«بيتِرْ كامينْسْتِد» لهيرمن هيسِّه؛ المدينة الملوّثة والطبيعة الجوهر

 

ساهمت رواية «بيتِرْ كامينْسْتِد» (1904) في شهرة الألمانيّ هيرمن هيسِّه؛ إذ أصبحت واحدة من أكثر الروايات شعبيّة في ألمانيا؛ لِما امتازت به من رومانتيكيّة محدثة، حيث العاطفة صارخة، والطبيعة حاضرة بعناصرها، مندمجةً مع الإنسان بمشاعره وانطباعاته الحسّيّة، ولنزوعها إلى أسلوب السيرة الذاتيّة، الّتي أتاحت للروائيّ التعبير عن أفكاره ومشاعره بحرّيّة أكبر، فوظّف أحداثًا من حياته، وذلك ما يمكن ملاحظته عند متابعة نشأة بيتر كامينستد منذ طفولته إلى أن أصبح بالغًا، محقّقًا ذاته، بعد رحلة بحث طويلة.

ولم تكن الطبيعة مجرّد حضن دافئ لمتمرّد على قسوة المجتمع، وتفاهة البشر ورتابة حياتهم؛ انطلاقًا من رؤية رومانتيكيّة، إنّما كانت أيضًا مصدرًا للمعرفة...

نشأ بيتر في قرية صغيرة جبليّة اسمها «نيميكون»، تقع في جبال الألب، حيث جمال الطبيعة وسحرها. ابن فلّاح بسيط، تابع الدراسة في المدرسة، ثمّ الجامعة، ورغم درجاته المتدنّية، كان يحلم بإنجاز عمل أدبيّ، وظلّ حائرًا بين المدينة والقرية، إلى أن جاءت اللحظة الفارقة، وتوجّب عليه الاختيار بين احتراف الأدب، الّذي يستلزم الاندماج في برلين وباريس وغيرهما من المدن، وبين حنينه في العودة إلى القرية. في نهاية المطاف، يقرّر بيتر العودة إلى الطبيعة الّتي يجد فيها السعادة الّتي طالما بحث عنها، إلّا أنّه يرفض العمل في الحانة؛ كي لا يرى نظرات الظفر في عينَي والده بعد أن أصرّ على السفر، والبحث عن ذاته، حائزًا على الشهادات العليا، وفي ذلك يبرز تناقض النفس الإنسانيّة.

 

الطبيعة الأصل

تمثّل الطبيعة في رواية هيسِّه الأولى «بيتِرْ كامينْسْتِد» (وهي صادرة بالعربيّة عن «الهيئة المصريّة العامّة للكتاب»، عام 1968)، من ترجمة الدكتور مصطفى ماهر، المكان الّذي يحتضن الهاربين والمتمرّدين والمتأمّلين بعيدًا عن صخب الحياة البشريّة، ويتمثّل ذلك في الوصف البديع، الّذي يحمل القارئ إلى تأمّل حركة الطبيعة وجمالها في جريان المياه العذبة، وعصف الرياح الّتي تضرب جبال الألب، وخفّة السحب، وقسوة الصخور الجبليّة، وأشجار الصنوبر، وصمتها الّذي تطبّع به أهل القرية، يقول بيتِرْ: "كان الرجال والنساء عندنا مثل الأشجار، كانوا يتميّزون بالشدّة والانطواء العنيف وقلّة الكلام، وكان خيارهم مَنْ يبالغون في الإقلال من الكلام".

والطبيعة عند بيتِرْ ملجؤه، هو الهارب من البغض الإنسانيّ، والرتابة، والعلاقات القائمة على المنفعة، كما أنّها حرّيّة من القيود الّتي يفرضها المجتمع، تتيح له الركض واللعب والتأمّل. تحفّز خياله، وتحثّه على التأمّل؛ إذ إنّها الرفيق الأمين الّذي واكب نموّه وتطوّره في المراحل الأولى من حياته؛ إذ إنّها كانت تلائم نموّه البطيء والرتيب.

