الثقافة في غزّة: من الخلق إلى الاغتراب

 

مبادرات، فمشهد

يواجه المشهد الثقافيّ في قطاع غزّة تحدّيات عديدة، تؤثّر باستمرار في ركائزه وبنيانه، بدءًا من الاحتلال الإسرائيليّ وما يفرضه من حصار وانغلاق، فتقييد للحركة، فالتعتيم على الرأي المختلف لما هو سائد سياسيًّا ومجتمعيًا في القطاع، وتحديدًا من قبل المنظومة السياسيّة الحاكمة.

في ظلّ هذا الواقع، كوّن المشهد الثقافيّ نفسه من العدم خلال العقد الأخير، بلا أرضيّة يُبنى عليها بحرفيّة وهدوء، مرتكزًا في ذلك على تجارب واجتهادات الجيل الشابّ بالأساس.

بدأ الأمر بالتوازي مع ظهور مواقع التواصل الاجتماعيّ مجتمعًا جديدًا، وتشكّل مبادرات صغيرة تجمّعت في مساحات مثل "جاليري غزّة"، وفي بعض الأمسيات الشعريّة والموسيقيّة. ومع بدء تماسك هذه المبادرات ونجاحها نسبيًّا، راحت تظهر بوادر مأسسة لهذا المشهد من خلال تنظيمه والتعبير عنه؛ فنشأت مثلًا، مبادرة صفحة "بيانات" الّتي عُنيت بنشر قصائد للشعراء الفلسطينيّين على موقع الفيسبوك، و"مجلّة 28"، وهي المجلّة الثقافيّة الوحيدة الفاعلة في هذا المجال بغزّة، وتعمل على جعل المشهد الثقافيّ الشبابيّ حاضرًا في أصعب الظروف، ومبادرة "تحت الطبع - يوتوبيا"، وهي فكرة لتشجيع الكتّاب الشباب الّذين لديهم مخطوطات جاهزة للنشر، عبر عرضها على الجمهور قبل النشر والطباعة، ونشأ العديد من الملتقيات والصالونات الثقافيّة الشبابيّة: "صالون نون الأدبيّ"، و"صالون طوقان الأدبيّ"، و"معرض كتاب غزّة"، ونُشر العديد من المخطوطات الشعريّة، والروايات، والقصص القصيرة لكتّاب غزّة الشباب.

ربّما عانى هذا المشهد إشكاليّة تأسيسيّة، وهي أنّه استمرّ في "العرض" ولم يقدّم نقدًا كما لم يتطوّر كثيرًا في الإنتاج، إلّا أنّه - وفي ذات الوقت - كان لهذا "العرض" تأثير واسع في جيل الشباب، يتوازى مع نشاطه الكتابيّ على مواقع التواصل الاجتماعيّ، ليشكّل تدريجيًّا قوّة ضاغطة على بعض الأفكار والممارسات المقيّدة والحاظرة في مجتمع غزّة؛ فصار يجابه الممارسات الحكوميّة في منعها للفعاليّات الموسيقيّة، والثقافيّة، والمسرحيّة، والتراث الفلسطينيّ... إلخ، لكنّه في ذات الوقت لم يكن محميًّا، ولم يكن يلقى دعمًا إلّا من طاقاته الشابّة، والمبادرات الفرديّة والتطوّعيّة.

 

مناطق عسيرة

عشت ضمن هذا المشهد منذ عام 2012، ومن موقعي اليوم أستذكر كيف استطعنا أن نكون جسدًا واحدًا، على الرغم من كوننا مزيجًا فكريًّا وبيننا تفاوت أيديولوجيّ، ليس مفهومًا ضمنًا أن يحافظ على تماسكه، لكنّ وجود رؤية عامّة ساهم في ذلك على ما يبدو. كان ثمّة هدف كبير شامل؛ تجميع أكبر قدر من الشباب المثقّف والقارئ والناقد والموهوب، ضمن مشهد ثقافيّ شابّ يعمل على النهوض بالمجتمع، وتقديم ثقافة فلسطينيّة وطنيّة حداثيّة بعيدة عن التقليد والأدلجة والقوالب الحزبيّة والدينيّة، وقد كان بالفعل كذلك.

