مهرجان حيفا... فضاء للاستقلال الذاتيّ الثقافيّ

من إحدى ورشات المهرجان

 

تشكّل أسئلة الفضاء/ الحيّز العام قضيّة سياسيّة ثقافيّة مركزيّة في حالة الفلسطينيّين في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1948، فالدولة التي يعيشون فيها قامت على مصادرة الحيّز العربيّ الفلسطينيّ من خلال مصادرة الأراضي العربيّة وقيام دولة إسرائيل التي تكنّ العداء لأيّ حيّز فلسطينيّ مستقلّ، وبعيد عن عمليّة التحديث الإسرائيليّة التي تؤدّي إلى شكل من أشكال الاغتراب بالنسبة للعرب الفلسطينيّين، لأنّها على حسابهم. لكن في العقدين الأخيرين، بدأت تتشكّل حالة من الفضاء العامّ الفلسطينيّ المستقلّ، والبعيدة عن تصوّرات وإملاءات المؤسّسة الإسرائيليّة تجاه المواطنين العرب، المحكومة بعقليّة استعماريّة.

 

 

هذه الحالة الجديدة التي تتشكّل مرتبطة بعدّة عوامل وتحوّلات طرأت على المجتمع الفلسطينيّ في أراضي 48، أبرزها نشوء طبقة وسطى ومتعلّمة واسعة، وحراكًا سياسيًّا جماهيريًّا حمل خطابًا سقفه أعلى من خطاب المساواة في الحقوق الذي هيمن في السابق عند الأحزاب السياسيّة، وأعاد تعريف العلاقة مع المؤسّسة الإسرائيليّة، بالإضافة إلى نشوء جيل جديد يبحث عن مدينته الفلسطينيّة المفقودة بعد النكبة، محاولًا إعادة تشكيلها عبر نشاطات ومبادرات ثقافيّة باتت تشكّل هذا الفضاء العامّ الجديد؛ كلّ هذا يرافقه فشل مشروع الأسرلة في أن يكون مهيمنًا عند فلسطينيّي أراضي 48، على الرغم من أنّه ما زال تحدّيًا ماثلًا.

 

مهرجان شبابيّ فلسطيني

تحوّلت مدينة حيفا الأسبوع الماضي إلى مهرجان شبابيّ فلسطينيّ على مدار أسبوع كامل؛ هذا ما يتراءى لمن شارك في مهرجان حيفا المستقلّ للأفلام، الذي يُنظّم للسنة الثالثة على التوالي بمبادرة مجموعة من العاملين في الحقل الثقافيّ، محقّقًا هذا العام نجاحًا كبيرًا على أكثر من صعيد: التنظيم والمهنيّة، والمشاركة الجماهيريّة الواسعة، والتنوّع في الأفلام والنشاطات المرافقة لعروض الأفلام؛ كالندوات، والورشات، والحفلات الموسيقيّة.

استطاع المهرجان أن يقدّم للجمهور مجموعة من الأفلام السينمائيّة والوثائقيّة المتنوّعة (39 فيلمًا)، ما بين قصير وطويل، بموضوعات سياسيّة وثقافيّة مختلفة من فلسطين، والوطن العربيّ، والعالم، ولعلّ ما يميّز أفلام المهرجان الانفتاح على أعمال فنيّة عربيّة، وفي الوقت نفسه، سعي مخرجين من العالم العربيّ لعرض أعمالهم في حيفا... أليس هذا شكل المدينة الفلسطينيّة قبل النكبة، حيث كانت المدينة الفلسطينيّة وجهة أساسيّة للفنّانين والمثقّفين العرب؟ هذا ما يجري اليوم، وخارج أيّ علاقة تطبيعيّة مع الاحتلال، التي غالبًا ما كانت عائقًا لهذا التواصل بعد النكبة، وسببًا في انقطاع العالم العربيّ عنّا والتباس العلاقة. بالإضافة إلى ذلك؛ كان المهرجان فرصة لعرض أعمال فلسطينيّة جديدة، جزء منها لمخرجين شباب جدد، قدّموا من خلالها موضوعات اجتماعيّة راهنة وبعيدة عن مركزيّة القضيّة السياسيّة التي غالبًا ما تهيمن على موضوعات الأفلام الفلسطينيّة، لكن دون التنكّر لها، بل تناولها من زوايا جديدة وبمستوى فنّيّ جميل وجذّاب.