ولم تكن الطبيعة مجرّد حضن دافئ لمتمرّد على قسوة المجتمع، وتفاهة البشر ورتابة حياتهم؛ انطلاقًا من رؤية رومانتيكيّة، إنّما كانت أيضًا مصدرًا للمعرفة، ومدرّبًا على الصبر والتحمّل والتأنّي، يقول بيتِرْ: "كانت الجبال والبحيرة والشمس هي أصدقائي، كانت تحكي لي وتربّيني". وعليه؛ نستطيع القول إنّ الطبيعة كانت الصديق الوفيّ والمربّي الّذي ما فتئ يوسّع آفاق بيتر، ومحدوديّة معرفته، بعد أن كانت ملجأه، هو الهارب من تفاهة البشر. تمثّل الطبيعة في رواية «بيتِرْ كامينْسْتِد» الأصل، والمهمّ، والجوهريّ؛ إذ تلامس حقيقة الإنسان، وتتفوّق عليه من ناحية أنّها مجرّدة الخير والشرّ.

 

فساد المدينة

يعاني بيتِرْ، بعد أن يكتشف حقيقة أن لا مفرّ من الاختلاط مع البشر؛ إذ يتحتّم عليه بعد انتقاله إلى المدينة بناء علاقات بالآخرين. هنا تبرز مشكلته، حين أكثر من العزلة في طفولته، وظلّ هاربًا مخلصًا للطبيعة، متّخذًا من النباتات والحيوانات أصدقاء دون البشر؛ وهو ما جعله يواجه مشكلة «القابليّة الاجتماعيّة»، فتصفعه الحقيقة لحظة الصحو، عندما يفتح عينيه ويرى الآخر.

إقامة علاقات بالبشر، أوقعه في مأزق نفسيّ، وإلى حالة من عدم القدرة على التحمّل؛ إذ بعد أن تمكّن من إقامة صداقات، اكتشف أنّها لم تمنحه سوى الخيبة والخسارات...

يقرّر بيتِرْ تجاوز أحلامه/ أوهامه في الانفصال عن عالم الإنسان؛ لتظهر الحاجة إلى وجود صديق، غير أنّ الأمر كان في غاية الصعوبة. ابتعاده عن الطبيعة، واقترابه من عالم المدينة؛ محاولًا إقامة علاقات بالبشر، أوقعه في مأزق نفسيّ، وإلى حالة من عدم القدرة على التحمّل؛ إذ بعد أن تمكّن من إقامة صداقات، اكتشف أنّها لم تمنحه سوى الخيبة والخسارات، النفع منها قليل. ظلّت الخيبات العاطفيّة تلاحقه، كأنّها قدره، كلّ قصّة حبّ فاشلة كانت سكّينًا تغرس في قلبه، تهزّ ثقته بالعالم، وترجعه خطوات إلى الوراء. تتأزّم حالته النفسيّة حتّى يحذّره الطبيب من خطورة العزلة، والتوحّد مع الطبيعة الّتي أصابته بالفوبيا من البشر. 

 

ضرورة التأمّل

تختلف رؤيتنا للطبيعة، بعد الابتعاد عنها، منغمسين في العلاقات البشريّة الّتي تصنعها المدينة، هنا، تنشأ رؤية جديدة، غير تلك المرتبطة بالبراءة الطفوليّة، إنّها طبيعة تكثّف الأسئلة، الطبيعة/ اللغز تبدو متآمرة، كأنّها تعاقب المرتدّ عنها. وكأنّ المدينة تلوّث، تغيّر، عميقًا، جوهر الإنسان، بحيث لا يعود نفسه. يقرّر كامينْسْتِد أخيرًا: "ليس هناك مَنْ يفهم الطبيعة".

