّات حتّى ارتكبت أبشع أنواع الفظائع التي يعجز القلم عن تصويرها.

مذبحة يوم المدرسة، رفح (1956)

لقد دخل جنود إسرائيل مدينة خان يونس، وهدفهم إفناء شباب المدينة خاصّة الجنود منهم، وكانت مجرّد مشاهدتهم لأحد رجال المدينة في الشارع أو على باب منزله كافية للقضاء عليه، ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل توزّعت فرقهم على منازل المدينة تبحث عن الشباب فيها، وما أن ترى شابًّا حتّى ترديه قتيلًا دون أيّ تحقيق أمام أهله وأطفاله، ولم تكن تنفع معهم دموع وتوسّلات النساء ولا عويل الأطفال، وكانت بعض الفرق تجمع هؤلاء الشباب أمام المنازل وفي الساحات العامّة وتوقفهم في طوابير ثمّ تنهال عليهم برصاصها. وكان الضابط الإسرائيليّ بعد ذلك يقلب أجساد القتلى فيكمل برصاصه على من لم يلفظ أنفاسه بوحشيّة بالغة.

وهُناك عشرات من المآسي يندى لها جبين الإنسانيّة على مرّ الأجيال. وأرى أن أكتفي بسرد بعضها على سبيل المثال لا الحصر: فقد دخلت إحدى هذه الفرق مستشفى المدينة فوجدت فيه 33 مريضًا في فِراشهم فقتلتهم جميعًا، كما وجدت ثلاثة أطبّاء مصريّين بلباسهم الطبّي وعلى أذرعهم شعار الهلال الأحمر، ومع ذلك، أردتهم قتلى في ساحة المدينة، ودخلت فرقة  أحد المنازل، فوججدت فيه 22 شابًا مدنيًّا فأخذتهم إلى الخارج وأوقفتهم قرب جدار المنزل وانهالت عليهم برصاصها الغادر فأتت عليهم.

ودخل بعض جنودهم إلى منزل أحد أعيان المدينة، وهو شيخ طاعن في السنّ وله ابنان، عمر الأكبر فيهما 27 وعمر الآخر 17 عامًا، فقتلوا الأوّل في عقربيّته وأمام والديه، ومنعوا والده من تقديم الماء له وكان يطلبه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، ثمّ أخذوا الآخر إلى خارج المنزل ووضعوه مع 28 شابًّا آخر وقتلوهم أمام المنزل، ودخل بعضهم إلى منزل أحد اللاجئين وله 11 بنتًا وابن واحد وهو طالب في مدرسة خان يونس الثانويّة، فتوسّل إليهم الأب بأن يُبقوا على حياة وحيده، ومع ذلك أجلسوه على كرسيّ أمام والديه وشقيقاته وأطلقوا الرصاص على عينه فتوفّي في الحال.

هذا قليل من كثير ممّا حصل في مدينة خان يونس التي بلغ عدد شهدائها 450 شهيدًا، استشهد معظمهم بعد أن دخلت القوّات الإسرائيليّة المدينة، وكانت غالبيّتهم من المدنيّين. وقد حدث أن رأت قوّاتهم 25 جنديًّا مصريًّا بزيّهم العسكريّ فقتلتهم في ساحة المدينة على الرغم من أنّ قائدها قد استسلم للقوّات الإسرائيليّة، ولم تكتف بذلك بل منعت الأهالي من دفن جثثهم لمدّة ثلاثة أيّام، وكانت تُجبر الأهالي من السير بقربهم.

ضحايا مجزرة يوم المدرسة (1956)

أمّا في غزّة، فكانت الحوادث عند دخول القوّات الإسرائيليّة أقلّ من ذلك، إذ أنّ غضبها انصبّ على مدينة خان يونس نظرًا لما أبدته من مقاومة فائقة ولأنّها كانت موقع البقيّة الباقية من الجيش الفلسطينيّ. ومع ذلك لم يسلم أهل غزّة وخاصّة سكّان مشارفها من فظائع الصهيونيّة، ومن أمثلة ذلك، أنّ فرقة منهم دخلت أحد المنازل في طرف المدينة فوجدت فيه أحد عشر رجلًا فأخذتهم إلى خارج المنزل واستبعدت أحدهم وقتلتهم جميعًا، وقال قائدها لمن استُبعد: عليك بدفن جثث هؤلاء، ومن المؤلم أنّ هذا الشابّ شاهد بذلك مصرع والده وأقاربه بعينه.

