وقف التدهور: استراتيجيّة للنهوض بالتعليم في أراضي 48

صورة توضيحيّة | شبكة قدس الإخباريّة

يقول جبران خليل جبران: 'ويل لأمّة تكثر فيها المذاهب والطوائف وتخلو من الدين. ويل لأمّة تلبس ممّا لا تنسج وتشرب ممّا لا تعصر. ويل لأمّة تحسب المستبدّ بطلًا، وترى الفاتح المذلّ رحيمًا... ولا تثور إلّا وعنقها بين السيف والنطع. ويل لأمّة سائسها ثعلب، وفيلسوفها مشعوذ، وفنّها ترقيع وتقليد... ويل لأمّة حكماؤها خرس من وقر السنين'.

تجهيل

نتحدّث صوابًا بمقاييس مختلفة، حين نقول إنّ أحد مخرَجات (Outputs) سياسات التمييز العنصريّ التي تمارسها حكومات إسرائيل تجاه المواطنين العرب، منذ قيامها عام 1948، يكمن في وضع المدارس العربيّة المتدنّي، مثلما تجسّد خلال السنوات الأخيرة في انخفاض تحصيل شهادة الثانويّة العامّة (البجروت). القاعدة التي تسير وفقها المؤسّسة الإسرائيليّة منذ قيام الدولة، زيادة تجهيل فلسطينيّي 48 بشتّى الوسائل، ليكونوا لقمة سائغة، وليسهل التحكّم بهم وفق قاعدة 'إذا أردت استعباد شعب جهّله'، فممّا يحقّق للحكومات المستبدّة مآربها تجاه المواطنين، استراتيجيّات مثل إبقاء الشعب في حالة جهل وحماقة، وتشجيع استحسان الرداءة، واستبدال التمرّد على الظلم بالإحساس بالذنب وجلد الذات.[2]

ثمّة مناهج تعليميّة رسميّة في مواضيع أساسيّة تهدف إلى تشكيل الإنسان وكينونته، ومن ضمنها المشاعر، تسعى المؤسّسة من خلالها إلى تجهيل فلسطينيّي 48، مفرغةً التعليم من محتواه، كما هي الحال في مناهج اللغة العربيّة، والتاريخ، والدين، والمدنيّات (التربية الوطنيّة).

كتاب المدنيّات المعتمد في المدارس العربيّة

كما ثمّة تجاهل لاحتياجات آلاف الطلّاب العرب الأساسيّة، من بناء مدارس كاملة، وتقصيرات واسعة في البنية التحتيّة في مدارس قائمة. يبلغ نقص الغرف الصفّيّة في المدارس العربيّة عام 2017، مثلًا، حوالي 5500 غرفة، ما ينعكس سلبيًّا على 542 ألف طالب عربيّ، و 37 ألف معلّم عربيّ، و 2800 مدرسة ومؤسّسة تعليميّة في المجتمع العربيّ، علمًا أنّ ما تخصّصه حكومات إسرائيل للطالب العربيّ ثلث ما يحصل عليه الطالب اليهوديّ.[3]  

خمسة أسس

إنّ عدم إدراكنا لواجبنا، وتقصيرنا عن أداء دورنا على نحو عمليّ وملموس للخروج من هذا المأزق، خطأ استراتيجيّ له عواقب هدّامة، على المستويين القريب والبعيد، وأن تُترك السلطات الإسرائيليّة سابحة وحدها في الميدان، من دون تدخّلنا الفرديّ والجماعيّ، المنظّم والقويّ، يزيد الأزمة تعقيدًا، ويزيد من التدهور.

بعد الأخذ بالأسباب، علينا الاعتماد على أنفسنا من أجل زيادة تمكيننا على المستويات كافّة، حتّى نستطيع فرض الرؤيا والحلّ الأنسب والأجدر. على كلّ واحد منّا أن يسأل نفسه، مدركًا ما لديه من طاقات هائلة كامنة: ماذا يستطيع تقديمه من موقعه لرفع مستوى التعليم، وجعل مدارسنا مكانًا لتأهيل جيل المستقبل؟

من أجل وقف التدهور في مدارسنا ومؤسّساتنا التعليميّة، ورفع مستوى التعليم، علينا بناء استراتيجيّة، ووضع خطط عمليّة ترتكز على خمسة أسس:

1. بناء مجتمع عصاميّ يعتمد على اقتصاد ذاتيّ الدفع.

2. خلق تحالف في مدارسنا بين أولياء الأمور والمعلّمين، بصفتهم أكثر الفئات التي يعنيها هذا الجانب.

3. تعزيز دور السلطات المحلّيّة العربيّة، ليكون فعّالًا وقويًّا أكثر.

