ليلة المقلوبة

لطالما كانت علاقتي بالأكل علاقة مركّبة، أكاد أن أصفها بأنّها مليئة بالخوف، أنا التي عاشت سنوات طويلة بجسد بدين، فكلّ مشروع أكل مشروع خوف من زيادة في الوزن، لأسباب غير متعلّقة بكمّيّة الطعام التي آكلها على نحو مباشر، وهي مسألة لن أخوضها الآن.

أصبح الطعام، مع السنين، طقسًا أمارسه كي أعيش، أو أخفّف منه كي أخسر من وزني، أكثر من كونه شيئًا أحبّه. وبين حمية وأخرى، منها صحّيّ وآخر لا، توتّرت علاقتي مع الأكل تمامًا. لذلك، لم أكن أمارس فعل الطبخ، على الرغم من أنّني أعيش وحدي منذ سنوات طويلة، أتنقّل بين مدينة وأخرى، في فلسطين وخارجها. ولم أكن أفهم سرّ علاقة الإنسان بالطبخ، ولماذا يحبّ الناس قضاء وقت طويل في المطبخ وإعداد أطباق كثيرة ومتنوّعة، إلى أن وصلت مدينة شتوتغارت الألمانيّة مطلع تمّوز (يوليو) 2016، للإقامة في 'أكاديميّة العزلة' في موضوع الصحافة الثقافيّة، فاكتشفت أنّ العلاقة مع الأكل تشبه كلّ العلاقات العاطفيّة، لا تنتهي، إلّا أنّها تتغيّر فقط، سواءً للأسوأ أو للأفضل.

في اليوم الثاني من وصولي، دعاني صديق هنديّ لتناول العشاء مع مجموعة من الأصدقاء، كانت هذه أولى 'حفلات' العشاء التي أحضرها في الأكاديميّة، ليتضّح بعد ذلك أنّ هذه الطقوس منتشرة فيها كثيرًا، ومنذ سنوات؛ ثمّة مَنْ يطهو العشاء ويدعو أصدقاءه وصديقاته، أو تتّفق مجموعة على تناول العشاء معًا، فيجهّز كلٌّ طبقه ويحضره لطقس الأكل الجماعيّ.

بداية شهر آب (أغسطس) 2016، وبعد مرور شهر على إقامتي هناك، قرّرت دعوة الأصدقاء إلى وجبة عشاء في غرفتي/ بيتي. في تلك الفترة، غادر العديد من الزملاء أو خرجوا لإجازة الصيف، وكانت العادة أن نختار بعض الأصدقاء فقط، ونرسل لهم رسالة إلكترونيّة ندعوهم لتناول العشاء، لأنّ الغرف/ البيوت صغيرة بعض الشيء، ولا تتّسع لعدد كبير. أرسلت رسالة إلكترونيّة إلى كلّ الزّملاء الموجودين في الأكاديميّة آنذاك، اعتقادًا منّي أنّ عددًا قليلًا منهم موجود، وطلبت من الذي يرغب بالحضور أن يبعث تأكيدًا، فإذ بي أستقبل حوالي 20 تأكيدًا من المدعوّين، وهم من مختلف أنحاء العالم.

ما العمل إذًا؟ ما الطبق الذي يمكن أن يكون طبخه سهلًا لشخص مثلي، علاقته بالمطبخ متوتّرة أصلًا، يقدّمه لعدد كبير من الناس؟ ومن المهمّ أن يكون طبقًا فلسطينيًّا، في دعوة العشاء الأولى على الأقلّ!  فكانت الإجابة: مقلوبة!

مقلوبة لعشرين شخصًا، مرفقة بطبق كبير من السلطة، ما يُسمّى بـالسلطة العربيّة، وطبق كبير من اللبن. هذا الحلّ لم يكن كاملًا، إذ رافقه بعض التوتّر إزاء النباتيّين من الأصدقاء، فكان الحلّ أن أجهّز طنجرتين، الأولى مع لحمة والثانية من دونها.