 

 

شكّلت أيّام المهرجان ممارسة فعليّة لإنتاج حيّز عامّ مستقلّ ثقافيًّا؛ كان كلّ يوم يبدأ من ساعات الظهيرة حتّى المساء بعرض أفلام وتنظيم الندوات والورشات، في عدد من المسارح والمقاهي والجمعيّات بمدينة حيفا، ما خلق مساحة من التفاعل، والحوار، والنقاش، والالتقاء، وكتابة المقالات النقديّة حول الأفلام (اقرأ أيضًا: ملفّ خاصّ في فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة حول المهرجان)، فنجاح المهرجان ارتبط بالتعاون وبناء شراكات مع هذه الفضاءات العربيّة الفلسطينيّة الموجودة في حيفا، ومن ضمنها مواقع إعلاميّة عربيّة، ومؤسّسات، ومحالّ تجاريّة، التي تشكّل هذ الحيّز؛ فالمقهى على سبيل المثال، وإن كان بملكيّة خاصّة، ليس حيّزًا خاصًّا، بل حيّز عامّ يؤدّي دورًا في تشكيل الوعي ضمن سياقاته المحلّيّة. كما كان لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعيّ جزء أساسيّ في خلق هذا الفضاء، بمعايير ومضامين يضعها القائمون على المهرجان. ومن الجدير ذكره أيضًا، أنّنا شهدنا خلال أيّام المهرجان عودة للمنشور الورقيّ المطبوع، الذي تراجع حضوره في السنوات الأخيرة، كذلك الأمر في ما يتعلّق بالملصقات على الجدران، التي امتلأت بها شوارع المدينة.

 

أسئلة الفضاء العامّ

لعلّ ما يجري في مدينة حيفا، والذي شهدناه من خلال مهرجان حيفا المستقلّ للأفلام، تكثيف لحالة بدأت منذ عقدين، وباتت تتوسّع وتتطوّر بشكل أكبر اليوم، وهي، بكلّ تأكيد، متأثّرة بروح الثورات العربيّة عام 2011، التي خلقت أفكارًا جديدة حول الفضاء العامّ بين الشباب. لا يمكن قراءة هذا الفضاء العامّ المتشكّل بعيدًا عن بحث الفلسطينيّ في أراضي 48 عن مدينته المفقودة في النكبة، والقصد بذلك ليس بكاءً على الأطلال، بل خلق تلك المدينة بهويّة فلسطينيّة ومعاصرة. كما لا يمكن قراءة الحالة من دون الالتفات إلى كون هذا البحث عن المدينة المفقودة جزء منه هروب من الفضاء العامّ في القرية العربيّة، المحكوم بعادات وتقاليد معيّنة، وبعلاقات قوّة تهيمن عليها العائليّة، من خلال انتخابات السلطات المحلّيّة (المجالس والبلديّات)، ومحاولة بعض القوى المحافظة فرض شكل معيّن من أشكال التديّن على الفضاء العامّ (هل تذكرون عدد المناسبات الثقافيّة التي مُنعت أو هوجمت في السنوات الأخيرة بحجّة خدش الحياء العامّ؟)، بالإضافة إلى انتشار العنف والجريمة بانتشار السلاح بشكل كثيف، وهو ما تتغاضى عنه الشرطة الإسرائيليّة.