4. إقامة جامعة في الناصرة، وفرعين لها، في باقة الغربيّة ورهط، لتكون عنوانًا لطلّابنا وخرّيجينا، ممّن يحصلون على الشهادات الأكاديميّة العليا.

5. الاستفادة من تجارب الآخرين في العالم، آخذين الاختلافات معهم بعين الاعتبار.

مجالات متداخلة ومتواصلة ومتزامنة

سنستعرض في ما يلي خمسة مجالات قد نسمّيها أسسًا، متداخلة، ومتواصلة، ومتزامنة، تشكّل مجتمعة استراتيجيّة أكثر تكاملًا من أجل حلّ أزمة التربية والتعليم في المجتمع العربيّ في أراضي 48. يجب التعامل مع المواضيع الخمسة في آن واحد، وباهتمام كبير. ننطلق من فرضيّة أنّ ثمّة الكثير من العقبات والصعوبات، لكنّنا نستطيع تذليلها.

1.صاميّ يرتكز على اقتصاد ذاتيّ الدفع

إن أردنا تحسين مدارسنا وجهاز التعليم في المجتمع العربيّ، علينا الاهتمام ببناء مجتمع عصاميّ، والسعي إلى ذلك نظريًّا وعمليًّا، فنرفض منح الشرعيّة لعوامل تؤدّي إلى تبعيّتنا للآخرين، اقتصاديًّا، واجتماعيًّا، وثقافيًّا، بالإضافة إلى رفض الذلّ، والهوان، والتهميش، فرديًّا وجماعيًّا، ثمّ الانطلاق وفق استراتيجيّة واقعيّة شاملة تقود إلى التقدّم، والازدهار، والعيش بكرامة.[4]

تبلغ نسبة التسرّب من المدارس في المجتمع العربيّ 22.3%

تلك الاستراتيجيّة يجب أن تكون على ثلاثة مستويات:  أوّلًا، إدراك طبيعة المرحلة التي نعيش، بما تشمل من عوامل قوّة وعوامل ضعف، فنعزّز الأولى ونتغلّب على الثانية. ثانيًا، رفض كلّ سياسات التهميش، والذلّ، والازدراء الذي يعاني منها فلسطينيّو 48 منذ إقامة إسرائيل. ثالثًا، الانطلاق نحو العمل من أجل حياة حرّة كريمة مثمرة، تصنع إنسانًا معتزًّا بنفسه، وبمعتقداته، وبشعبه، وبأمّته، وبإنسانيّته.[5]

في سبيل بناء اقتصاد ذاتيّ الدفع، يجب الانطلاق من أنّ الإنسان نفسه الثروة الأولى التي يجب أن تُستثمر، بعدها يُفتّش عن رؤوس أموال محلّيّة توافق على تجميع قدراتها في سبل عدّة، من أجل النهوض بالاقتصاد العربيّ في أراضي 48. ثمّة عشرات الأخصائيّين الاقتصاديّين ممّن لهم أن يقدّموا لنا خير المشورات والخطط العمليّة، كما يجب ألّا نتردّد في الاستفادة من تجارب شعوب ودول أخرى في هذا المجال، ولا سيّما أولئك الذين حقّقوا نجاحات كبيرة.

من بين المقترحات العمليّة الممكنة: إقامة وقفيّة للنموّ الاقتصاديّ العربيّ في أراضي 48، ربّما ترتكز على دفع كلّ مواطن عربيّ في إسرائيل مبلغًا رمزيًّا ثابتًا شهريًّا، وفي مرحلة لاحقة، يجب تأسيس بنك عربيّ برأس مال عربيّ محلّيّ، يشارك في إقامته وشراء أسهمه كلّ مواطن عربيّ في أراضي 48، يدأب هذا البنك منذ ولادته على تطوير المجتمع العربيّ، وخلق فرص عمل للجميع، ولا سيّما الطلبة، إن كان خلال دراستهم، إذ من المهمّ أن يعمل كلّ طالب خلال الدارسة، ولا بدّ من توفير الوقت له في سبيل ذلك. كما لا بدّ من توفير فرص عمل للخرّيجين، مناسبة وملائمة، من دون تضييع الطاقات.

نشير في هذا السياق إلى أنّ حوالي 12 ألف خرّيج أكاديميّ عربيّ لا يجدون عملًا عام 2017، وهم في بوتقة البطالة القاتلة التي تجرّ المجتمعات نحو الهاوية، كما لها انعكاسات مباشرة على طلبة المدارس في مستويات مختلفة؛ فمن يرى أخاه أو أخته يعاني/ تعاني من البطالة بعد إنهائه/ ها الدراسة الأكاديميّة، أيّ دافعيّة تكون لديه ليكمل دراسته؟ وهذا ممّا يزيد من ظاهرة التسرّب في المجتمع العربيّ، أي ظاهرة ترك المدرسة من دون الانتهاء من المرحلة المحدّدة فيها، لتصل إلى نسبة 22.3% من أبناء المجتمع العربيّ بعامّة، وإلى نسبة 36% بين عرب الجنوب في النقب، وهذا ما يدفع نحو الفشل في التحصيل العلميّ.