قبيل دعوة العشاء، اقترحت بعض الصديقات أن يأتين لمساعدتي في الطبخ، ولأنّني لم أكن أعرف ماذا ينتظرني، وافقت. جاءت صديقة من رومانيا وأخرى من البرتغال لمساعدتي، الساعة السادسة مساءً، وقد كانت الدعوة في التاسعة. قبلها، كنت قد جهّزت لائحة بالأغاني العربيّة في موقع يوتيوب، من سوريا، ولبنان، ومصر، وفلسطين، والعراق، والمغرب، وتونس، تحت اسم 'مقلوبة نايت'.

استغرق الطبخ ثلاث ساعات، إلى أن وصل الأصدقاء والصديقات واحدًا تلو الآخر، وفي الخلفيّة كانت تُسمع أغنية بعد الأخرى. اكتشفت تلك الليلة بعض الأمور: الأوّل، أنّني طبّاخة ماهرة، وفق اعترافات أصدقائي، وأنا أصدّقهم طبعًا! الثاني، أنّ طقس الطبخ من أمتع الطقوس في الحياة، سواء عمليّة الطبخ نفسها، أو مشاهدة سعادة الناس بالأكل. والثالث، أنّ الطبخ والطعام بإمكانهما أن يكونا شبابيك على حكايات عديدة، منها فرديّة وأخرى جماعيّة، وتاريخيّة، وثقافيّة. فهذه الليلة، ليلة المقلوبة، كانت شبّاكًا أو شبابيك على ثقافتي التي أحبّها، الأكل، ومقاديره، وحكاياته، والموسيقى، والأغاني، والرقص، وقد اختُتمت بفضول كلّ من بقي حتّى آخر السهرة لمعرفة قصّة أمّ كلثوم. أذكر جيّدًا أنّني كنت أجلس على الأرض، محاطة بالأصدقاء، نستمع معًا إلى مقطع 'بيني وبينك خطوتين' من أغنية 'بعيد عنّك'، أترجمه لهم بالإنجليزيّة بلهفة من اكتشف الستّ قبل قليل.

تكرّرت دعواتي للأصدقاء والصديقات لتناول الطعام في غرفتي/ بيتي، في وجبات اليوم المتعدّدة؛ فطور وغذاء وعشاء، أحيانًا لشخص واحد أو لأكثر. لم تكن تجربة دعوة عشرين شخصًا بمثابة حاجز نفسيّ أمام تكرار هذا الطقس مرّات عديدة، على العكس تمامًا، الأمر الوحيد الذي تغيّر، أنّه أصبح بإمكاني أن أطبخ وحدي لعدد كبير من الناس بلا مساعدة أحد، فمع الوقت، استمتعت بطقس تحضير الأكل الفرديّ؛ موسيقى في الخلفيّة، كأس نبيذ أبيض إن كان الجوّ حارًّا، أو أحمر مع حضور الشتاء الذي لا يختفي تمامًا في ألمانيا.

كانت محاولاتي، دومًا، أن تكون الأطباق التي أجهّزها من ثقافة بلادي، فعندما أدعو الأصدقاء، أقضي وقتي في محادثة أمّي عبر الهاتف، أنهال عليها بالأسئلة حول مقادير هذه الطبخة أو تلك، أو أبحر ساعات في صفحات الإنترنت بحثًا عن وصفات أجرّبها، ما بين أكلات فلسطينيّة، وسوريّة، ولبنانيّة، ومغربيّة، وغيرها، وقد اخترت، عادة، ما يمكنني إيجاده من مقادير في مدينة مثل شتوتغارت، التي لا تقارن بمدينة كبرلين، التي تتوفّر فيها كلّ مقادير الطعام من المنطقة العربيّة.

