"القوس" بعد 2019... إصرار على الاستمرار

من وقفة اجتجاجيّة ضدّ تعنيف وقمع المثليّين والمتحوّلين - حيفا

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة.
مَنْ لم يسمع عن "القوس" أو الحراك الجنسانيّ المتعلّق بالتعدّديّة الجنسيّة والجندريّة في فلسطين سابقًا؟ لا بدّ أن مرّ عليه الموضوع في العام الماضي؛ مع الأحداث الكثيرة العاصفة الّتي مررنا بها بصفتنا مؤسّسة، وقد غيّرت من عملنا وظهورنا، وتعاطي المجتمع الفلسطينيّ مع قضايانا بعد ما يقارب العقدين من العمل على قضايا التعدّديّة الجنسيّة والجندريّة في مختلف مناطق فلسطين.

نستعرض في هذا التقرير أبرز الأحداث الّتي مررنا بها العام الماضي، وأفكارنا حول استمرارنا بالعمل، بما فيها الأسئلة التنظيميّة الملحّة الّتي فرضت نفسها علينا، وكيف تعاملنا معها.

جزء كبير من هذه الأسئلة والإشكالات لم يكن سهلًا، مثل العام الّذي عشناه، إلّا أنّنا خضناها بكلّ ما فيها وما فينا. كتبنا من قبلُ في منصّات ومناسبات مختلفة عن الأحداث الّتي مررنا بها وعن قراءتنا لها، إلّا أنّنا نطرح في هذا الجزء القراءة "القوسيّة" التنظيميّة للمرّة الأولى.

 

عنف وملاحقة

كانت المواجهة الأولى الواسعة مع الشارع الفلسطينيّ عام 2019 في آذار (مارس)، عندما بادرت مجموعة من ناشطي "القوس" في مناطق مختلفة، إلى توزيع منشورات تعريفيّة في جامعات عدّة في فلسطين، حول قضايا التعدّديّة الجنسيّة والجندريّة، وكان للمبادرة صدًى واسع على صعيدَي النقاش في الجامعات والمجموعات الطلّابيّة، وتحديدًا في الحيّز الرقميّ، كما في وصول "القوس" مؤسّسةً، ومعرفة شرائح أوسع وأكبر لها.

احتدام النقاش وانتشاره بأوسع شكلٍ كان مع نهاية تمّوز (يوليو)، مع ظهور الأخبار حول طعن فتًى في مدينة تل أبيب، بالقرب من ملجأ لاجئين، يعيشون توجّهات جنسيّة وجندريّة مختلفة في ضائقة.

على الرغم من الوصول الكبير الّذي حقّقته المنشورات التعريفيّة تحت عنوان "بتعرف/ ي إنّو"، إلّا أنّه يمكننا القول إنّ النقاش ظلّ محصورًا بفئة الطلبة، مع وجود أصوات كثيرة داعمة، ومندّدة بالعنف الّذي أبداه الكثيرون تجاه المؤسّسة والناشطين والمبادرة، إلّا أنّ احتدام النقاش وانتشاره بأوسع شكلٍ كان مع نهاية تمّوز (يوليو)، مع ظهور الأخبار حول طعن فتًى في مدينة تل أبيب، بالقرب من ملجأ لاجئين، يعيشون توجّهات جنسيّة وجندريّة مختلفة في ضائقة.

شكّلت الحادثة صفعة للمجتمع؛ فمن جهة، أطفت على السطح الكثير من العنف تجاه أشخاص يعيشون توجّهات جنسيّة وجندريّة، وذلك من خلال التعليقات المسيئة والشامتة والمهينة، ومن جهة أخرى، وضعت النشاطين ومؤسّسات المجتمع المدنيّ الفلسطينيّة في موقف لا بدّ فيه من مواجهة العنف المجتمعيّ، وقول كلمة عالية ضدّه، وأخيرًا، شكّل وقوع الحادث في مدينة تل أبيب، تبديدًا للفرضيّة حول الأمان أو الحماية في مناطق دون الأخرى، ووضع نصب أعيننا حقيقة أنّ العنف موجود في كلّ مكان، ويلاحقنا جميعًا.

دفعت العوامل المذكورة جهات عديدة في المجتمع - بقيادة "القوس" - إلى تنظيم وقفة مندّدة بالعنف، ضدّ الأشخاص الّذين يعيشون توجّهات جنسيّة وجندريّة مختلفة في مدينة حيفا، كان عدد المشاركين فيها، والخطاب المطروح، والجدل الّذي أشعلته محطّة جديدة لـ "القوس"، ولظهور قضايا التعدّديّة الجنسيّة والجندريّة في فلسطين.