2. تحالف أولياء أمور الطلّاب والمعلّمين

يتمحور نشاط تحالف أولياء أمور الطلّاب والمعلّمين في كلّ مدرسة، حول خلق بيئة مدرسيّة ماتعة، ويافعة، ودافعة، تقوم على القيم النبيلة. يتطلّب هذا وضع أسس سليمة، واضحة ومكتوبة، للتعامل بين الطلبة أنفسهم، وبين المعلّمين أنفسهم، وكذلك مع الإدارة.

يكمن التحدّي في أن يشعر الطالب بالمتعة خلال مكوثه في المدرسة، وبأنّ له ظهرًا قويًّا يسنده في مطالبه العادلة، بالإضافة إلى أن يشعر المعلّم بالأمر نفسه، وأن يتعزّز الشعور الموحّد بالتفاعل بين الطرفين. ليس التحدّي، فقط، منع العنف في المدرسة، منها وإليها، على مختلف أنواعه، إنّما خلق بيئة دافعة، تزيد المحبّة، والإخاء، وروح المنافسة الإيجابيّة بين الطلبة، ما يؤدّي، بالضرورة، إلى انخفاض وتيرة العنف والتسرّب.

هذا التوجّه قائم في الولايات المتّحدة الأميركيّة مثلًا، ويُعَدّ أحد العوامل الأساسيّة لنجاح مدارسها، ولا سيّما مع طبيعة المجتمع الأميركيّ التعدّديّ، وأغلبه من المهاجرين.

من مؤتمر 'يدًا بيد نبني جيل الغدّ' المنعقد بتاريخ 19 آب (أغسطس) 2017

تستطيع لجان أولياء الأمور في مدارسنا الاهتمام بالكتب المدرسيّة، سواء بترك بصمات لها في محتوياتها، أو العمل على شرائها وتوزيعها. مناهج اللغة العربيّة، والتاريخ، والدين، مثلًا، تدفع الطالب نحو النفور من هذه الموضوعات، وهو ما له أن يصيب الإنسان في الصميم، في بوصلته وأخلاقه، إذ إنّ تلك الموضوعات تصوغ المشاعر والأحاسيس المشتركة والجامعة، وهي أرضيّة صلبة للهويّة، وكذلك منظومة قيميّة.   

يجب التركيز على المعلّمين في المدارس لأنّهم مؤتمنون على تدريس الطلّاب وتدريبهم، ويساهمون في تنشئة الأجيال القادمة،وبتحالفهم مع أولياء أمور الطلبة، يؤدّون الدور الأكثر فعاليّة ونجاحًا في تنشئة الإنسان، وتوجيهه، ورعايته في المراحل المختلفة. إنّه التحالف السليم والقويّ من أجل الحفاظ على مصالح الطلّاب وتقدّم المجتمع.

في مقال نشرته على الشبكة العنكبوتيّة في آب (أغسطس) 2017 حول الموضوع،[6] حُدّد أنّ هذا التحالف 'يعالج أيّ تقصير من أيّ طرف، بجدّيّة وبحسم وبشفافية، وهذا ما يجعل المنظومة التعليميّة على الساحة الأميركيّة متكاملة، ومترابطة، ومتدافعة، وترى فيها تطبيقًا لقول الله عزّ وجلّ في كتابه العزيز: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}'. 

ثمّة في السنوات الأخيرة إدراك متزايد في مجتمعنا لدور لجان أولياء أمور الطلّاب، فعلى سبيل المثال، عُقِدَ في 19 آب (أغسطس) 2017، مؤتمر اللجنة القطريّة للجان أولياء أمور الطلّاب العرب في أراضي 48، تحت شعار 'يدًا بيد نبني جيل الغدّ'، وحُدّدت فيه النقاط الآتية: 1. لأولياء أمور طلّابنا في مدارسنا دور أساسيّ، لا يمكن تجاهله لا من قريب ولا من بعيد، ويجب انتخاب لجان أمور محلّيّة في كلّ مدرسة، بطرق ديمقراطيّة، والانضمام إلى اللجنة القطريّة، لأنّ في الاتّحاد قوّة، ولأنّ التحدّيات كبيرة، وفي حالات كثيرة، خطيرة. 2. جميع مَنْ تحدّثوا في المؤتمر، منهم مندوب وزارة المعارف، وأعضاء كنيست عرب، شجّعوا ودعموا التوجّه لمنح لجان أولياء الأمور دورًا مهمًّا في إدارة العمليّة التعليميّة والتربويّة. 3. التأكيد على أنّ دور لجان أولياء أمور الطلّاب يرتبط بالمشاركة وأداء الدور اللازم، وهذا يكفله القانون والواقع. 4. تشير الأبحاث العلميّة إلى أنّه كلّما تدخّل أولياء الأمور في شؤون المدرسة، زاد التوجّه نحو خلق بيئة داعمة، وتعزيز الاستقرار، وزيادة التحصيل، والإقلال من العنف ونسبة التسرّب.[7]