لا معرفة كاملة بوسع المرء أن يكتشفها في الطبيعة، دائمًا ثمّة شيء ناقص، مستتر، عصيّ على فهمه، مهما سعى واجتهد، كأنّها رغبة الطبيعة في أن تظلّ غامضة، تخفي الأسرار والألغاز؛ إذ تظلّ خفيّة في معظمها على البشر، ولا يتكشّف منها إلّا للمتأمّل المخلص.

في كلّ يوم، يزداد تعلّق بيتِرْ بالطبيعة، بدأ علاقته بها عبر التأمّل، فضول عارم تجاه كلّ أشيائها، أسئلة، وتفكير طويل، ثمّ تطوّرت، فأصبح يشعر بها، حركتها، ملمسها، رائحتها، مستمتعًا بكلّ حواسه. ورغم محاولاته المتكرّرة لخيانة الطبيعة، وتقبّل المدينة، إلّا أنّه باء بالفشل، وما كان للمدينة أن تكون أكثر جمالًا وإخلاصًا؛ إذ ابتلته بالحرمان من الحبّ والتأمّل والعلاقات الإنسانيّة الصادقة.

محنة الإنسان أنّه فقدَ انسجامه الأوّل مع الطبيعة، ففسدت حياته، وتفكّكت، وتحوّلت إلى خراب. ليس له إلّا العودة إليها/ داخله؛ ليحقّق الانسجام والسلام الداخليّ.

 

موت وحبّ

تنهض الرواية على عنصرين مهمّين: الموت والحبّ. الانسجام يقبع في مكان ما، وسطًا؛ إذ إنّ الخبرات الإنسانيّة الرئيسيّة تمتدّ من الحبّ إلى الموت، فرعان من شجرة واحدة، وسؤالان انشغل بيتِرْ بالتفكير فيهما، إذ شكّلا جزءًا مهمًّا من انشغالاته الفكريّة. الحبّ والموت متلاصقان ومتداخلان، من حيث تأثيرهما وغموضهما، محتشدان بالأسئلة الملغومة والتأويلات، لكن لا أحد يعرف الإجابة.

الانسجام يقبع في مكان ما، وسطًا؛ إذ إنّ الخبرات الإنسانيّة الرئيسيّة تمتدّ من الحبّ إلى الموت، فرعان من شجرة واحدة، وسؤالان انشغل بيتِرْ بالتفكير فيهما...

موت والدته، ومشاريعه الأدبيّة، وأحلامه في أن يصبح كاتبًا، وإخفاقاته في العلاقات العاطفيّة؛ إذ تبرز رغبة بيتِرْ في إقامة علاقة حبّ بإحدى الفتيات إلّا أنّه يفشل، إمّا بسبب طبيعته الانعزاليّة وإمّا لأنّ ثمّة خَطْبًا ما لا يعرفه، أمور تمنعه من الاستمتاع بالحبّ، وربّما نزوعه إلى الحرّيّة ورفض الاستقرار، فيستحيل الحبّ امتحانًا لقدرته الإنسانيّة على تحمّل المعاناة.

يبعثر بيتِرْ الحبّ الّذي فشل في منحه لامرأة واحدة، بين المدن والجبال والبحيرات والأودية والحيوانات، حين يعود إلى القرية، بعد تجواله الطويل بين المدن؛ ليجد سعادته في عناصر الطبيعة؛ إذ تمثّل مغامرة لا تنتهي، ومحرّضًا على الأسئلة.

أمّا الموت فهو الراحة الأبديّة للإنسان، أمر لا بدّ منه، قاسٍ، إلّا أنّه سيقضيه؛ لذلك فإنّ موت مَنْ حولنا، امتحان كالحبّ، في مدى تحمّلنا للمعاناة والألم.

 


 

محمّد جعبيتي

 

 

كاتب من فلسطين، حاصل على الماجستير في الأدب العربيّ، يعمل في مجالي التعليم والصحافة. ممّا صدر له: «غاسل صحون يقرأ شوبنهاور» (دار الآداب)، و«عالم 9» (دار الآداب).