كما حصلت حوادث أخرى مشابهة في معسكرات اللاجئين العديدة إلّا أنّها كانت على نطاق ضيّق.

أمّا مدينة رفح فإنّ ما حصل فيها يُضاف إلى سجلّ مآسي الشعب الفلسطينيّ الحافل بالضحايا والذكريات المؤلمة. فقد حصلت حوادث فرديّة عن احتلال اليهود لها في أوّل نوفمبر 1956، إلّا أنّ ما حصل فيها صباح يوم 12 نوفمبر يفوق ذلك بكثير: فقد أعلن اليهود بالمذياع ضرورة تجمّع جميع شباب المدينة والمعسكرات من سنّ 15 سنة حتّى 45 سنة في مراكز معيّنة خلال نصف ساعة لعمل تحقيقات وتحريّات، فتسارع الشباب إلى هذه المراكز المحدّدة، إلّا أنّه حصلت في ذلك اليوم عدّة مآسي، فبينما كانت زرافات الشباب تندفع نحو هذه المراكز، كان الرصاص ينهمر نحوهم وحولهم للإرهاب، ممّا تسبّب في قتل 11 شابًّا كانوا متّجهين نحو ساحة المدينة، ومن المؤلم أن يكون أربعة منهم من عائلة واحدة، ثمّ بعد ذلك انطلقت جحافل جيشهم تبحث عن الرجال في خيام اللاجئين ومنازل السكّان، وكان الكثيرون بعيدين عن المدينة نظرًا لاتّساع رقعة معسكرات اللاجئين ولعدم سماع بعضهم للمذيات ولقصر المدّة المحدّدة. وكان نصيب من وُجد في منزله القتل رأسًا دون أيّ استجواب، بل إنّهم قتلوا الشيوخ منهم ممّن لم يشملهم الأمر، وقد امتلأت الشوارع والمنازل بجثث الضحايا، وقتلوا في مراكز التجمّع من كانوا يشكّون في أنّه أحد رجال فرقة الفدائيّين وكانت مجزرة رهيبة ذهب ضحيّتها 127 شهيدًا معظمهم من الشباب، وقد اعترف بن غوريون نفسه بهذه الواقعة وذكر أنّ عدد القتلى كان 48 شخصًا، وأنّ سبب ذلك هو تمرّدهم على السلطات الإسرائيليّة كما ذكر مدير وكالة الإغاثة أنّ عدد ضحايا ذلك اليوم بلغ 11 شهيدًا.

وسيرد ذلك عندما أسرد بعض ما جاء في تقرير وكالة الإغاثة عن هذه الفترة الكئيبة وهذا اليوم المشهود، ومن المؤلم أنّ السلطات منعت الأهالي من دفن جثث الضحايا عدّة أيّام، لتبثّ الذعر في نفوسهم والضعف في معنويّاتهم ولتدفعهم إلى اليأس والرهبة والاستسلام.

 

-3-

أمّا وسائل الإهانة والتعذيب التي استعملتها السلطات الإسرائيليّة بعد أن استتبّ لها الأمر في قطاع غزّة، فهي عديدة متنوّعة وموغلة في الوحشيّة والقسوة. وقد كان هذا التعذيب ينصبّ على تلك الفئات التي كان اليهود يعتقدون أنّها كانت في الجيش الفلسطينيّ أو في قوّات الفدائيين أو ممّن كانت تتعاون مع الجيش المصريّ وممّن عملت على إخفاء الجنود والضبّاط وتهريبهم عبر صحراء الأردن.

وهذه الحوادث عديدة أودّ أن أذكر بعضها، ومنها ما حصل مع أحد سكّان غزّة، وهو عمر الحلبي الذي كان يقوم بتوصيل الجنود إلى الأردنّ، فعلمت بذلك السلطات الإسرائيليّة واعتقلته واستعملت معه أقسى وسائل الشدّة وأشدّ وسائل التعذيب لكي يعترف بعمله وبشركائه فيه وبأماكن اختفاء الجنود. لقد ضرب هذا الرجل ضربًا مبرحًا بالأحذية والكرابيج وسُلّط عليه التيّار الكهربائيّ بعد ربطه بكرسيّ ثمّ أُطلقت عليه الكلاب تنهش في لحمه وكان إذا ما أغمي عليه من شدّة الضرب والألم صبّوا عليه المياه ثمّ ضربوه ثانية. وبعد ذلك هدّدوه بالشنق بل إنّهم أخذوه إلى غرفة الإعدام وربطوا الحبل حول عنقه ليحملوه على الاعتراف ومع ذلك بقي صامدًا كالطود ولم يعترف وبقي سجينًا يُعاني الآلام تنزف دماؤه وتتقيّح جراحاته إلى أن أخرجته قوّات الطوارئ عند انسحاب اليهود من غزّة.