3. سلطات محلّيّة عربيّة يافعة

يجب منح دور رياديّ للسلطات المحلّيّة، فتكون لها مساهمة حقيقيّة، إذ إنّها في تواصل مباشر مع الناس على مستويات مختلفة، وتتمتّع بوسائل قانونيّة كثيرة، وتملك القدرات المادّيّة لمعالجة مشكلة التعليم في المجتمع العربيّ إن رُتّبت الأوراق من جديد، وزيد الاعتماد على الذات، والتركيز على مصادر الشرعيّة.[8]  لا بدّ أن نبدأ بالقضاء على الفساد والإفساد اللذين يميّزان سيرورة نشاط السلطات المحلّيّة حتّى النخاع اليوم.

تبيّن أبحاث كثيرة، مثلًا، أنّ الرياضة تساعد على خلق جوّ مناسب وبيئة مريحة ودافعة، فلماذا لا توفّر السلطات المحلّيّة مراكز رياضيّة في كلّ قرية أو في كلّ حارة؟

من انتخابات السلطات المحلّيّة عام 2015

أوصى مؤتمر علميّ في جامعة النجاح الوطنيّة بنابلس - فلسطين، عُقِد في نيسان (أبريل) 2013، حول فلسطينيّي أراضي 48، بضرورة بدء التثقيف المجتمعيّ في موضوع إدارة السلطات المحلّيّة العربيّة على نحو سليم، لتكون بعيدة عن الفساد، وترتكز في إدارتها على الشفافيّة والمهنيّة.[9] 

تساعد الإصلاحات الممكنة على إيجاد شرعيّة حقيقيّة لكلّ منتخب، كما تساعد على توسيع المشاركة السياسيّة، وتحمّل كثير من الناس المسؤوليّة.

التغيير الذي نطالب به في السلطات المحلّيّة يتمحور حول منح شرعيّة سياسيّة مباشرة لأعضاء لجان محلّيّة منتخبة فعّالة، في انتخابات أوّليّة، أو بتكليف من هيئة محلّيّة مهنيّة وأمينة للانتخابات، في القرى، وأحياء القرى الكبيرة، والمدن العربيّة في أراضي 48، تكون بيدها شرعيّة لمواجهة التحدّيات الكثيرة. تكلّف هذه اللجان، في إطار اجتماع عامّ، رئيسًا وأعضاءً لمجلس السلطة المحلّيّة من بين صفوفها، تزيد عضويّتهم المزدوجة الالتزام تجاه المصالح العامّة. يكون انتخاب الرئيس وأعضاء السلطة المحلّيّة حينها، في يوم الانتخاب الذي تحدّده وزارة الداخليّة تحصيل حاصل.  هذا التغيير يدفع نحو التخلّص من عصر وصاية الحكومات الإسرائيليّة على السلطات المحلّيّة، وتحكّمها بها، ويقلل من احتمال الفساد.

4. جامعة عالميّة

تأسيس جامعة عالميّة في الناصرة، في الجليل، حيث تسكن غالبيّة فلسطينيّي أراضي 48، بالإضافة إلى فرعين آخرين للجامعة في كلّ من مدينة باقة الغربيّة، وسط أراضي 48، ومدينة رهط في الجنوب، يُعَدّ عاملًا أساسيًّا لرفع مستوى التعليم على المستويات كافّة، إذ من دون هذه الجامعة قد لا نستطيع تحقيق أيّ تقدّم ملموس. ولا بدّ تكثيف الجهود من أجل إقامتها على أرض الواقع، وعلى لجنة المتابعة العليا للجماهير العربيّة، صاحبة الشرعيّة السياسيّة، تبنّي الموضوع ووضع الخطط العمليّة والتنفيذيّة لذلك من دون تأجيل. إنّ تأسيس فروع مختلفة لمثل هذه الجامعة، يخلق بيئة تعليميّة محلّيّة تسمح للطالب التفاعل مع محيطه، ما يساعده في عمليّة التدافع نحو مستقبل تعليميّ أفضل.

