فتّش عن القطن: هكذا صنع الشيخ ظاهر عصرًا ذهبيًّا لفلسطين

قلعة شفاعمرو | زياد أبو السعود الظاهر

في الربع الأول من مطالع القرن الثامن عشر، كان كلّ شيء في بلادنا ممكنًا، كانت سنوات تَمورُ بوهن السيطرة المركزيّة للدولة العثمانيّة على شماليّ فلسطين، ونشوء الملتزميّة، أي تولية عائلات معيّنة إدارة مناطق محدّدة وجبي الضرائب لصالح السلطنة، وحدود السيطرة التي تتغيّر يومًا بعد آخر، وتلك المدن التي تشيد وتكبر وتتوسّع، وذلك الاقتصاد الآخذ في التبدّل من اقتصاد استهلاكيّ إلى تسويقيّ للأسواق الخارجيّة، وتحديدًا أوروبّة.

لكلّ هذه التبدّلات عنوان واحد، لا يمكن قراءتها من دون الرجوع إلى سيرته، وهو الشيخ ظاهر العمر الزيداني، الذي تتبّع الأستاذ في تاريخ الشرق الأوسط، بروفيسور محمود يزبك، خطاه، ولخّصها في كتابه الجديد 'الشيخ ظاهر العمر الزيداني – العصر الذهبيّ لفلسطين في العصر الحديث' (أيلول 2017)، ويقع في 40 صفحة من القطع المتوسّط.

من طبريّة إلى عرّابة البطّوف

يقول يزبك خلال الندوة التي عقدها المنتدى الثقافيّ في جمعيّة الثقافة العربيّة بحيفا، هذا الأسبوع، إنّ 'صناعة النسيج أدّت دورًا مهمًّا في أوروبّة في مسيرة التصنيع، خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر. ولتلبية الطلب المتزايد على القطن الخام، اتّجهت بريطانيا وفرنسا إلى منطقة الشرق الأوسط، حيث المناخ مواتٍ لزراعة هذا المحصول... وعزّز التجّار الفرنسيّون ووكلاؤهم وجودهم في لبنان وفلسطين للحصول على القطن، ما جعل فرنسا الشريك التجاريّ الأوروبيّ الرئيسيّ مع الساحل السوريّ الجنوبيّ'، ويضيف أنّ 'الكمّيّات المتزايدة لإنتاج القطن لم تؤدّ بالضرورة إلى زيادة أرباح المزارعين أو المتنفّذين الفلسطينيّين، إنّما أدّت إلى زيادة أرباح التجّار الفرنسيّين الذين سيطروا على أسعار السوق المحلّيّة ونسّقوا الأسعار ما بينهم'.

أدرك ظاهر العمر ذلك جيّدًا، وهو بعد شابّ يافع، فانطلق من طبريّة، التي كانت مقرًّا لوالده، إلى عرّابة البطّوف عام 1710، واتّخذها مقرًّا، نظرًا لسهولها الفسيحة وقربها من موانئ عكّا، التي أدرك ظاهر، وفق يزبك، 'أنّها، بموقعها ومينائها، تشكّل المركز التجاريّ والإستراتيجيّ الأهمّ في الجليل'، ولذلك سعى بشكل محموم إلى ضمّها لملكه وجعلها عاصمة له.

ويقول يزبك إنّ عكّا الجديدة التي أنشأها ظاهر العمر من أنقاض المدينة المهدومة، التي سكنها 300 شخص اعتاشوا بالأساس على الصيد، 'شكّلت نقطة جذب طبيعيّة لمحاصيل القطن التي أنتجتها سهول فلسطين، من جبال نابلس مرورًا بمرج ابن عامر، وسهول طبريّة، وسهل البطوف، ومروج الجليل، وصولًا لشواطئ المتوسّط غربًا'، التي أحكم ظاهر العمر سيطرته عليها تباعًا.

ومع سيطرته المحكمة على سهول القطن الشاسعة، طرد ظاهر العمر المحتكرين الفرنسيّين من الجليل، وأرسل عيونًا له إلى أوروبّة لرصد التغيّر في أسعار القطن، وفرض احتكارًا على القطن، هو الأوّل من نوعه في المنطقة. ويؤكّد يزبك على أنّ ظاهر العمر سبق محمّد علي باشا إليه.

ليس أحمد باشا الجزّار

واحتكار تجارة القطن من قبل سلطة ظاهر العمر، دَرَّ، بالضرورة، أرباحًا ماليّة ضخمة، ويثبت يزبك أنّ ظاهر 'نجح في تسخير مقدرته الاقتصاديّة المتنامية لتحقيق طموحات سياسيّة: وسار الأمران (المقدرة الاقتصاديّة والطموحات السياسيّة) جنبًا إلى جنب حتّى نهاية أيّامه، ودفع بفلسطين بقوّة نحو الدخول في مجالات الاقتصاد في أوروبّة'.