 

 

هذا لا يعني أنّ القرى والبلدات العربيّة خالية من أيّ مبادرات تخلق حيّزًا عامًّا ثقافيًّا مستقلًّا؛ فلا يمكن تجاهل نشاطات العديد من الحركات، والأحزاب، والجمعيّات، والناشطين بهذا الخصوص، وثمّة عدد من المبادرات المهمّة في عدّة بلدان؛ لكن يبقى السؤال قائمًا حول مدى الاستدامة، والتأثير، وهامش الحرّيّة في العمل، وعلاقات القوّة التي تحكم هذه الأنشطة. وفي الوقت نفسه؛ يُطرح سؤال الاستدامة على ما يجري من حراك في مدينة حيفا، وهل هذا الاحتفاء بالمساحات الثقافيّة فقاعة هروب مرحليّة، أم أنّه حراك يمكن له أن يؤسّس لحالة أكبر، يمكنها أن تمتدّ إلى خارج حيفا في شكلها ومضمونها، لتكون حركة نحو استقلال ذاتيّ ثقافيّ بكلّ ما تحمله من دلالات واحتمالات لأن يكون للفلسطينيّين في أراضي مشروع حقيقيّ في هذا الشأن، يطال التعليم، والإعلام، والمؤسّسات؟

 

واجب ما بعد العرس/ المهرجان

في العرض الافتتاحيّ للمهرجان، عُرض فيلم "واجب" للمخرجة الفلسطينيّة ماري آن جاسر، وبطولة محمّد وصالح بكري، وهو يعكس صراعات اجتماعيّة تدور داخل عائلة عربيّة في مدينة الناصرة، من خلال توزيع دعوات عرس ابنتهم على المدعوّين من قبل الأب والابن. ويظهر الفيلم، في أكثر من مشهد، التناقضات بين الأب والابن في آرائهم، ونظرتهم للمجتمع والسياسة، وعوالمهم المختلفة؛ فالابن الذي ترك البلاد "هربًا" من واقعها السياسيّ والاجتماعيّ، حيث يعيش في أوروبّا، يعود لأداء الواجب في المساعدة بالتحضير للعرس، ليصطدم بهذا الواقع مجدّدًا، وبالفضاء العامّ في مدينة الناصرة، الذي لا يتلاءم ومعتقداته، في ظلّ مختلف الأسئلة حول مستقبله. كلّ ذلك يحصل بقالب كوميديّ يكثّف التحوّلات الاجتماعيّة لدى الفلسطينيّين في أراضي 48، التي حصلت خلال السنوات الماضية. كما يطرح العمل أسئلة وقضايا راهنة، ما يجعله قريبًا من الجمهور المحلّيّ بشكل خاصّ.

يجلس الأب والابن، نهاية الفيلم، في المنزل، بعد يوم طويل من توزيع الدعوات والخلافات، إن كان بينهما، أو مع العالم الخارجيّ، والتي كادت أن تعطّل تنظيم العرس؛ لكنّهما تغلّبا عليها. يجلسان في لحظة تصالح على شرفة المنزل المطلّة على الناصرة، في مشهد ختاميّ يبقي العديد من الأسئلة المفتوحة حول مستقبل الشخصيّات ما بعد العرس.

 

 

وهكذا... ينتهي مهرجان حيفا المستقلّ للأفلام 2018، بنجاح لافت، ويبقي لدينا العديد من الأسئلة المفتوحة حول شكل الفضاء العامّ الذي نريده مستقبلًا، ولعلّها المقولة السياسيّة الأهمّ التي يطرحها المهرجان، والتي تستحقّ منّا تفكيرًا جدّيًّا، والتغلّب على كل التناقضات التي نعيشها في ظروفنا السياسيّة والاجتماعيّة الراهنة.

 

ربيع عيد

 

صحافيّ فلسطينيّ ومحرّر في فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة. يعمل في الصحافة منذ عدّة سنوات. كتب في العديد من المواقع والصحف العربيّة، كما عمل رئيسًا لتحرير صحيفة فصل المقال. حاصل على البكالوريوس في  العلوم السياسيّةمن جامعة حيفا، والماجستير في الإعلام والدراسات الثقافيّة من معهد الدوحة للدراسات العليا.

 

 

تُنشر هذه المادّة ضمن ملفّ خاصّ حول مهرجان حيفا المستقلّ للأفلام 2018.