نقدّر كلّ جهد بُذِلَ في الماضي من أجل تحقيق هذه الرؤيا؛ 'جمعيّة الصوت' في سنوات السبعين من القرن الماضي بذلت جهدًا في سبيل تحقيق الأمر، وأصدرت كتابًا عالج الموضوع. وقبل عدّة سنوات، وُضِعَ حجر الأساس لجامعة الناصرة بتاريخ 12 كانون الأوّل (ديسمبر) 2012، لكن لا بدّ من متابعة الأمر، وإعادة طرح الفكرة، من خلال اجتماع شعبيّ تعقده بلديّة الناصرة مثلًا، يحضره ممثّلو لجنة المتابعة العليا للجماهير العربيّة، وشخصيّات بارزة، وجمهور واسع، تُطرح فيه رؤيا تنفيذ مشروع الجامعة ذات الاتّصالات والارتباطات العالميّة، ويُطلب من كلّ مَنْ يمكنه أن يساعد في ذلك أن يقدّم مساهمته.

من احتفاليّة وضع حجر الأساس للحرم الجامعيّ في الناصرة، بتاريخ 12/12/2012 | الجزيرة

وفي إسرائيل عدّة تجارب ناجحة في تأسيس مؤسّسات أكاديميّة، يمكن الاستفادة منها. مثل تجربة المعهد متعدّد التخصّصات في هرتسليّا، وكلّيّة 'شاليم' في القدس. وأمامنا في العالم عشرات التجارب اللافتة، من بينها التوجّه نحو الجامعة الإلكترونيّة أو الجامعة الرقميّة. كما يجب الاستفادة من تجربة الاعتراف الرسميّ الإسرائيليّ بكلّيّة 'أريئيل' في الأراضي المحتلّة منذ عام 1967، بتاريخ 24 كانون الأوّل (ديسمبر) 2012، بصفتها جامعة رسميّة، وذلك على الرغم من احتجاج مجلس التعليم العالي في إسرائيل ومعارضته لذلك، وهو الجسم المهنيّ المخوّل قانونيًّا بمنح مثل هذه الاعترافات وفق القانون.[10]

يمكن أن يكون لهذه الجامعة أثر إيجابيّ كبير في المجتمع العربيّ في أراضي 48، وأن تؤدّي دورًا مركزيًّا في رفع مستوى التعليم فيه، شرط أن تكون مميّزة في كوادرها وارتباطاتها الأكاديميّة العالميّة. أمّا أثرها ودورها فيمكن أن يتجلّيا بالآتي:

- للتعليم العالي مكانة مركزيّة في حياة الشعوب، والاستثمار فيه وتطويره كان سببًا أساسيًّا لتقدّمها وازدهارها. حدّد محمّد عبده، أحد كبار المصلحين العرب في العصر الحديث، أنّ الاهتمام بالتربية والتعليم يشكّل الأداة الرئيسيّة لتحقيق صحوة عقل الأمّة وإكسابها القوّة اللازمة للنهضة.

- تأسيس مثل هذه الجامعة من الحقوق الأساسيّة للفلسطينيّين أصحاب المواطنة الإسرائيليّة، ومن ضمنها أيضًا الاعتراف بوجودهم جماعة قوميّة، وكذلك بحقّهم في التعليم ضمن بيئة تلائم احتياجاتهم وتنمية طاقاتهم الإبداعيّة.

- شرائح المجتمع المختلفة التي ستشملها الجامعة، لها أن تساهم مساهمة كبيرة في خلق سلام أهليّ، وتطبيق مبادئ ديمقراطيّة أساسيّة، مثل حرّيّة التعليم، والمساواة، والعدل، والمحبّة بين الناس، في هذه المنطقة بخاصّة وفي العالم بعامّة. وما أحوجنا في بيئتنا التي يسودها صراع مستمرّ منذ عقود طويلة، أن نبني مؤسّسة تجعل من التوادّ والمحبّة أساسًا لانطلاقها.

- لا بدّ وأن تكون الجامعة مكانًا لالتقاء ثقافات مختلفة، أبوابها مفتوحة لكلّ طالب من دون تمييز على أساس عرق، أو دين، أو ثقافة، أو جنس، فيجد المواطنون العرب مؤسّسة أكاديميّة تكون عنوانًا لهم حين يفكّرون في مستقبل أبنائهم، تمنحهم الأبعاد العالميّة، ما يساعد على تنشئة إنسان يستطيع تدبير أموره في عصرنا.