مجزرة يوم المدرسة، رفح (1956)

وفي قرية دير البلح بحثت قوّاتهم عن محمّد عبد الرحمن خليل، أحد أفراد الجيش الفلسطينيّ ولمّا لم تجده جنّ جنونها وأخذت تضرب والده وعمره 55 سنة ليعترف عن مكان ابنه، ولم يكن هذا يعرف مكانه، وكانوا يتردّدون على منزله بين حين وآخر وعندما لا يجدون ابنه ينهالون على أبيه ضربًا، واستمرّ الحال على ذلك عدّة مرّات إلى أن توفّي هذا الأب نتيجة الضرب المبرح، كما أنّ والدته لم تسلم من الضرب والأذى والإهانة.

وفي معسكر النصيرات قبضوا على اللاجئ عبد الله جاد الحقّ، وطلبوا منه الاعتراف بأنّه فدائيّ، فأنكر ذلك، فانهالوا عليه ضربًا أمام بقيّة اللاجئين، واستمرّ حالهم على ذلك بضعة أيّام إلى أن قتلوه برصاصهم أمام جمع من الأهالي.

وفي غزّة قبضوا على اللاجئ عبد الرزّاق الفيّومي بتهمة إيواء جنود مصريّين، فأنكر ذلك وتعرّض لأنواع عديدة من الضرب والجلد والتيّار الكهربائيّ وبقي في السجن 45 يومًا.

 

-4-

لم تكن الفظائع قاصرة على الشباب والرجال، بل تجاوزتهم إلى الأطفال، فقد قُتل الكثيرون منهم عند احتلال القطاع، فعند دخولهم مدينة غزّة كان خوري الطائفة اللاتينيّة في غزّة يقتاد طفلة صغيرة إلى منزلها فأطلقوا عليها الرصاص وقتلوها وهي ممسكة بيده. وفي مدينة خان يونس وبعد سقوط المدينة، كان اللاجئ محمّد سعدون يسير وعلى ذراعه ابنه البالغ ثلاث سنوات، فأطلق اليهود الرصاص فقتلوه وأصابوا ابنه الطفل في ساقه التي بُترت فيما بعد. وفي معسكر النصيرات وبعد الاحتلال، بأسبوع، كانت إحدى السيّدات تسير حاملة على ذراعها ابنها وعمره 4 شهور، فأطلقوا عليه الرصاص وقُتل على ذراع أمّه.

 

وقُتل بعض الأطفال والصبية وهم يلعبون حول منازلهم دون أيّ سبب، فبينما كانت إحدى دوريّات اليهود تسير في معسكر الشاطئ بغزّة، شاهدت بعض الصبية يلعبون فقذفتهم بقنبلة يدويّة أصابتهم بجراحات مختلفة وكان نصيب الطفل حسن أبو حجر بتر ساقيه وذراعيه وعمره 9 سنوات. كما استعمل اليهود طرقًا جهنّميّة لإيذاء الأطفال، فقد نثروا في معسكرات اللاجئين ألغامًا صغيرة على شكل أقلام الحبر، ما أن يفتحها الشخص حتّى تنفجر في يديه فتقطع أصابعه أو بعضها، وقد حصلت عدّة حوادث من هذا القبيل، منها الطفل سليمان موسى في مُعسكر رفح، والطفل داود إبراهيم في معسكر المغازي، وهكذا خلّفت قوّاتهم وراءها عشرات المشبوهين من الأطفال الأبرياء.

وكما لم يسلم الأطفال من ظلم اليهود لم يسلم الشيوخ أيضًا، فقد استشهد منهم العشرات. ففي قرية بيت حانون دخلت القوّات اليهوديّة أحد المنازل ووجدت فيه 6 شيوخ طاعنين في السنّ لم يستطيعوا الهرب من وجههم، فأردوهم قتلى في الحال، وفي مناطق أخرى أصابوا عدّة شيوخ بجراحات، وفي مدينة رفح وأثناء يومها المشهود، دخل بعض الجنود إلى أحد منازل اللاجئين فوجدوا فيه شيخًا بلغ من العمر 110 سنوات، ومع ذلك أطلقوا عليه الرصاص وأصابوه بإصابات تسبّبت في بتر ساقه فيما بعد.

