تصميم الخوف: عناصر جماليّة في السحر والشعوذة

"الحجاب"، أحد أشكال صناعة السحر في المجتمعات العربيّة

 

توتّر وجاذبيّة

ممّا لا شكّ فيه أنّ ثمّة توتّرًا ما، حاضرًا في موقف بعضنا تجاه السحر والشعوذة، في تعاطينا مع بعض التيّارات الدينيّة من جهة، ومع المنهجيّة العلميّة والمشاهدة من جهة أخرى. لا نستطيع إنكار وجود الكثير من النصوص الدينيّة الّتي تشير إلى وجود عالَم فوق طبيعيّ، يحوي ظواهر مثل كسر قوانين الفيزياء والمنطق، وتسخيرها لرغبات بعض البشر. وفي هذه النصوص ذِكر لظاهرة السحر الّتي بالإمكان تعريفها بمجموعة من العمليّات، الطلسميّة والمبهمة بشكل عامّ، قد تؤدّي إلى نتيجة معيّنة ترضي الفاعل، مثل تحصيل حاجات أو إيذاء أشخاص آخرين بسُبُل غير مرئيّة وغير محسوسة.

لا نستطيع إنكار وجود الكثير من النصوص الدينيّة الّتي تشير إلى وجود عالَم فوق طبيعيّ، يحوي ظواهر مثل كسر قوانين الفيزياء والمنطق، وتسخيرها لرغبات بعض البشر

في المقابل، في عصر العلم والتواصل الاجتماعيّ العالميّ السريع، كان بعضنا يتوقّع أن تصلنا فيديوهات توثيقيّة لقوّة هؤلاء السحرة أو أصحاب القوى فوق الطبيعيّة، أو على الأقلّ فحصهم تحت المجهر العلميّ، إن كان في حقل العلوم النفسيّة أو اللاهوت، لكن ما من أدلّة واضحة ودامغة على وجودهم، باستثناء بعض فيديوهات "اللبس" (وهي ظاهرة تختلف تمامًا)، أو الكاميرات الخفيّة الّتي "تفضح" المشعوذين. على الرغم من شُحّ الأدلّة العلميّة على حقيقة السحر، إلّا أنّ له جاذبيّة خاصّة للكثيرين من مجتمعاتنا، ومجتمعات أخرى حول العالم، وثمّة ما يكفي ممّن يتعاملون ويتداولون به، إلّا أنّه بالإمكان ادّعاء وجود أسواق كاملة تختصّ بالسحر والشعوذة، وأموال طائلة من ورائها.

 

"فلان عِملولُه عَمَل!"

من ذكريات الطفولة الّتي زرعت فيّ الريبة والخوف، كان العثور على قُصاصات ورق في جرّة داخل دار أحد الأقارب، وقد اتّضح أنّها "حجابات"؛ وهي شكل كم أشكال صناعة السحر. من أكثر ما فاجأني، وأنا طفل شاهد على سلسلة الأحداث هذه، ذعر البالغين، أذكر أنّني لم أُعِر في البداية اهتمامًا زائدًا لتلك القُصاصات، لكنّي بدأت بإعادة الحسابات والتفكير، حين رأيت الخوف والتوتّر الشديد في وجوه الأهالي والكبار.

قد يكون الخوف هو العاطفة المحوريّة لفهم شيوع ظاهرة السحر وازدهارها. قد يُخطئ البعض في اعتقاده أنّ الخوف ردّة فعل غريزيّة لا غير، في حين أنّ في الواقع للخوف قابليّة للاكتساب والتعلّم، والتقوية أو الإضعاف. لو كان الخوف ردّة فعل غريزيّة فقط لاجتمع البشر على الخوف من أمور ثابتة مشتركة، وهي حال مغايرة لواقعنا الّذي فيه نرى فلانًا يخاف من العناكب، في حين صديقه يخاف من المرتفعات؛ أي أنّ لكلٍّ منّا مخاوفه الخاصّة وبدرجات متفاوتة. من هنا فلا بدّ من وجود أسباب مادّيّة سيكولوجيّة من وراء خوفنا من "قُصاصة الورق" تلك، وبالضرورة بالإمكان تفكيكها إلى عوامل جماليّة (إستيطيقيّة) تحاكي تاريخنا مع عاطفة الخوف.