- وجود جامعة قريبة جغرافيًّا من مراكز تجمّع فلسطينيّين أراضي 48، يزيد من وضوح توجّه الطالب نحو التعليم العالي، وخلاله. أشارت أبحاث علميّة أجريت في السنوات الأخيرة، إلى وجود توجّه كبير لدى الطلبة الفلسطينيّين في أراضي 48، حتّى في مراحل أوّليّة من التعليم، للإقبال على الدراسة الأكاديميّة. كشف بحث ميدانيّ أُجري في مدارس ابتدائيّة وإعداديّة عربيّة في أيّار (مايو) 2011، أنّ 84.9% من الطلبة، على الرغم من عمرهم الصغير نسبيًّا، يريدون إكمال دراستهم في الجامعة.[11] لذا فإنّ استمرار عدم وجود مثل هذه الجامعة، قد يكون عاملًا مساهمًا في انسداد الأفق لدى الأغلبيّة ممّن ينهون دراسة الثانوية العامّة، ولا يواصلون تعليمهم الأكاديميّ.

3 مليارات شيقل تخرج سنويًَّا مع الطلّاب الذي يدرسون في الخارج

- سيوفّر تأسيس مثل هذه الجامعة للمجتمع العربيّ حوالي 3 مليارات شواقل سنويًّا، يمكن استثمارها في هذا المجتمع بدلًا من أن ترسل إلى جامعات في الخارج، مثل الأردنّ، ومولدوفا، ورومانيا، وهنغاريا، وحتّى ألمانيا وبريطانيا. الاستمرار في إرسال هذا المبلغ استنزاف للاقتصاد العربيّ في أراضي 48، وهو ممّا يساهم في الإفقار واستمرار حالة التبعيّة للآخرين.

- طاقات أكاديميّة من الطراز الأوّل تهدر سدًى ولا يُستفاد منها. على سبيل المثال، ثمّة أكثر من ألفي فلسطينيّي من أراضي 48 ممّن يحملون شهادات الدكتوراه، أغلبهم لا يعمل في المجال الأكاديميّ المناسب لتخصّصه. وفي حال استُدعوا ووُظّفوا، لهم أن يشكّلوا العمود الفقريّ لإقامة هذه الجامعة. حدّدت صحيفة 'هآرتس' الإسرائيليّة أنّ 1.3% من الأكاديميّين العرب فقط، ممّن أنهوا دراسات في 'الهاي تيك'، يجدون أعمالًا في إسرائيل، على الرغم من ادّعاءات أصحاب الصناعات أنّهم يخلقون مساواة،[12] ونحن نعتقد أنّ هذا الوضع ناتج عن سياسة مقصودة، على الرغم من أنّ عدم تشغيل العرب يكلّف الاقتصاد الإسرائيليّ 31 مليار شيقل سنويًّا.[13]

- الطالب العربيّ في إسرائيل لا يواجه، فقط، امتحانات قبول صعبة لدخول الجامعات العبريّة، بل ثمّة مشاكل أخرى عديدة، ولمثل هذه الجامعة أن توفّر حلولًا لها.

- الجامعة مخرج رئيسيّ لكثير من الأزمات الحادّة التي يواجهها فلسطينيّو أراضي 48، فعدد الكلّيّات التي يدرس طلّابهم فيها تزداد، ما يخلق أزمات اجتماعيّة تبدأ بتفاقم آلاف الخرّيجين العرب الذي يعانون من البطالة مع تخرّجهم من هذه الكلّيّات، والتي بدراستهم فيها لا يحظون بتأهيل علميّ سليم كما يستحقّون، ولهذه الجامعة أن تكون بديلًا ذا استراتيجيّات تأخذ بعين الاعتبار موضوع التشغيل بعد التخرّج والتعامل مع ظاهرة البطالة.

التأخّر في تأسيس الجامعة ليس في صالحنا، ولا سيّما أنّنا نملك كلّ المقوّمات للبدء في ذلك، ونستطيع تذليل العقبات المحتملة.

5. الاستفادة من تجارب الآخرين

لا بدّ من العودة إلى تاريخنا العربيّ الإسلاميّ لنرى مدى الاهتمام بالعلم والمعرفة، ومدى الإنجازات التي حقّقناها، لا لنتفاخر بما كان ونقف عنده، بل لجعله مصدر تفاؤل وطاقة كبيرين يدفعاننا إلى الأمام. لا يمكننا، في الوقت نفسه، الاستهانة بتجارب الآخرين، ولا سيّما مَنْ خاضوا حالات مماثلة، واستطاعوا تحقيق إنجازات بارزة، مثل التجارب السنغافوريّة والتركيّة والأميركيّة، فالحكيم يتعلّم من مختلف التجارب. كما ثمّة حاجة لإدراك قدراتنا موضوعيًّا، وامتلاك الإرادة الحضاريّة، واستبطانها، وإفشائها في الناس، ودفعهم إلى تبنّيها، إذ بها تُبنى الحضارات.[14]

سوف نستعرض في ما يلي عدّة تجارب عالميّة ناجحة، يمكن أن نستفيد منها، إن أمكن، لنضع أنفسنا على السكّة الصحيحة، في سبيل إصلاح حالنا:

تركيّا: حين سئل رجب طيّب أردوغان عن سرّ نجاح تركيا في ظلّ حكم 'العدالة والتنمية' منذ عام 2002، لتبلغ أرقامًا قياسيّة على المستوى العالميّ، قال: 'أنا لا أسرق'!

