قيس فرّو... زمن واحد لرواية شعب وطائفة

المؤرّخ الراحل قيس فرّو (1944 - 2019)

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

قبل رحيل والدي، قيس فرّو، بستّة أيّام، وصلته النسخة الأخيرة من "دروز في زمن الغفلة - من المحراث الفلسطينيّ إلى البندقيّة الإسرائيليّة" (2019)، لمراجعتها قبل الطباعة. وصلت المادّة من دار النشر عبر البريد الإلكترونيّ. كنت جالسًا بجانبه، ومن شدّة انفعاله صاح والابتسامة تغمر وجهه الشاحب: "أخيرًا وصل الكتاب".

لقد كان سعيدًا للغاية، مثل الأمّ الّتي تعانق طفلها بعد فترة من الانقطاع. ومن شدّة تشوّقه، شرع مباشرة في قراءة السطور الأولى، لكنّه سرعان ما شعر بأوجاع المرض؛ عندئذٍ انهمرت الدموع فوق السطور، وامتزج الحزن بالأمل، فتنهّد وقال لي: "آه يا ولدي، أحتاج إلى أسبوع من العمل حتّى أُنجز المهمّة؛ فهل هذا ممكن وأنا على هذه الحال؟".

كتابته تطرح التاريخيّ وتعرضه للمتلقّي، حتّى يشارك ويطرح تأويلاته، وتجعل القرّاء أصحاب القرار، كلٌّ على حسب قدرته المعرفيّة، وحساباته، وثقافته، ومرجعيّته البيئيّة، وفكره السياسيّ، وكلّ واحد على قدره

بعد أقلّ من شهر على وفاته، أدركت أنّ قيس كان محظوظًا بوجود أصدقاء مخلصين له ولإنتاجه الفكريّ؛ فعندما سمع أصدقاؤه خبر وفاته، تركوا جميع أشغالهم والتزاماتهم، ليبذلوا جلّ جهدهم من أجل مراجعة الكتاب، وكنت قد ذكرت ذلك في كلمة الشكر في داخل الكتاب. لقد أراد هؤلاء الأصدقاء إعطاء أبي وكتابه الأخير حقّهما، من باب المسؤوليّة والحفاظ على العهد. ثمّ أسهم أصدقاؤه في إقامة حفل استذكار مهيب في دالية الكرمل، وبعدها جاءت ندوة مشرّفة أُقيمت في "متنزّه الحديد" في دالية الكرمل أيضًا، وهي الأولى ضمن سلسلة من الندوات البنّاءة الساعية إلى سبر أغوار المعرفة وغوص الغويص؛ فشكري وامتناني لكلّ مشارك شاركنا في حزننا، وكلّ مساهم ساهم في إصدار الكتاب، ومبادر إلى عمل من أجل حفظ رسالة قيس الفكريّة والإنسانيّة.

كلّ ندوة أو فكرة تُحيي ذكرى قيس، وتحفظ إرثه الثقافيّ، وتفيه حقّه العلميّ، تغرز فينا - عائلةً وأصدقاء - الثقة والأمل من جديد، وتُشعرنا بأنّ قيس فرّو موجود وباقٍ، وبأنّ قيسًا هو الماضي، وهو الحاضر، وسيبقى لنا في المستقبل.

 

وصفٌ يشبهه

عندما بدأت قراءة كتاب قيس الأخير، ازدادت قناعتي بأنّه يقدّم وصفًا يُشبهه، يمتزج فيه الماضي والحاضر والمستقبل، مكوِّنًا زمنًا واحدًا لرواية شعب وطائفة، وبأنّنا أمام مشروع ميلاد جديد يتمثّل بهذا الكتاب القيّم ليُضاف إلى إخوته السابقين: عشرات الكتب والمقالات العلميّة، لكنّ هذا الكتاب وُلد يتيمًا، ولن يشعر بلمسة الوالد.

