حطّ عَ الويز

جانب من غابات القدس

.

سامي الآن، يمكنه الوصول إلى أيّ مكان بسهولة، لا مانع لديه من السفر ليلًا، إنّه يعرف مواضع كاميرات رصد السرعة، ويتجنّب استعمال الشوارع المزدحمة، ويعي تمامًا قيمة المسافة الّتي يمكن قطعها بعد ظهور علامة نفاد الوقود. يرى أنّ سفره أصبح أكثر أمانًا وسهولة، وعلى الرغم من سفره الكثير، إلّا أنّه يستمتع بالمناظر من حوله أثناء القيادة، وقد تعوّدت عيناه على رؤية المشهد ذاته يوميًّا، ليلًا ونهارًا. يقود سيّارته صباحًا باتّجاه الشرق، وتكاد الشمس تعميه من شدّتها، أمّا طريق عودته، فيمكنه أن يلخّص محاولاته العديدة الفاشلة، في التقاط صورة الغروب عند باب الواد.

في السهول تمتدّ كروم العنب وبجانبها شُيّدت معاصر نبيذ لمستوطنات سور القدس، وعلى رؤوس الجبال ترى آثار قُرًى ومعالم باقية

بعد قلاع الفرسان في اللطرون يتراءى له "بارك كندا" و"بارك أمريكا"، تبرّعًا يهوديًّا سخيًّا غُرس في الأرض وأنبت غابة، ومن ثَمّ تبدأ سلسلة جبال القدس تمتدّ شرقًا عن اليمين واليسار، تعلو وترتفع حتّى النبي صمويل، مكسوّة بصنوبرهم وسريّسنا، والزيتون يمتدّ في كلّ مكان، منه الكهل والرضيع، كأنّه "طابو" الوجود على هذه الأرض لمن ادّعى. وفي السهول تمتدّ كروم العنب وبجانبها شُيّدت معاصر نبيذ لمستوطنات سور القدس، وعلى رؤوس الجبال ترى آثار قُرًى ومعالم باقية، وآثار خراب حضارات سالفة تركت نقوشها، وحجارتها، وأنظمة ريّها، وأنماط حياة أخرى.

لكن سامي ليس من هواة الطبيعة، ولا تعنيه الغابات، ولا يهتمّ أصلًا بالتاريخ، ولا يعرف الفرق بين زيتوننا وزيتونهم، لكنّه يحبّ زيت الزيتون جدًّا، ويذهب بخطواته الثقيلة كلّ عام إلى المعصرة في الموسم لشرائه. لم يرث أرضًا ولا يمكنه شراء قطعة، لثمنها الباهظ أوّلًا، ولأنّ قريته استنفدت ما فيها من أراضٍ ثانيًا. يعمل سامي مدرّسًا للغة العبريّة في شعفاط، يسافر كلّ يوم ومجموعة من المدرّسين من قريته والمنطقة إلى القدس، ويتناوبون بينهم في السياقة؛ فعندما يشغّل سامي محرّك سيّارته، فإنّه قد اختار مسبقًا وجهةً على "الويز"، على الرغم من أنّه يعرف الطريق ويمرّ منها يوميًّا، كأنّ صوتًا في داخله يقول: "لا صوت يعلو فوق صوت الويز".

بعد أسبوعين، وُزّعت الشهادات على الطلّاب، وأُقيم حفل متواضع نهاية السنة الدراسيّة، وعلى غير عادة، قرّر سامي وزملاؤه الاحتفال بهذه المناسبة على طريقتهم. كانوا قد قرّروا النزول في الغابة على طريق العودة. وفي الجبال ذاتها الّتي يمرّ عنها يوميًّا في طريقه إلى العمل، تجوّل سامي وزملاؤه، تنقّلوا وساروا على أقدامهم بين أشجار الصنوبر ساعات عدّة؛ حتّى وصلوا قمّة مرتفعة، أكلوا واحتفلوا وقضوا وقتًا ممتعًا يسخرون من زميلهم رائد، مدرّس الجغرافيا الّذي يدرّس موضوعه بالطريقة القديمة الجافّة، فقط على الخريطة. ولم يروه يومًا قد رافق طلّابه في جولة أو رحلة ما؛ فقالوا: "هَيْ رائد أخذنا جولة يا أولاد!".