أدّت الخطوة العنيفة من جهاز الشرطة الفلسطينيّة، ومواجهتنا لها ببيانات وتصريحات وظهور إعلاميّ، إلى تحوّل قضايا التعدّديّة الجنسيّة والجندريّة إلى موضوع نقاش عامّ في المجتمع، وصل البيوت والجامعات وأماكن العمل والشوارع.

ما لبثنا أن نأخذ أنفاسنا من حادثة الطعن المؤسفة وما تلاها من عمل كبير، حتّى وجدنا أنفسنا في وسط زوبعة أخرى، بعد تصريح المتحدّث باسم الشرطة الفلسطينيّة بمنع أنشطة مؤسّستنا، وملاحقتنا والتحريض علينا. أدّت هذه الخطوة العنيفة من جهاز الشرطة الفلسطينيّة، ومواجهتنا لها ببيانات وتصريحات وظهور إعلاميّ، إلى تحوّل قضايا التعدّديّة الجنسيّة والجندريّة إلى موضوع نقاش عامّ في المجتمع، وصل البيوت والجامعات وأماكن العمل والشوارع.

على الرغم من الجانب الإيجابيّ الّذي يمكن أن نراه، ممّا حدث في أمر بيان الشرطة، إلّا أنّه يمثّل قمّة جبل الجليد فقط، بينما امتدّت تحت سطح الماء طبقات كثيرة ومتواصلة من الملاحقة والتحريض والتهديد، ابتداءً من ملاحقة مؤسّسات مجتمع مدنيّ بسبب علاقتها بنا، حتّى الاعتداء على أشخاص يعيشون توجّهات جنسيّة وجندريّة مختلفة، وصلت إلى اختطاف أشخاص من ناشطينا من أجهزة رسميّة تابعة للسلطة.

خلال فترة الملاحقة هذه، ولتكتمل دائرة العنف من جهات رسميّة وغير رسميّة؛ كان موضوع الاعتداء على أشخاص مثليّين ومتحوّلات، من قِبَل مجموعة من المعتدين، محطّ جدل جديد في الشارع، أعاد فتح الموضوع، ودعانا من جديد إلى قول كلمتنا وأخذ التدابير اللازمة، لتقويض أيّ حالات اعتداء جديدة، ومنع حدوثها أصلًا.

من جهة كنّا مُفعمين بإصرارنا على الاستمرار والظهور، ومُعبَّئين برفضنا لهذا العنف والقمع، إلّا أنّنا من جهة أخرى لم نغفل أمن المؤسّسة وناشطيها وأمانهم، وعدم تعريض أيّ شخص منّا للخطر

 

الأمان مقابل المواجهة

في خضمّ كلّ ما حدث، كان علينا التعامل مع الكثير من الأسئلة والخيارات والتوتّرات، الوليدة الأحداث الكثيرة الّتي مررنا بها. أولى هذه المسائل الّتي كانت بحاجة إلى قدرة كبيرة على التوفيق والتعامل، كانت المعضلة المتمثّلة بثنائيّة الأمان مقابل المواجهة؛ فمن جهة كنّا مُفعمين بإصرارنا على الاستمرار والظهور، ومُعبَّئين برفضنا لهذا العنف والقمع، إلّا أنّنا من جهة أخرى لم نغفل أمن المؤسّسة وناشطيها وأمانهم، وعدم تعريض أيّ شخص منّا للخطر.

من البدهيّ بالنسبة إلينا أنّ وجودنا كناشطين في الوضع الّذي نعيشه - بوجود منظومة استعمار استيطانيّ عنيفة، وسلطة حكم ذاتيّ تابعة لها وقامعة، إضافة إلى منظومة مجتمعيّة عنيفة وإقصائيّة تجاه الاختلاف الجنسيّ والجندريّ - يمثّل خروجًا من دائرة الأمان والراحة؛ فكوننا نجابه على أصعدة عدّة أجهزة القمع الجنسيّ والرأسماليّ والاستعماريّ، يعني انكشافنا أمام احتمالات عديدة لقمع محتمل، وهذا ما يدفعنا إلى القيام دومًا بأقصى ما يمكن من أجل ضمان أقلّ قدر ممكن من الخطر الّذي قد نتعرّض له.