كان الشباب حتّى زمن ليس ببعيد يسابقون الوعي، ويصنعون ظواهر تفوق في نضوجها الفكريّ والمعرفيّ الكثير من المشاهد الثقافيّة الفلسطينيّة والعربيّة الأخرى، بلا دعم مادّيّ ولا غطاء من "وزارة الثقافة" أو "اتّحاد الكتّاب" أو مؤسّسات وطنيّة أخرى، يؤسّسون ويحاربون في مناطق عسيرة كثيرة؛ إذ إنّ الحكومة في غزّة كانت تسعى إلى تفكيك هذا الجهد الثقافيّ، ومحاولة خلق بديل له طيلة الوقت، ومن ضمن ذلك جرّه إلى الصراع الحزبيّ، لكنّ ذلك لم ينجح لأنّ المشهد استطاع أن ينأى بنفسه عن هذا النوع من الصراعات، وناضل - مجتمعيًّا - في بعض القضايا الفكريّة والأيديولوجيّة، وعانى ضغوطات مجتمعيّة كثيرة، حتّى أصدر تنظيم متطرّف بيانًا دعا فيه إلى قتل الشعراء في غزّة!

لقد كنّا في سباق نحو الوعي والتمرّد على كلّ القوالب الصلبة، من دون انفصال عن واقع غزّة السياسيّ والمعيشيّ والاقتصاديّ، ولا عن الوضع المترهّل للقطاعات الثقافيّة التقليديّة فيها، وكذلك دون انفصال عن واقع الحرّيّات العامّة والخاصّة، وحرّيّة الرأي والتعبير المنتهكة.

 

لا جدوى

رويدًا رويدًا، وفي سياق من التحدّيات الموصوفة أعلاه، ومن ضمنها توفير مستلزمات العيش الأساسيّة، رحنا نستشعر اغترابًا، وتفكّكًا على مستوى الهموم الجمعيّة المتحوّلة إلى هموم فرديّة، وظهرت في كثير من النقاشات التّي ما زالت مستمرّة، مقولتان أساسيّتان: إحداهما حول الخلاص الفرديّ، والثانية أنّ الثقافة مسألة ذاتيّة.

يُعَرَّف الاغتراب بأنّه اللّاانتماء، أو الانسلاخ عن الجماعة وعدم الشعور بالالتزام تجاه قضاياها، إلّا أنّ ما عاناه المشهد الثقافيّ في غزّة كان أقسى من الاغتراب... إنّه اغتراب على نقيض الوعي؛ حيث السباق نحو الأوّل صار سبّاقًا نحو الثاني، ليسود لدى الجيل الشابّ الصانع والمؤسّس لهذا المشهد شعور بـ "لا جدوى" ما يقوم به ويقدّمه، ولا سيّما أنّ المجتمع الكبير الّذي يدافع الفاعلون الثقافيّون عن حقوقه وحرّيّاته ينتقدهم بلا رحمة، ولا يسعى إلى تطوير جهودهم واستثمارها، حتّى بتنا اليوم نرى كلّ ذلك منعكسًا في التراجع الكبير للفعل الثقافيّ، حدّ الندرة، بعد أن كنّا نكتب الفعاليّات في جدول كي نستطيع حضورها.

 

يرحلون

لقد مارس الاحتلال الإسرائيليّ دوره في طمس الفعل الثقافيّ في غزّة، بتدميره كلّ المراكز الثقافيّة، بدءًا من "قرية الفنون والحرف"، إلى "مسرح سعيد المسحال"، إلى "مركز عبد الله الحوراني للدراسات"، وغيرها، وهي الأماكن الّتي كانت تستوعب غالبيّة الجهود الثقافيّة التطوّعيّة الشابّة دون أجر، كما أنّ حكومة "حماس" مستمرّة في مساعيها لخلق مشهد مختلف عن المشهد الثقافيّ الشبابيّ المتشكّل في غزّة خلال العقد الأخير، بادّعاء أنّه لا يمثّل "الأفكار الحقيقيّة" للمجتمع الغزّيّ، وأنّه يروّج لأفكار دخيلة، وخلقها حالة من الصراع السياسيّ والأيديولوجيّ الواهم، وذلك يُضاف إلى أثر الحصار المفروض منذ عام 2006، والّذي يكرّس الشعور بـ "اللّاجدوى" و"الاغتراب" لدى الفاعلين الثقافيّين، الّذين راحوا يخرجون من غزّة واحدًا تلو الآخر.

قبل أيّام، رأيت شاعرًا مثقّفًا يبيع القهوة في أحد شوارع خانيونس... خجلت من أن أسلّم عليه، وشعرت بالإهانة والغضب، وقرّرت أن أكتب عن مشهدنا الثقافيّ الّذي فقدناه.

 

 

كريم أبو الروس

 

 

كاتب وباحث فلسطينيّ، من مواليد مدينة رفح جنوب قطاع غزّة، صدرت له رواية بعنوان "غريق لا يحاول النجاة"، عن دار خطًى للنشر والتوزيع. ينشر المقالات والدراسات في مختلف المنابر الفلسطينيّة والعربيّة.