أمّا حوادث هتك العرض فبالرغم من قلّة عددها، إلّا أنّها سبّبت جراحات لا تندمل، وآلامًا نفسيّة لا تزول، وأحدثت ذعرًا لدى الأهالي وقد عرفت بعض الحوادث وهناك حوادث أخرى لم تعرف ولم ينتشر خبرها حرصًا على سمعة الضحايا وعائلاتهم وسترًا للفضيحة. ولقد أثبتت المرأة العربيّة حرصها المعروف على الشرق واستشهادها في سبيله، وأبرز هذه الحوادث حادثة المرحوم الشابّ صلاح اللبابيدي المعلّم بمدرسة وكالة الإغاثة والتي ذهب ضحيّتها هو وزوجته دفاعًا عن شرف الأمّة العربيّة. ففي يوم 17/11/1956، طرقت فئة من الجنود الآثمين منزله القائم قرب شاطئ بحر غزّة، ففتح الباب واتّجه أحدهم نحو زوجة الشابّ يريد أن يغتصبها، فقاومتهم هي وزوجها بكلّ ما لديهما من قوّة جسمانيّة فلم يكن لديهم السلاح يذودون به عن عرضهم، ولمّا يئن هؤلاء الجنود من نيل مأربهم الدنيء، قتلوا الزوج واستمرّت الزوجة في مقاومتها اليائسة إلى أن قتلوها وسقط الزوج وزوجته شهيدين مضرّجين بالدماء وحول جثّتيهما ربض طفلاهما البالغان من العمر 3 سنوات وسنة واحدة، وبقي هذان الطفلان فوق دماء أبويهما حتّى الصباح إذ لم يستطع الأهالي الوصول إلى منزلهم بالرغم من سماعهم استغاثة الوالدين نظرًا لنظام منع التجوّل وانتشار الجنود الإسرائيليّين البرابرة وقد شاهد هذا الحادث الكولونيل بايراد، رئيس لجنة الهدنة في غزّة، واحتجّ على ذلك لدى الحاكم اليهوديّ الذي منعه من أخذ صورة للضحايا والذي عمل بنفوذ الصهيونيّة المعروف على إخراجه من قطاع غزّة واستبداله بغيره.

وقد حصلت حوادث أخرى في معسكر البحر بغزّة حيث حاول الجنود الاعتداء على إحدى اللاجئات التي رفضت أن تفتح باب منزلها فألقى اليهود عليها من نافذة المنزل قنبلة يدويّة قتلتها وهي حامل في الشهر  الثامن، وتكرّرت هذه الحوادث في نفس المعسكر ممّا جعل أهل المعسكر يعمدون إلى تهريب نسائهم وبناتهم إلى داخل المدينة والنوم في منازل الأهالي أثناء الليل، كما قام اللاجئون واللاجئات بمظاهرة صاخبة توجّهت نحو مبنى الحاكم العامّ هاتفة بسقوط إسرائيل وبن غوريون وعصاباته. وفي المعسكرات الأخرى، حصلت حوادث أخرى عديدة عُرف بعضها، وكان بعض الأهالي يذهب عند الحاكم للاحتجاج على هذه الأعمال، فكان هذا يدّعي أنّهم يبحثون عن الجناة أو أنّهم أنزلوا القصاص بهم وأبعدتهم عن قطاع غزّة.

وكما لم يسلم الشيوخ والأطفال والنساء من فظائع الصهيونيّة، لم تسلم أيضًا الأماكن المقدّسة، ففي غزّة قصف جنود إسرائيل دير اللاتين مع أنّ العلم البابويّ كان مرفوعًا فوقه، ولا تزال أماكن هذا القصف ظاهرة حتّى الآن.

إنّ مثل هذه الحوادث العديدة ليست بمستغربة على شعب عُرف بالغدر والخيانة والوحشيّة، كما أنّ تعاليم التلمود اليهوديّ تتماشى بل وتأمرهم بارتكاب هذه الفظائع. فالتلمود يذكر أنّ اليهوديّ الذي يعتدي على امرأة غير يهوديّة، فكأنّه اعتدى على حشرة سامّة، وأنّ دم كلّ غير يهوديّ مستباح وأنّ على اليهود أن يقتلوا أعداءهم قبل أن يتكاثر هؤلاء عليهم، وأنّ كلّ من هو غير يهوديّ فهو كافر.