لكلٍّ منّا مخاوفه الخاصّة وبدرجات متفاوتة. من هنا فلا بدّ من وجود أسباب مادّيّة سيكولوجيّة من وراء خوفنا من "قُصاصة الورق" تلك، وبالضرورة بالإمكان تفكيكها إلى عوامل جماليّة.

الطلسميّة والتدنيس

إذا أردنا وصف مشهد كلاسيكيّ لـ "عَمَل" أو إنتاج سحر، فالعامل الأوّل الّذي يظهر هو استخدام الرموز الطلسميّة غير المفهومة، الّتي عادةً تحوي أقسامًا من نصوص مقدّسة بصورة مشوَّهة أو معكوسة. لماذا يستخدم الفاعل هذه الطريقة الغريبة في انتقاء الرموز؟ وما المريب فيها؟ إذا وضعنا عدسات سيكولوجيّة – اجتماعيّة - يمكن تفكيك هذه الرموز إلى مركّبَين من شأنهما خدمة هدف تشكيل الخوف عند الناس: الأوّل هو الطلسميّة، الّتي تجعل المتلقّي أو المشاهد يعتقد أنّ هناك ما لا يفهمه، أو ما لا يقوى على فهمه؛ فالإحساس بالجهل شكل من أشكال فقدان السيطرة، الّذي يقع على نفس محور الخوف من الظلام أو من الأماكن المعزولة والضيّقة.

أمّا العامل الثاني المساهم في تكوين الخوف فهو فكرة التدنيس. ما هو التدنيس؟ هو العبث بالقدسيّة والمكانة، وهو القطب البعيد من التصرّفات المناقضة للعقد الاجتماعيّ. عندما يستخدم شخص ما آيات أو نصوصًا مقدّسة بسياق غير مقدّس، أو حتّى بسياق نقيض للمقدّس، فإنّه يوصل إلى المشاهد رسالة ضمنيّة تعلن عدم وجود أيّ خطوط حمراء؛ وهذا يجعل المشاهد يشعر بعدم وجود أيّ قوانين أو أخلاقيّات للّعبة؛ وهو ما يغذّي الشعور بالتهديد الحتميّ والكونيّ، فيصبّ في جدول عاطفة الخوف والذعر.

 

توظيف القبح

من أكثر ما يُقزّز في ظاهرة السحر والحجابات، توظيف الموت فكرةً وتجسيدًا... قد يستخدم بعض المشعوذين المقابر والجثث والجِيَف كبيوت لقُصاصات الورق المدعوّة بـ "حجابات"؛ بمعنى أنّ بعضهم ينبش القبور وسكينتها ليخزّن فيه "عَمَله"، وبعضهم يستخدم جثث الحيوانات.

يجب ألّا نتغاضى عن "عالميّة" هذه الظاهرة؛ فهي موجودة في حضارات وديانات عديدة ومتنوّعة، وفي قبائل معزولة غير حضريّة، وبمشاهدة عرضيّة لها، ثمّة نمطيّة واضحة لاستخدام عامل الموت والجثث.

بعد تنحية الشعور بالغثيان والقشعريرة، يمكن مشاهدة نمطيّة واضحة جدًّا في خطّة التخويف والتفزيع لصاحب العَمَل؛ فهذا التصميم يحاكي المخاوف الغريزيّة الموجودة بجميع الثقافات والمجتمعات، وهي الخوف من الموت والمرض. باختيار الفاعل ساحة المقابر والجثث؛ فإنّه يريد ربط ظاهرة قُصاصات الورق هذه بالموت أوّلًا، وثانيًا بالجثث والمرض والروائح الكريهة والمَشاهد الفاسدة؛ أي كلّ ما نتجنّبه ونبغضه فسيولوجيًّا وغريزيًّا في حياتنا اليوميّة. بهذا، يدخل لاعب قويّ جدًّا وعالميّ إلى معادلة الخوف الّتي أُتقِنت وشُحِذت عبر العصور والثقافات المختلفة، وهنا يجب ألّا نتغاضى عن "عالميّة" هذه الظاهرة؛ فهي موجودة في حضارات وديانات عديدة ومتنوّعة، وفي قبائل معزولة غير حضريّة، وبمشاهدة عرضيّة لها، ثمّة نمطيّة واضحة لاستخدام عامل الموت والجثث، بشكل عابر للثقافات.