حينذاك، أدرك سامي أنّه وبكلّ بساطة لا يستطيع تشغيل "الويز" والبحث عن نقطة البداية! لا يستطيع فعل ما يفعله دائمًا عندما يحدّد وجهة، ولا يعرف أيّ اتّجاه عليه أن يسير

دقّت ساعة العودة، همّوا بالرحيل باتّجاهٍ ما من دون أيّ تنسيق، ظنًّا منهم أنّه سبيل العودة، بعد فترة قصيرة بدأ شعور الضياع ينتابهم، بدأ سامي يظنّ أنّهم ضلّوا طريق العودة إلى السيّارة، ولسوء حظّهم فإنّ ما تبقّى من شحن بطاريّة هاتف أحدهم قد نفد؛ لأنّ حفلة الشواء استهلكت كلّ قوّة ذاكرة الهاتف والبطّاريّة. حينذاك، أدرك سامي أنّه وبكلّ بساطة لا يستطيع تشغيل "الويز" والبحث عن نقطة البداية! لا يستطيع فعل ما يفعله دائمًا عندما يحدّد وجهة، ولا يعرف أيّ اتّجاه عليه أن يسير، وشمس تمّوز حارّة، والغابة تزداد كثافة بالأشجار، وعرقه يتصبّب منه. قفزت آلاف الصور إلى مخيّلة سامي وهو يقود سيّارته المكيّفة، متوجّهًا إلى طلّابه في القدس، أو عائدًا من عمله وقد أدّى رسالته مدرّسًا بضمير، تذكّر نشرات الأخبار في الصباح، والموسيقى في المساء، في "راديو أجيال".

لا يعلم سامي ماذا يفعل، ولا في أيّ اتّجاه يسير، ينظر حوله، ثمّ خلفه، يخطو إلى الأمام قليلًا، ثمّ يسارًا، يتسلّق هذه الشجرة، ويقفز عن تلك الصخرة ويقف، وكأنّه لم يتحرّك، وكأنّ كلّ الأشجار يشبه بعضه بعضًا، ولا شيء يشبه طريقه المفقودة. يُطلّ برأسه من هنا وهناك، يحاول أن ينصت، ربّما يسمع صوت الشارع، ليعرف في أيّ اتّجاه يذهب، لكن بلا جدوى. يحاول سامي التفكير في مخرج، ويقول: "من أين أتينا؟ هل تتذكّرون طريقنا؟ أيمكنكم رؤية السيّارة من بعيد؟ ألا تنتهي هذه الغابة؟ ألا من شوارع تحيط بها؟ ألا من بيوت أو ناس فيها؟ ألا توجد إشارات هنا وهناك؟ ما هذا الاستهتار؟ وأنا ما أحمقني! كيف أتوه هكذا؟".

تابعوا سيرهم ووجدوا شجرة صنوبر عملاقة، جلسوا بجوارها مُنهَكين. سامي يتصبّب عرقًا، رفع هدومه ومسح جبينه، كان بحوزتهم قليل من الماء والعصير. صرخ سامي: "أنا غاضب من نفسي! ليس لأنّنا ضعنا في الغابة، بل لأنّنا لا نعرف أين نحن، وإن سألونا بعدما تنتهي هذه القصّة، فماذا سنخبر الناس عن المنطقة الّتي ضعنا فيها ونحن لا نعرف حتّى اسمها؟ لم يعلم سامي ماذا يحيط بالغابة. أنّبه ضميره بشدّة على عدم اكتراثه المتواصل، ولو مرّة واحدة على مدار عامَين كاملين، سافر فيهما كلّ صباح إلى عمله، وعاد في المساء من الطريق ذاتها، مرّ من هذا الشارع محاطًا بهذه الجبال، لم يكترث ولو مرّة واحدة بفتح خريطة، أو بالبحث عن أطراف البيوت المعلّقة على أكتاف الجبال، أو لم يكلّف نفسه حتّى بسؤال زملائه، ولا أن يتذكّر حتّى ما كُتب على إشارات الشوارع، أو يتصفّح الإنترنت يومًا، ولا أن يفحص الخريطة في "الويز". أصبح سامي وزملاؤه بلا حيلة، والوقت يداهمهم والشمس تغرب، والصرصور الشهير يصدر صوته المزعج، مرحّبًا بدخول الغروب وبدء مرحلة الليل في الغابة.

"أتوجد كنائس بالقرب منّا؟ إذن، نحن قريبون من قرية ما، هيّا بنا نتّبع الصوت". ركضوا مسرعين تجاه الصوت، حتّى تبيّن لهم أنّها خراف، وهذه أجراس بعضها.