إنّ هذه الأعمال الوحشيّة تعكس صورة واضحة عن نفسيّة هذا الشعب وهذه العصابات وعن الحقد الدفين في نفوسهم والشرّ الكامن فيها والكراهية المتأصّلة لكلّ من هو غير يهوديّ.

 

-5-

أمّا بالنسبة لما رافق هذه الفترة العصيبة من اعتداء على الممتلكات ومن أعمال النهب والسلب، فهذه وقائع عديدة يصعب حصرها وقد أُلّفت لجنة في غزّة لتسجيل وتقدير الأضرار والتلفيّات ولعلّها الآن أنهت مهمّتها وأعدّت تقريرها إلّا أنّه مع ذلك هناك حوادث عديدة شاهدها الكثيرون، وأصبحت معلومة، كما أنّ السلب لم يكن قاصرًا على أموال الإدارة المصريّة والدوائر المتعدّدة، بل كان عدد كبير من الأفراد رجالًا ونساءً وأطفالًا ضحايا لأعمال السلب والنهب. كما أنّ هذه الأعمال، لم تكن تصدر عن الجنود كأفراد فقط، بل كان هناك أيضًا سلب جماعيّ ومن قبل نفس السلطات الإسرائيليّة المسؤولة، وبالإضافة إلى ذلك إنّ بعض مخازن وممتلكات وكالة الإغاثة الدوليّة أيضًا تعرّضت للنهب والسلب والتدمير.

لقد حملت السلطات الإسرائيليّة معها عند انسحابها كلّ ما وجدته في الدوائر الحكوميّة في قطاع غزّة من مكاتب وكراسي وخزانات وسيّارات، بل إنّهم حملوا معهم المغاسل والأدوات الصحّية واللامبات الكهربائيّة كما حملوا معهم معظم مفروشات مدرسة الحكومة في خان يونس كما نهبت السلطات 147 ألف جنيه مصريّ من البنك العربيّ في غزّة، ومن المضحك أنّها أعطت وصلًا باستلام المبلغ لمدير البنك.

وكذلك لم تسلم وكالة الإغاثة من لصوصيّة إسرائيل. ففي معسكر دير البلح، نهب اليهود مخازن التموين وأتلفوا العنابر بعد أن نهبوا ما فيها. وفي خان يونس نهبوا بعض مفروشات مدرسة الوكالة، وعندما احتجّ مندوب الوكالة على ذلك ذكر له حاكم المدينة أنّه لا يستطيع إرجاعها لأنّها شحنت إلى تل أبيب. وفي رفح، نُهبت بعض المواد التموينيّة من مخزن الوكالة وفي معسكر المغازي دخل بعض الجنود إلى العيادة الطبيّة وسألوا الممرّض محمود أبو نصّار عن مفتاح خزانة الأدوية، فأنكر وجوده معه، فقتلوه رأسًا أمام جميع الممرّضات، وفي وسط مركز الإغاثة هناك ثمّ نهبوا ما كان فيه من أدوية وعقاقير.

أمّا عن خسائر الأهالي الماديّة فكانت عديدة، فعند دخول القوّات الإسرائيليّة جمعت سيّارات جميع الأهالي، واستعملتها بضعة أيّام ثمّ أعادت معظمها بعد أخذ بعض قطع غيارها وبعد إصابتها بتلفيّات مختلفة.

كما نهبت بعض المحلّات التجاريّة من قبل فرق الجنود الذين كانوا يحملون البضائع لأنفسهم ولبلدانهم وبعض هذه المحلّات تبيع الأدوات الكهربائيّة كالراديوات أو تبيع أنواعًا مختلفة من الأقمشة والخرضوات وقد نهبت عدّة محلّات من هذا القبيل، وقد نهبت إحدى الفرق محلًّا لبيع الأسلحة المرخّصة، وأعطت صاحب المحلّ وصلًا بأسلحة الصيد، أمّا الأسلحة الحربيّة فأنكرت استلامها، ثمّ أتت على ما في المحلّ من بضائع أخرى غير حربيّة.