مهاتير محمّد، قائد النهضة الماليزيّة

ارتفع الدخل القوميّ للفرد التركيّ خلال هذه الفترة من 3500 دولار عام 2002، إلى 10,500 دولار عام 2012، وبلغت نسبة النموّ السنويّة 5.1%.[15] غدت تركيا قوّة اقتصاديّة من بين الـ 16 الأقوى في العالم خلال عقد من الزمن، لعدّة عوامل، من ضمنها: 1) قيادة سياسيّة حكيمة مرنة، تدرك نقاط ضعفها وقوّتها. 2) توجيه الصناعات لتكون أساسيّة وذات إنتاجيّة عالية. 3) تشجيع الإبداع والاختراع. 4) التركيز على التقنيّة العمليّة التصنيعيّة وتعميمها. 5) تنسيق كامل بين مختلف عناصر الاقتصاد. 6) اتّباع سياسة استثماريّة مفتوحة. 7) توظيف صفات حسن الأداء، والانضباط، والاستعداد للعطاء. 8) تنمية شعور الاستقلال التركيّ. 9) تشجيع العمل الجماعيّ، وحبّ العمل، والطاعة في العمل.

الهند: حين بدأت الهند تتّبع توجّهات المهاتما غاندي منذ العقد الأخير من القرن العشرين، بدأت تتطوّر وتنافس عالمًّيا في كثير من المجالات، ولعلّ من أبرز تلك التوجّها: 1. الاعتماد على الذات في مواجهة الصعوبات.  2. الإيمان بأنّ شجرة الحرّيّة والاستقلال لا تنمو في يوم واحد.  3. الأساس هو الإنسان الفرد، إذ فيه طاقات هائلة كامنة.  4. سلاح المقاطعة والعصيان المدنيّ سلاح فتّاك لإجبار الاستعمار على التخلّي عن مهمّته. 3. التركيز على وجه بريطانيا القبيح والمجرم. 4. بناء استراتيجيّة عمل تضيء الطريق لمختلف المستضعفين في العالم، أينما وُجدوا، وهو الذي قال: في مسيرتك الطويلة من أجل بناء مجتمع حرّ 'في البداية يتجاهلونك، ثمّ يهزؤون منك، ثمّ يحاربونك، ثمّ تنتصر عليهم'.[16]

سنغافورة: [17] زعيم نهضة سنغافورة، لي كوان يو، طرح ما يلي: يتطلّب التقدّم قادة أقوياء في ساعات الضعف، ويشكّل التنوّع العرقيّ قوّة، إذ يخلق حبال وصل مع الجيران والعالم على حدّ سواء. يجب الاهتمام بثقافة الإنسان وتعليمه، والابتعاد عن التلقين، والتركيز أكثر فأكثر على التفكير النقديّ. أدرك لي كوان يو أنّ الأمر منوط بكثرة القراءة، فمن لا يقرأ لا يستطيع أن يكتب، ولا يستطيع أن يفكّر على نحو نقديّ. وكان التوجّه لديه نحو إعداد المعلّم الفاضل، والناجح، والمهنيّ.

ألمانيا: وجد عالم السياسة الأميركيّ، كارل دويتش، معتمدًا على أبحاث ميدانيّة أجريت في ألمانيا، حين كان يتحدّث عن نهوض ألمانيا الحديثة، أنّ عشر سنوات كانت كافية لإعادة بناء ألمانيا من جديد.

ماليزيا: لخّص قائد التقدّم الهائل في ماليزيا، مهاتير محمّد، رؤياه بعدّة كلمات: 'إيّاكم الاستقراض من الخارج، واعتمدوا على طاقتكم الذاتيّة'. وقد توصّل إلى أنّ سبب الفقر ضعف إنتاجيّة الفرد، وضعف مستوى التعليم الذي لا ينتج عمالة صناعيّة مميّزة، تحقّق الاكتفاء الذاتيّ.

ختامًا

- استعرضت خمسة مجالات يجب العمل عليها ومن خلالها، على نحو متزامن ومتواصل، ليس من أجل ضمان عدم تدهور مستوى التعليم العربيّ في أراضي 48، بل ارتقاؤه.

- اعتزازنا بتاريخنا حقّ لنا، وإن كنّا نجهل كثيرًا من إنجازاتنا الحضاريّة القديمة، وفي كثير من المجالات.