يقول ماهر مدرّس الرياضيّات، صديق طفولة سامي: "ماذا سنفعل؟ هل سنبقى هنا حتّى يطلع علينا الصبح؟ علينا العودة إلى المنازل!". بعد ما غابت الشمس ودخل الليل، تحوّلت الغابة إلى ظلام دامس، لم يستطيعوا رؤية أيّ شيء أمامهم، ولم يبقَ لهم خيار سوى البقاء حتّى الصباح. جميعهم ألقى اللوم على رائد مدرّس الجغرافيا؛ كيف لم يستطع إخراجهم من الغابة! لم يكن لومًا وحده، بل موجات غضب، وبدأ كلّ واحد منهم يفرغ عجزه وقلّة معرفته، وعلاقته المشوّهة بالطبيعة والمكان في وجه رائد، لكنّه لم يكترث إلى أصدقائه، بل قاده ذهنه إلى طلّابه، وفكّر في ما إذا ضاع طالب يومًا في غابة، فمن سيسبّ؟ مدرّس الجغرافيا؟ أم نفسه؟ أم والديه؟ استمرّوا على هذه الحالة حتّى غلبهم النعاس، وناموا تحت شجرة الصنوبر.

في الصباح، قال سامي: "ما هذا؟ إنّها أطول ليلة في حياتي، نمت واستيقظت عشرات المرّات، مقهورًا خائفًا خجولًا من نفسي"، ويضيف: "إنّ ما كسرني في الليل عدم قدرتي على التواصل مع المكان، يحدث أن يضيع الناس في الغابات، لكنّهم يفكّرون في طرق ليخرجوا، أمّا نحن فلم نستطع التفكير، كأنّي لست ابنًا لهذه البلاد! غريب عن الأرض، وكأنّها تعاقبني".

من بعيدٍ سمعوا أصوات أجراس، نفوا أن تكون هذه الأصوات منبعثة من كنيسة قريبة، فقال سامي: "أتوجد كنائس بالقرب منّا؟ إذن، نحن قريبون من قرية ما، هيّا بنا نتّبع الصوت". ركضوا مسرعين تجاه الصوت، حتّى تبيّن لهم أنّها خراف، وهذه أجراس بعضها. فرك سامي عيونه ليرى جيّدًا، إذ بطفل يحمل عصًا ويرعى الأغنام، ولا تكاد سنّه تتجاوز الـ 12 عامًا. ذُهل سامي عندما أيقن أنّ هذا الطفل يرعى قطيعًا ضخمًا برفقة كلب واحد؛ خجل أكثر فأكثر من نفسه، لكنّه تحامل على ذاته ورفع له يده من بعيد، وسأله: "من أين المخرج يا شابّ؟ أين الطريق؟"؛ أشار إليه الطفل وانصرف. تعجّب سامي من قدرة الطفل الراعي على تمكّنه الشديد من معرفة الجغرافيا والطبوغرافيا، على معرفة الوديان والطرق بكلّ بساطة، لم يحتج هذا الطفل إلى "ويز" لكي يصل، بل استخدم معرفته وما تعلّمه خلال تجربته، وما بناه من علاقة بالمكان.

أدرك سامي أنّه لا غنًى عن التجوال في الأرض ومعرفتها، بل أدرك أكثر فقدان علاقته بالمكان وما تعنيه من مصيبة لمربّي أجيال في سنّه، عندما شاهد مجموعة من الكشّافة العبريّة تخرج من قرية "بيت محسير" المهجَّرة

أدرك سامي أنّه لا غنًى عن التجوال في الأرض ومعرفتها، بل أدرك أكثر فقدان علاقته بالمكان وما تعنيه من مصيبة لمربّي أجيال في سنّه، عندما شاهد مجموعة من الكشّافة العبريّة تخرج من قرية "بيت محسير" المهجَّرة، مجموعة من الشباب يتزعّمهم شابّ في العشرينات وربّما أصغر، ويقودهم بين التلال والوديان. أحسّ سامي بغيرة لم يعرفها من قبل، غيرة لم يتوقّع أن تخدش قلبه يومًا. راح يفكّر وسط صخب في نفسه في ما تعنيه الأرض، وما يعنيه الوطن، وفكّر في كلّ ما تجاهله على مدار سنوات عدّة، حول علاقته بالمكان، وبالأساس حول كسله في التفكير والبحث والمعرفة.

وصل سامي إلى بيته، قبّل زوجته، وحدّثها عمّا حصل معه، ووعدها أنّه لن يضيع في بلاده مرّة أخرى...

 

* تنشر هذه المادّة ضمن ملفّ "محلّي"، بالتعاون مع حركة شباب حيفا.

 

خليل غرّة



يعمل مركّزًا للمشاريع في "جمعيّة الشباب العرب – بلدنا"، وهو مدير العمليّات والعلاقات المجتمعيّة في "صندوق روى"، صندوق المبادرات المجتمعيّة الفلسطينيّة المبدعة.