 

توريث الخوف

إضافة إلى العوامل أعلاه، ولتَكمل الصورة تمامًا، قد يدّعي البعض أنّ ثمّة شريحة صغيرة من الناس منكشفة على عالم السحر والشعوذة، ولا سيّما حين يكون المجتمع مدنيًّا مبنيًّا على أسس العلم والحداثة؛ ولهذا فمن المفاجئ حضور الظاهرة في هذا النوع من الحياة الجمعيّة.

فعلًا، ممّا لا شكّ فيه أنّ ظاهرة السحر والشعوذة تزدهر في بيئة تنتقص لسيادة القانون، وتفتقر إلى العلم والثقافة والانفتاح، إلّا أنّ الخوف منها لا يزال موجودًا بقدرٍ ما، حتّى في أروقة الجامعات والأكاديميا.

لربّما من أفضل ما يربط بين الخوف المبرَّر، النابع من الشهادة على السيرورة اللعينة لإنتاج الحجابات أو السحر، وبين شخص مستقلّ لم يرَ قُصاصة ورق كهذه في حياته، هو الخوف المكتسب من ردود فعل البيئة والموروث عن الأجيال السابقة. ظاهرة "توريث" الخوف ظاهرة مرصودة في العلوم الاجتماعيّة والأحياء وغيرهما. إنّ التوتّر الحاضر في الحديث عن ظاهرة السحر، مثل الوباء الّذي يتفشّى بين كلّ مَنْ هو حاضر في مساحة الحديث؛ فحين يتلقّى طفل يسأل عن السحر وابلًا من التحذيرات والتعويذات، فإنّه يتعلّم بسرعة ونجاعة أنّ هذا الموضوع "طابو" مخيف وخطير.

التوتّر الحاضر في الحديث عن ظاهرة السحر، مثل الوباء الّذي يتفشّى بين كلّ مَنْ هو حاضر في مساحة الحديث؛ فحين يتلقّى طفل يسأل عن السحر وابلًا من التحذيرات والتعويذات، فإنّه يتعلّم بسرعة ونجاعة أنّ هذا الموضوع "طابو" مخيف

خلاصة الأمر...

من الصعب تحمّل فكرة وجود قوّة تتيح لأحدهم إيذاءنا، وتشظية كلّ ما هو مهمّ لنا، بمساعدة غيبيّات لا يمكن رصدها أو السيطرة عليها. في عالم كهذا، من المنطقيّ نسب كلّ ما يقتضي النقد الذاتيّ أو المجتمعيّ إلى مؤثّرات فوق طبيعيّة مؤامراتيّة، وهو ما يثبّط محاولات التقدّم، ويُجهض فلسفة اتّخاذ المسؤوليّة الناضجة على تحديد مصيرنا أفرادًا ومجتمعًا.

قد تكون قُصاصة الورق ذات الآيات المشوّهة والرموز الطلسميّة، الموجودة في أحشاء جثّة عصفور في جرّة أمام بيتنا، قد تكون أقلّ تهديدًا لكينونتنا، وأقلّ وقعًا سيّئًا على عالمنا، إذا ما فكّكناها إلى عواملها، وناقشناها بلا قيود، وبكلّ جرأة وصراحة، وليس فقط بأدوات دينيّة فقهيّة.

 

 

جاد قعدان

 

 

باحث ومدرّب وناشط. متخصّص في علوم الدماغ (بيولوجيا وعلم نفس)، وعلم النفس الإدراكيّ اللسانيّ. يدرس حاليًّا ضمن برنامج الدكتوراه في الدراسات الإدراكيّة اللسانيّة، في "جامعة تل أبيب". معلّم بسيخومتري منذ 2007، ومدرّب للدبكة التراثيّة الفلسطينيّة.