هل علينا أن نثق بما نقرؤه في الكتب؟

Cynthia Davis

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

ما علاقة "عبد الله الإرهابيّ" بياسر عرفات؟

قبل عامين ونصف، وتحديدًا، بُعَيد صدور كتابي "صديق نقطة الصفر" (2016)، أثار انتباهي أحد الأصدقاء الّذين قرؤوا العمل إلى ملاحظة مهمّة حول ما ورد في الكتاب. كانت النقطة تتحدّث عن مقطع في قصيدة مظفَّر النوّاب "عبد الله الإرهابيّ"، وكنت ربطت آنذاك هذا المقطع بمديح الشهيد ياسر عرفات. تساءل الرجل عن علاقة ما قاله مظفَّر النوّاب بالرئيس الراحل. وبعد نقاش مستفيض، تبيّن أنّني اعتمدت في تلك المقاربة على مكان حميميّ لم يقتضِ الدقّة البحثيّة في الذاكرة؛ إذ إنّ مظفَّر النوّاب لم يقصد ياسر عرفات في هذا المقطع، ظلّت هذه الملاحظة عالقة في ذهني، والملاحظة هنا لا تتوقّف عند حدّ تأنيب الضمير والذات، بل تتجاوزها إلى تلك المسؤوليّة الّتي يجب أن يتحلّى بها أيّ كاتب تجاه ما يكتب، وتجاه الحمولة المعرفيّة الكامنة في نصوصه.

في العام الماضي وحده، ظهرت أخطاء في كتب العديد من المؤلّفين البارزين - بمن فيهم نعومي وولف، والمحرّر التنفيذيّ السابق لصحيفة "نيويورك تايمز" جيل أبرامسون، والمؤرّخ جاريد دياموند، والعالم السلوكيّ و"خبير السعادة" بول دولان، والصحافيّ مايكل وولف، مؤلّف كتاب "نار وغضب"...

هذا النقاش تحديدًا قادني إلى حادثة مشابهة، حين ورد في إحدى الروايات الفائزة بجائزة عربيّة كبيرة، أخطاء في مواضع بعض المدن والمخيّمات الفلسطينيّة على الخريطة، خلط الروائيّ يومئذٍ مواضع تلك المدن، في رواية كان لأيّ عمليّة تَحقُّق ومراجعة بسيطة أن تتجنّب هذه الأخطاء الفادحة؛ نظرًا إلى حجم مقروئيّة الروايات الفائزة، والأضواء المسلَّطة عليها في الصحافة العربيّة.

 

تدقيق الحقائق

في مقالتها المنشورة في صحيفة "نيويورك تايمز"، تحت عنوان "إنّها حقيقة: الأخطاء تُحرج صناعة النشر"، تُثير الصحافيّة الأمريكيّة أليكساندر ألتر الانتباه إلى حالة الوثوق بما يُقرَأ في الكتب، وإلى أيّ مدًى يمكن الوثوق بكلّ معلومة، ولا سيّما في تلك الكتب المتحرّرة من النزعة البحثيّة والتوثيق المرجعيّ، ككتب الذاكرة والروايات. وتتساءل كاتبة المقال عن أهمّيّة وجود مدقّقي حقائق إلى جانب المحرّرين اللغويّين ومصمّمي الأغلفة، الّذين لا يتجاوز دورهم ضبط القواعد اللغويّة والتشكيلات النصّيّة، وتصميم الغلاف للكتاب، قُبَيل إرساله إلى دار النشر. وتتجاوز ألتر تساؤلها هنا إلى تحميل المسؤوليّة أيضًا لدور النشر، حول دورها في إجراء تدقيق حقائق حول المادّة الّتي ستتكفّل دار النشر بتبنّيها وطباعتها وتوزيعها، الّتي غالبًا ما تكون إجابتها عن أسئلة كهذه: "إنّنا نثق بمؤلّفينا".

تُشير المقالة المنشورة إلى أنّه، وفي العام الماضي وحده، ظهرت أخطاء في كتب العديد من المؤلّفين البارزين - بمن فيهم نعومي وولف، والمحرّر التنفيذيّ السابق لصحيفة "نيويورك تايمز" جيل أبرامسون، والمؤرّخ جاريد دياموند، والعالم السلوكيّ و"خبير السعادة" بول دولان، والصحافيّ مايكل وولف، مؤلّف كتاب "نار وغضب" الّذي أثار جدلًا واسعًا لحظة صدوره، وأشعلت أخطاء هؤلاء نقاشًا حول ما إذا كان يجب على الناشرين تحمّل مسؤوليّة أكبر عن دقّة كتبهم.

 

هل الكتب فوق المعركة؟

في مجتمع الناشرين، يتزايد الاهتمام بمسألة التدقيق في حقائق الكتب، بعد أن نشر مايكل وولف كتابه "حصار، ترامب تحت النار"؛ إذ سلّط صحافيّون حينذاك الضوء على العديد من الأخطاء في الكتاب، لكنّ التلقّف الكثيف للكتاب، نظرًا إلى حساسيّة المحتوى الّذي تناول رئيس الولايات المتّحدة بالنقد، جعل من أمر الموثوقيّة المعرفيّة أمرًا هامشيًّا.