- لدينا قادة ذوي جرأة وقدرات تحمّل وثبات ومواظبة تمكّن من تحقيق ذلك، كما نملك أكاديميّين يتحدّثون بلغة العلم، لهم أن يزيدوننا تمكينًا وتطوّرًا، ونملك، أيضًا، جماهير ترى بالعلم أساسًا لتقدّمها ونموّها، ويمكننا، بالتالي، أن نكون متفائلين، ولا سيّما في ضوء التطوّرات التي تدفع نحو تحسين أوضاعنا.

- باتّباعنا هذه الاستراتيجيّة المقترحة، نضع أنفسنا في مسار معادلات رابحة، وهنا يكمن تحدّ من واجبنا أن نكون مستعدّين له وعلى قدر تحمّله.

- يجب الانطلاق بقوّة نحو المستقبل، ونحن مؤمنين بقدرتنا على تحقيق ما نصبو إليه، وإن شحّت الثروات على المدى القصير في مجالات معيّنة.


[1]

[2] . هذه الاستراتيجيّات يحدّدها المفكّر الأميركيّ، نوعام تشومسكي، في كتابه 'الدول الفاشلة'.

[3] . انظر النشرة الصادرة عن لجنة متابعة قضايا التعليم العربيّ، الناصرة، تحت عنوان 'החינוך הערבי, צרכים, חסכים ודרישות'،  آب (أغسطس) 2017.

[4]. Massoud Eghbarieh (2014) “Arabs in Israel: How to Make Up a Proficient Society” in Majdi Taha  (Ed) “Politics of  Deficiency”, The Center for Contemporary Studies, Um El Phahem, Israel. Pp:133-172.

[5] . انظر مقالًا للمؤلّف حول السلطات المحلّيّة العربيّة، نُشر عبر موقع www.arabs48.com، بتاريخ 6 أيلول (سبتمبر) 2017.

[6] . نُشر المقال تحت عنوان 'دعم اللجنة القطريّة للجان أولياء أمور الطلّاب أمر هامّ وواجب'، بتاريخ 21 آب (أغسطس) 2017، على موقع www.arabs48.com.

[7] . للمزيد من المعلومات، انظر مقالًا للمؤلّف نُشر في 21 آب (أغسطس) على موقع www.arabs48.com .

[8] . قسم من الأفكار حول هذا الموضوع واردة في مقال للكاتب، نُشر بتاريخ 6 أيلول (سبتمبر) 2017، على موقع www.arabs48.com .

[9] . كاتب المقالة كان رئيس اللجنة التحضيريّة الأكاديميّة للمؤتمر.

[10]. هذا يؤكّد ما ذكره المحامي الإسرائيليّ الشهير، فاينروت، والذي كان محاميًا لبنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل، من أنّ في إسرائيل لا يوجد قانون.

[11]. أجرى البحث الميدانيّ الشامل، الذي ركّز على قضايا العنف في المدارس، وقضيّة الفشل والنجاح بين الطلّاب، في قرى مجلس زيمر في المثلّث الشمالي، كاتب المقالة إلى جانب طاقم بحثيّ مرافق.

[12] . 'هآرتس'، 15 حزيران (يونيو) 2012.

[13] . 'هآرتس'، 15 حزيران (يونيو) 2012.

[14]. حول هذه المواضيع انظر إلى نظريّة المؤرّخ البارز، أرنولد توينبي، 'التحدّي والاستجابة'، وكذلك نظريّة المفكّر الإسلاميّ مالك بن نبي، حين تحدّث عن 'الإرادة الحضاريّة'.

[15]. انظر: http://www.akhbaralaalam.net/?aType=haber&ArticleID=64372

[16]. كثيرون يقتبسون هذه المقولة في سياق الحديث عن بناء استراتيجيّة عمل من أجل زيادة التمكين. على سبيل المثال، حين عرضت وزيرة خارجيّة السويد سياسة دولتها الخارجيّة المدافعة عن المرأة في العالم، أمام مركز السلام في الولايات المتّحدة الأميركيّة في نيسان (أبريل) 2015، جاءت بهذا الاقتباس، انظر: http://www.haaretz.co.il/gallery/mejunderet/.premium-1.2618027

[17]. استُعين بورقة بحثيّة تحت عنوان 'لماذا تفوّقت سنغافورا؟'، قدّمتها الطالبة نور مجاهد، الفصل الأوّل، 2013، كلّيّة الدراسات العليا، جامعة النجاح الوطنيّة، نابلس - فلسطين.

 

د. مسعود إغباريّة

 

 

أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة النجاح الوطنيّة، نابلس - فلسطين. وعضو هيئة تدريس في الكلّيّة الأكاديميّة بيت بيرل.