في إحدى حفلات العشاء، قرّرت أن أجهّز القليل من كلّ شيء؛ بطاطا محمّرة، فتّوش، فتّة باذنجان (للنباتيّين)، فتّة دجاج، لبن وثوم ونعنع، أرزّ مع بازيلّاء وجزر، وغيرها. عندما وصل الأصدقاء إلى البيت، كانت ملاحظة أحدهم: 'رشا، لماذا جهّزت كلّ هذه الأطباق؟ طبق واحد كان كافيًا!' كانت إجابتي السريعة والتلقائيّة: 'بسّ إحنا هيك منوكل!' (بالإنجليزيّة طبعًا)، فحمّلتني إجابتي مهمّة أن أشرح لأصدقائي كيف يكون شكل موائد العائلات العربيّة بعامّة. كانت 'الصدمة الثقافيّة' هذه لديهم، شبّاكًا إضافيًّا على حبّ ثقافة أكلنا.

وعلى سيرة الحبّ، إنّ من أجمل وصفات التعبير عنه، أن تطبخ طعامًا ذكيًّا، بالمقادير التي تعتمد على سليقتك. اليوم، وبعدما بدأت ممارسة مهنة 'الدي جي' أيضًا، أشعر أنّ الطبخ يشبه أن تضع الموسيقى لناس يرقصون في الحلبة، في كلتا الحالين، هي سعادة لرؤية الناس سعداء، 'شي بطوّل العمر'، كما يقول صديق موسيقيّ وعازف إيقاع من سوريا.

أحاول في برلين، اليوم، أن أحافظ على عادة الطبخ لأصدقاء بين فترة وأخرى، فإيقاع برلين يختلف عن إيقاع حياة 'أكاديميّة العزلة' العام الماضي. كما أنّ ثمّة أصدقاء وصديقات يعيشون، قسرًا أو اختيارًا، في هذه المدينة، جاؤوا من بلادنا، التي نعرف جزءًا منها، والجزء الآخر وصلنا عبر الأغاني ووصفات الطعام، وأخرى، بلاد تبعد بعض الكيلومترات عن عكّا وحيفا، ولم أعرف طعم ورائحة طعامها إلّا في برلين، بحضور أهلها هنا.

تجمع طقوس الطبخ والطعام الناس حول المائدة، أكثر ممّا يجمعهم أيّ شيء آخر يحبّونه... آه، والموسيقى كذلك. ولا بدّ من أن نختلف قليلًا، على سبيل المزاح، عندما نبدأ المنافسة حول أيّ بلد يقدّم أفضل طعام. يتمحور 'الشجار' بين بلاد الشام بعامّة؛ سوريا، وفلسطين، ولبنان، ثمّ ينتقل إلى مدن سوريا وحدها، وعلى الرغم من أنّني منحازة بعض الشيء إلى المطبخ المصريّ (ولهذا الانحياز قصّة ثانية)، لكن مع المصريّين، دي خناقة تانية خالص.

يحمل الأكل حكايات كثيرة، منها الموثّقة، ومنها تلك التي تتعرّض لمحاولة السرقة، لكن أهمّها، تلك الحكايات التي لا زالت تُصنع في المطابخ وحول موائد الطعام في كلّ مكان، تحمل قصص الأمكنة والناس.

تغيّرت علاقتي بالطبخ، تعلّمت مع الممارسة أن أغيّر شكل علاقتي معه إلى نحو أفضل، فأصبح شبّاكًا على قلبي، وقلبي موصول بناس أحبّهم، وقصص سمعتها وأحبّها، وبمدن تعيش معي، سواء عشتها أو لم أعشها، إلّا أنّه لا يمكن لأحد أو شيء أن يسرق سرّ روائح الطعام منّي.

 

رشا حلوة

 

كاتبة وصحافيّة ثقافيّة من مواليد عكّا. حاصلة على بكالوريوس علم الاجتماع وعلوم الإنسان (الأنثروبولوجيا) من جامعة حيفا. تكتب مقالات وتقارير متخصّصة في الثقافة والفنّ. حصلت عام 2016 على إقامة صحافة ثقافيّة من 'أكاديميّة العزلة' في مدينة شتوتغارت الألمانيّة. تكتب في مدوّنتها الإلكترونيّة 'زغرودة' منذ عام 2007.