محرّر "مجلّة كولومبيا ريفيو" وناشرها، قال في معرض نقاش جدليّة موثوقيّة المعلومة: "إذا كنت تكتب كتابًا مثيرًا للجدل عن بُعد، فسيكون هناك جمهور نشط يستثمر في تشويه سمعة المستهدفين". ويضيف: "إنّ الفكرة الّتي مفادها أنّ الكتب فوق المعركة، لا أعتقد أنّها ستستمرّ".

ناشر الكتاب - يُدعى هنري هولت - وقف إلى جانب وولف. قالت شركته في بيان لها للردّ على ملاحظات الصحافيّين: "قد يكون ثمّة تصحيحات طفيفة تستدعي إحداثها على الطبعات المستقبليّة؛ فإنّ ’دار هولت‘ ليس لديها أيّ خطط حاليًّا لتغيير أيٍّ من تصوّرات المؤلّف ومعطياته".

محرّر "مجلّة كولومبيا ريفيو" وناشرها، قال في معرض نقاش جدليّة موثوقيّة المعلومة: "إذا كنت تكتب كتابًا مثيرًا للجدل عن بُعد، فسيكون هناك جمهور نشط يستثمر في تشويه سمعة المستهدفين". ويضيف: "إنّ الفكرة الّتي مفادها أنّ الكتب فوق المعركة، لا أعتقد أنّها ستستمرّ".

تُورد المقالة حادثة في غاية الأهمّيّة؛ ففي كتابه الجديد "التحدّث مع الغرباء"، قدّم مالكولم جلادويل فرضيّة أنّ الشعراء "يمتازون بأعلى معدّلات انتحار بين مجموع السكّان"؛ أي ما يعادل خمسة أضعاف المعدّل العامّ للسكّان.

أثارت الإحصائيّة الواردة في الكتاب صدمة أندرو فيرجسون، الكاتب في صحيفة "الأتلانتيك" حول غرابة الإحصائيّة؛ وهو ما جعله يتتبّع المصادر ويتحقّق من المعطيات، ليجد أنّ الورقة استشهدت بكتاب صدر عام 1993، كتبه كاي ريدفيلد جاميسون، وهو عالم نفسانيّ استند إلى اكتشافات انتحاريّة لـ 36 فقط من كبار الشعراء البريطانيّين والإيرلنديّين، المولودين بين 1705 و1805. "بطريقة ما"، جرى إسقاط تحليل ضيّق جدًّا لعدد قليل من شعراء القرنين الثامن عشر والتاسع عشر خطأً على جميع الشعراء، وتضخيمه في كتاب لأغراض البيع والترويج.

 

مَنْ يجب أن يدفع؟

لم يتوقّف النقاش حول دقّة الحمولة المعرفيّة في الكتب عند حدود الأهمّيّة والإلزاميّة، بل تجاوز ذلك نقطة بالغة الأهمّيّة، تقف حائلًا أمام إلزاميّة تعيين مدقّقي حقائق للكتب المزمع نشرها، وهي عمليّة الاتّفاق حول مَنْ يجب أن يدفع مقابل عمليّة تستغرق وقتًا طويلًا ومُجهدًا في صناعة النشر ذات الهامش المنخفض. وتضرب هنا مثالًا حول الصحافيّ غابرييل شيرمان، الّذي دفع لاثنين من مدقّقي الحقائق مبلغ مئة ألف دولار، لتدقيق حقائق كتابه "أعلى صوت في الغرفة" عام 2014.

منذ عام 2014 إلى عام 2018، نمت إيرادات كتب البالغين الواقعيّة (غير الخياليّة) بنسبة 23%، الّتي تتطلّب مسؤوليّة أكبر تجاه حقائقها، بينما انخفضت عائدات كتب الخيال، المتحرّرة من الالتزام المعرفيّ، بنسبة 10%، وفقًا لـ "جمعيّة الناشرين الأمريكيّين"...

وتجلب المقالة النظر إلى ارتفاع مخاطر قلّة الموثوقيّة في المعلومات بشكل كبير، حين أصبحت صناعة النشر تعتمد بشكل متزايد على الأخبار السياسيّة، والمذكّرات، والكتب غير الخياليّة، لجني الأرباح. وتُشير هنا إلى أنّه منذ عام 2014 إلى عام 2018، نمت إيرادات كتب البالغين الواقعيّة (غير الخياليّة) بنسبة 23%، الّتي تتطلّب مسؤوليّة أكبر تجاه حقائقها، بينما انخفضت عائدات كتب الخيال، المتحرّرة من الالتزام المعرفيّ، بنسبة 10%، وفقًا لـ "جمعيّة الناشرين الأمريكيّين"، وهي مجموعة تجاريّة.

يقودنا الكلام هذا كلّه، إلى افتتاحيّة مقال أليكساندر ألتر نفسها مرّة أخرى: "في هذا العصر الّذي ابتُلينا فيه بالتزوير العميق، وحملات التضليل على مواقع التواصل الاجتماعيّ، ما زلنا نميل إلى الوثوق بما نقرؤه في الكتب؛ هل علينا أن نواصل ذلك؟".

 

 

أمير داود

 

 

كاتب وباحث في الشأن الثقافيّ من فلسطين. يكتب في منابر عربيّة وفلسطينيّة، صدرت له مجموعة نصوص سيريّة بعنوان "صديق نقطة الصفر".