خريطة حكم ظاهر العمر

ومن أجل بناء مدينة حديثة، استقطب ظاهر العمر، بمساعدة رئيس الطائفة اليهوديّة في مدينة إزمير، حاييم أبو العافية، عددًا من اليهود الحرفيّين، 'وعند وصولهم عام 1740، رحّب ظاهر شخصيًّا بهم وقدّم لهم قطعة أرض لبناء حيّ لهم حول الكنيس والمدرسة الدينيّة التي ساهم بإنشائها، وكي يحفّزهم على تنشيط الحركة التجاريّة قدّم لهم إعفاءات ضريبيّة مدّة 3 سنوات'.

وتطرّق يزبك في محاضرته، كما في كتابه، بإسهاب، إلى التفاصيل الدقيقة في إنشاء المدن الفلسطينيّة الحديثة، وتحديدًا حيفا، وطبريّة، وعكّا، والناصرة.

وفي هذا السياق، كشف يزبك عدّة جوانب عن ظاهر العمر 'المجنيّ عليه'، فهو باني أسوار عكّا الشهيرة لا أحمد باشا الجزّار الذي ينسب العامّة بناءها إليه، بالإضافة إلى أنّه أوّل من استقلّ ماليًّا عن الدولة العثمانيّة، على الرغم من ولائه لها سياسيًّا، وحرصه على الحصول على تعيين سنويّ جديد من والي صيدا، لا محمّد علي باشا.

فلّاحون بلا ضرائب

مع القدرات الماليّة المتعاظمة، حرص ظاهر العمر على بناء جيش له، وصل عديده 70 ألف جنديّ، شكّل هاجسًا لحكّام دمشق ونابلس، وخشية من جنوح الظاهر نحو التمدّد فيهما. بالإضافة إلى ذلك، اتّبع الظاهر سياسة تمدينيّة موّلها من ماله الخاصّ، ما جعلها تختلف بشكل ملحوظ عن سياسات باقي الحكّام العثمانيّين الذين دأبوا على زيادة إيراداتهم من خلال الضرائب، مقابل إعفائه الفلّاحين من الضرائب (علمًا بأنّه جابي ضرائب!).

'ولم يقتصر اهتمام الظاهر على مناطق إنتاج القطن في الجليل فقط، بل امتدّ حكمه ليشمل المدن التي بناها ونمّاها بسرعة – طبريّة والناصرة وحيفا وعكّا - وسيطر، أيضًا، على موانئ البحر الأبيض المتوسّط'.

فرمان حول كنيسة الروم في الناصرة

وإحدى أبرز مظاهر قوّة الظاهر، القلاع والأبراج التي بناها 'حفاظًا على الأمن والأمان في الطرقات والمدن، وحماية لحقول القطن التي انتشرت في أنحاء الجليل'، وما زال عدد كبير منها شاخصًا حتّى الآن، منها: قلعة دير حنّا (1732)، وقلعة جدّين (1738)، وقلعة صفّوريّة (1745)، وقلعة عكّا (1750)، وقلعة صفد (1759)، وقلعة شفاعمرو (1768).

وفي خلاصة دراسته ومحاضرته، قال يزبك 'إنّ مشاريع التحضّر والتمويل اللانهائيّ التي استثمر الظاهر فيها من خزانته الخاصّة، جعل هذه المراكز الحضريّة واقعًا حقيقيًّا. لقد ترك الظاهر بصمة واضحة في تاريخ فلسطين، تمثّلت في مبادرته المهمّة إلى إنشاء مجتمع مدنيّ، وبداية ظهور طبقة تجّار في مدن شمال فلسطين. وهذه المدن امتازت منذ نشأتها بتنوّع سكّانيّ مثّل أطياف المجتمع الفلسطينيّ حينذاك'.

التصدّي للجناية

وانتقد يزبك، خلال إجابته على مداخلة أحد المشاركين، الادّعاء بأنّ الظاهر أوّل من أدخل اليهود إلى فلسطين، قائلًا إنّ وجودهم في فلسطين دليل على تنوّع المجتمع الفلسطينيّ قبل النكبة، وإنّ المشكلة مع الصهيونيّة لا مع اليهود.

ورفض يزبك عَدّ الظاهر 'قوميًّا عربيًّا'، داعيًا إلى عدم إسقاط مصطلحات الحاضر على الماضي، إنّما البحث في الماضي كما هو، دون الغوص في مصطلحاتنا الحاليّة.

قال يزبك هذا، ثمّ أنهى المحاضرة وهو يسخر: عن أيّ أرض بلا شعب يتحدّثون؟

 

أحمد دراوشة

 

ناشط سياسيّ وطالب في معهد 'التخنيون' بحيفا. يعمل صحافيًّا في موقع عرب 48. شارك في إعداد عدد من البرامج الوثائقيّة والإخباريّة، والأفلام الاستقصائيّة، لصالح التلفزيون العربيّ وقناة الجزيرة.