ما الّذي سيضمن عدم وقوع اعتداءات، إذا أقمنا وقفة مندّدة بالعنف ضدّ الأشخاص الّذين يعيشون توجّهات جنسيّة وجندريّة مختلفة؟ وكيف سيكون تصرّف سلطات الاستعمار، مع إصرارنا على رفع العلم الفلسطينيّ في مدينة حيفا المحتلّة؟ أو ما السيناريوهات الأسوأ إذا استمرّت الشرطة الفلسطينيّة بملاحقتنا والتضييق على أنشطتنا في رام الله؟ وكيف نتعامل مع التزامنا بالاستمرار مقابل التزامنا بضرورة حماية أنفسنا؟

ما الّذي سيضمن عدم وقوع اعتداءات، إذا أقمنا وقفة مندّدة بالعنف ضدّ الأشخاص الّذين يعيشون توجّهات جنسيّة وجندريّة مختلفة؟ وكيف سيكون تصرّف سلطات الاستعمار، مع إصرارنا على رفع العلم الفلسطينيّ في مدينة حيفا المحتلّة؟

أسئلة كهذه تتعلّق بأماننا وحمايتنا، دائمًا تكون في البال مع العمل، ونرى أنّنا نجحنا في التوصّل إلى موضع معقول ضمن هذه الثنائيّة، من خلال خبرتنا على الأرض في المقام الأوّل، وفهمنا السياسيّ للأمور في المقام الثاني؛ إذ حاولنا دومًا تقدير الوضع من حيث جهوزيّة الزمان والمكان وسياقهما للحدث أو الفعاليّة أو الخطوة المزمع عقدها، كما عملنا جاهزين على تعزيز الدعائم الداخليّة للمؤسّسة، من خلال بناء أرضيّة صلبة فكريًّا وأمنيًّا للناشطين، عن طريق ورشات ونقاش دائم ومستمرّ حول التدابير اللازمة للأمن والأمان.

 

محاصرة الحلفاء والأصدقاء

انعكست المعضلة هذه على أوجه عدّة من العمل، كان أبرزها العمل مع الشركات والحلفاء من مؤسّسات ومجموعات وحتّى أفراد، فبعد سنوات طويلة من العمل الأهليّ والسياسيّ، أثبتت "القوس" نفسها مؤسّسةً فلسطينيّة لها اعتبارها في المجتمع المدنيّ الفلسطينيّ، حين انعكس ذلك بوضوح عندما رأينا أربعة بيانات وقّعتها ما يزيد على خمسين مؤسّسة، تضامنًا مع "القوس" ورفضًا لملاحقتها، إضافة إلى ما هو خلف الكواليس من مئات الساعات التدريبيّة واللقاءات والتعاونات مع مؤسّسات أخرى مختلفة.

إلّا أنّ هذه الشراكات والمؤسّسات الصديقة كانت هي الأخرى عرضة للملاحقة والخطر أصلًا، أوّلًا بسبب الجوّ السياسيّ والأمنيّ العامّ، الّذي يأخذ منحًى أكثر تضييقًا وعنفًا على مؤسّسات المجتمع المدنيّ الفلسطينيّة والدوليّة، سواء أعَلى علاقة بـ "القوس" كانت أم لا؛ وهو ما يقوّض عمل المجتمع المدنيّ بعامّة، وثانيًا لأسباب تتعلّق مباشرة بالعمل مع "القوس" والتعاون معها.

وضعت هذه الحالة المؤسّسات الصديقة والحليفة أمام أسئلة سياسيّة وتنظيميّة عدّة، ما بين الإيمان بأهمّيّة العمل معنا والالتزام به، مقابل "نجاتها" هي الأخرى في ظلّ الجوّ السياسيّ الحاليّ.

 

تعدّدت أسباب المساءلة وفقًا للعلاقة بـ "القوس"، ابتداءً من بيع إنتاجاتنا أو توزيعها، مثل كتيّب كوميكس "ترويحة"، الّذي وزّعناه على مكتبات ومؤسّسات مختلفة حول الوطن، حتّى توفير مساحة لإقامة لقاءاتنا وفعاليّاتنا بشكل طبيعيّ.

وضعت هذه الحالة المؤسّسات الصديقة والحليفة أمام أسئلة سياسيّة وتنظيميّة عدّة، ما بين الإيمان بأهمّيّة العمل معنا والالتزام به، مقابل "نجاتها" هي الأخرى في ظلّ الجوّ السياسيّ الحاليّ.