أمّا بالنسبة للمنازل فقد كان تفتيشها بقصد البحث عن الأسلحة والفدائيين فرصة سانحة للجنود للنهب والسلب، فخسر الأهالي الآلاف من الجنيهات والكثير من الحليّ والمجوهرات والساعات والراديوات والملابس، بل من المأكولات أيضًا، ولوا أنّ معظم الأهالي قد احتاطوا للأمر وأخفوا المجوهرات والنقود في باطن الأرض، لتضاعفت الخسائر، وكان الجنود يبتزّون أموال الناس بتهديدهم بالقتل وإشهار السلاح في وجههم، وكثيرًا ما سلبوا الأطفال ساعاتهم والبنات حليّهم ومجوهراتهم بعد انتزاعها قسرًا منهم.

ولم تقتصر هذه الأعمال على المدن بل تجاوزتها إلى معسكرات اللاجئين فقد نهب منهم اللاجئون الملابس والمأكولات وبعض ما وجد من نقود ومجوهرات قليلة وساعات وعندما اشتكى بعض لاجئي معسكر البريج للحاكم اليهوديّ من ذلك وبّخهم وطردهم وذكر لهم أنّ من واجبهم أن يعتبروا كلّ ما لديهم حتّى ملابسهم ملكًا لجنود إسرائيل.

ولم يكن الأمر يقتصر على مجرّد السلب والنهب بل كان يرافق ذلك الضرب والإهانة وتوجيه فاحش القول للأهالي عند نهبهم، مما يزيد من بشاعة الجرم ومن دناءة الوسائل.

وكذلك لم يقتصر الأمر على السلب والنهب حبًّا في الكسب المعهود لدى اليهود بل إن ذلك تجاوز إلى التخريب والإتلاف، فقد أُتلفت وأعدمت السلطات الإسرائيليّة جميع سجلّات وملفّات الحكومة في غزّة ومنها سجلّات الطابو كما أتلفوا ما لم يستطيعوا حمله كالأبواب وجاج النوافذ وحرقوا وأتلفوا الطرق المعبّدة بجراراتهم ونسفوا أعمدة التلفون والكهرباء وكانوا أثناء تفتيش المنازل يعدمون أحيانًا الأوراق الشخصيّة الخاصّة كالشهادات المدرسيّة وشهادات الخدمة والصور العائليّة ممّا يدلّ على روح الشرّ والنقمة والإيذاء عندهم.

 

-6-

كان من نتيجة فترة الاحتلال هذه أن عرف الناس مدى الفوضى والفساد والرشوى والجوع لدى الأفراد اليهود وأوّل ما لاحظه الأهالي هو عدم تجانس أفراد القوّات الإسرائيليّة في ملابسهم وتصرّفاتهم وطبائعهم كما لاحظوا مشاركة المرأة الإسرائيليّة في الحياة العسكريّة وأنّ كلّ من يعيش في إسرائيل هو جنديّ عند الحاجة، أمّا مدى ما يعانيه اليهود من جوع وحرمان، فقد بدا ذلك جليًّا من تصرّفات هؤلاء فقد كان الجنود يلتهمون المأكولات بشراهة وينهبون المواد الغذائيّة وخاصّة البنّ والسكّر ثمّ السجائر كما ظهر ذلك من المحاولات التي قام بها أفراد اليهود لتهريب هذه الموادّ وغيرها إلى داخل إسرائيل ومنها الدقيق، وكان الجنود يدخلون خيام اللاجئين ويشاركونهم في غذائهم وأوّل ما كانوا يبحثون عنه الدجاج والبيض وعندما استعطفت إحدى اللاجئات أحد الجنود بعدم أخذ دجاجتها ذكر لها أنّه لم يتذوّق طعم الدجاج منذ سبع سنوات في حين أنّها لاجئة ولديها دجاج. كما بدا للأهالي مدى الانحلال والتفسّخ الخلفيّ عند اليهود وقد شاهد بعض الأهالي حوادث خلقيّة مشيئة بين الجنود والمجنّدات.

أمّا الرشوة فقد كانت منتشرة انتشارًا كبيرًا وقد تمكّن الكثيرون من الأهالي افتداء حياتهم أو تجنّب الشتائم والإهانات عن طريق دفع بضعة جنيهات للجنود أو تقديم الأشياء العينيّة لهم كالساعات والملابس وغيرها بل تمكّنت عائلات المعتقلين من الأهالي من توصيل المأكولات والسجائر للمعتقلين عن طريق رشوة الجنود بالمال وبغيره بل منهم من تمكّن من الخروج من السجن نظير دفع رشوة للمسؤولين عن الأهالي أو لعدم نسف منازلهم.

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.