 

أصياد ثمينة لإسرائيل

إضافة إلى ما سبق، كان الشبح الّذي يقف في خلفيّة كلّ ما حدث، يقتنص الفرص ويرمي شباكه، بأصياد قد تبدو ثمينة له، شبح يتمثّل بمنظومة الغسيل الورديّ الإسرائيليّة الاستعماريّة؛ إذ تتعزّز هذه السياسات في العادة مستغلّةً العنف الّذي نتعرّض له بصفتنا  كويريّين فلسطينيّين، مضاعِفةً إيّاه، لتغدو السهام المسلّطة علينا من كلّ جانب.

شكّلت الأحداث في المناطق المختلفة من فلسطين مادّة ممتازة للدعاية الإسرائيليّة حول نفسها وحول الفلسطينيّين، وعزّزت أيضًا منظومة عمل المؤسّسات الإسرائيليّة داخليًّا، الّتي استطعنا هذا العام فهمها بشكل أفضل، وملاحظة التغييرات عليها في ما يخصّ خلق أسطورة الحماية الإسرائيليّة.

شكّلت الأحداث في المناطق المختلفة من فلسطين مادّة ممتازة للدعاية الإسرائيليّة حول نفسها وحول الفلسطينيّين، وعزّزت أيضًا منظومة عمل المؤسّسات الإسرائيليّة داخليًّا، الّتي استطعنا هذا العام فهمها بشكل أفضل

وعلى الرغم من السياسات الاستعماريّة الخبيثة، كان لنا الفرصة هذا العام لإيصال رؤيتنا السياسيّة؛ بطرح تصوّرنا حول معنى التحرّر الّذي نريد ونحبّ، على مدًى واسع، وإتاحة رؤيتنا حول الربط بين القضايا المختلفة النسويّة والكويريّة والمناهضة للاستعمار، وهو ما شاهدنا أثره في حراكات ومجموعات أخرى أخذت بالنهج التقاطعيّ والفهم الشامل للسياسة.

أنتجت السياسات الاستعماريّة في فلسطين منذ عقود، ديناميكيّات وتقسيمات داخل المجتمع الفلسطينيّ نفسه وبين الفلسطينيّين؛ ففي حين نرى في "القوس" فلسطين وحدة واحدة لا تتجزّأ، انطلاقًا من الحقّ التاريخيّ ورفضًا للظلم الاستعماريّ فيها، تصاعدت العام الماضي توتّرات تتعلّق بالتقسيمات المناطقيّة في فلسطين، خاصّة مع الازدياد في تنوّع الخلفيّات الجغرافيّة لناشطي "القوس" وقيادتها، من الجولان السوريّ المحتلّ شمالًا، مرورًا في شفا عمرو وحيفا ويافا ونابلس ورام الله.

تعلّمنا منذ سنوات من خلال تجربتنا في العمل، أنّ العنف موجود في كلّ مكان وبأشكال مختلفة، ثمّ إنّ التعامل مع السياقات المختلفة لا يكون وفقًا للتقسيمة الاستعماريّة المتمثّلة بـ 48/67، بل إنّ كلّ منطقة بحاجة إلى فهمها والعمل ضمن محدوديّاتها وإمكانيّاتها؛ فرام الله مختلفة عن نابلس، وحيفا مختلفة عن الناصرة وهكذا.

رفضنا في "القوس" منذ تأسيسنا، العملَ مع الحكومات والأجهزة الرسميّة بشكل مبدئيّ، وما زلنا لا نعترف بشرعيّتها، إلّا أنّ الواقع في بعض الأحيان يجبرنا على اللعب داخل قواعد النظام نفسه.

 

 

كيف نعمل ضمن أنظمة لا نعترف بشرعيّتها؟

أمّا السؤال الأخير الّذي يرافقنا منذ سنوات، إلّا أنّه ظهر بشدّة ضمن الأحداث المشتدّة العام الماضي، فهو كيفيّة العمل والتحرّك سياسيًّا وقانونيًّا ضمن أنظمة لا نعترف بشرعيّتها أصلًا، إن كان النظام الاستعماريّ أم سلطة الحكم الذاتيّ التابعة له.

رفضنا في "القوس" منذ تأسيسنا، العملَ مع الحكومات والأجهزة الرسميّة بشكل مبدئيّ، وما زلنا لا نعترف بشرعيّتها، إلّا أنّ الواقع في بعض الأحيان يجبرنا على اللعب داخل قواعد النظام نفسه.

نتعلّم دائمًا مع الوقت فنّ التعامل مع الواقع، ونتّجه نحو أفضل الممكنات الموجودة، لكن نحرص دومًا على ألّا يطغى التكتيك الضروريّ للفعل على الإستراتيجيّات الأكبر - الّتي نستقيها من الواقع أساسًا - أو على الأيديولوجيا والفكر التحرّري الّذي نحمله.