كان مطّلعًا على مسائل معرفيّة (إبستيميّة) متعلّقة بالمعرفة التاريخيّة، وبمسائل منهجيّة متّصلة بطبيعة التاريخ، متبحّرًا بمدارس التاريخ الاجتماعيّ والاقتصاديّ والفلسفة التاريخيّة؛ ولنا عبرة في ذلك في كتابه "المعرفة التاريخيّة في الغرب: مقاربات فلسفيّة وعلميّة وأدبيّة"

منذ صدور كتاب والدي، أسمع تعليقات واتّصالات من محبّين، ومقدّرين ما أبداه الكتاب من شفافيّة وشجاعة في عرضه لسرديّته التاريخيّة، فليس بالغريب على قيس الباحث عن الحقيقة أن يطرح أسلوبه المعرفيّ بشكل واضح وسلس؛ فقد أوضح منذ البداية أنّ كتابه يعتمد على الأرشيفات الإسرائيليّة، وعلى مصادر أوّليّة أخرى، حذِرًا في طرحه وتعامله مع الأرشيفات، موضّحًا أنّها محكومة برغبات المشتغل فيها واهتماماته؛ فقد كان مطّلعًا على مسائل معرفيّة (إبستيميّة) متعلّقة بالمعرفة التاريخيّة، وبمسائل منهجيّة متّصلة بطبيعة التاريخ، متبحّرًا بمدارس التاريخ الاجتماعيّ والاقتصاديّ والفلسفة التاريخيّة؛ ولنا عبرة في ذلك في كتابه "المعرفة التاريخيّة في الغرب: مقاربات فلسفيّة وعلميّة وأدبيّة"، وكان مدركًا لمفهوم الخطاب، وأنّ الحوادث التاريخيّة قد تكون أوصافًا مصوغة بمفردات لغويّة، على شكل خطابات وسرديّات خاضعة لحقبة معرفيّة؛ ولنا عبرة في كتابه "ثقافة النهضة العربيّة وخطابات الهويّة الجماعيّة في مصر وبلاد الشام".

 

تحرّر من التبعيّة

الكتابة بالنسبة إلى قيس متعة للكاتب المتحرّر من التبعيّة الذهنيّة المهيمنة على عقول مَنْ يسطّرون الكلام، وهم يتوهّمون بأنّهم متحرّرون من سطوة السلطة الّتي جعلتهم يرون أنفسهم من منظار السلطة، فكيف هو الأمر مع الّذين تبعيّتهم الفكريّة قهريّة اضطراريّة؟ كما أنّه لم يكن أسير القوالب والمسارات الفكريّة والمساحات الأيديولوجيّة الضيّقة، لديه الاستعداد لخوض المعارك الفكريّة الطاحنة، ليُسطّر ساحاتها بقلمه. ولم ينحنِ لمركزيّة القوّة، في زمن أصبحت بعض كتابات مَنْ يدّعون المعرفة الأكاديميّة، من أصحاب القراءة الخاطئة، معضلةً في عمليّة مواجهة الشفافيّة الناصعة؛ فقيس يدرس الحالة ويحلّل الظاهرة، يحفر بأظافره مقلِّبًا حجرًا على حجر، لا يطرح النعوت أو يُوحي بالصفات، يعرف التمييز بين مستوى الاستهلاك المعرفيّ ومستوى الإنتاج المعرفيّ؛ فكتابته تطرح التاريخيّ وتعرضه للمتلقّي، حتّى يشارك ويطرح تأويلاته، وتجعل القرّاء أصحاب القرار، كلٌّ على حسب قدرته المعرفيّة، وحساباته، وثقافته، ومرجعيّته البيئيّة، وفكره السياسيّ، وكلّ واحد على قدره. وهو لا يطرح الكتابة من باب موقفه السياسيّ، وهذا لا يعني أنّه لم يكن يعي السياسة وخطابها؛ فقد أحبّ قيس لغة الخطاب والكلام، وأتقن لعبتها وخاض معاركها، وبرى أقواسها بقلمه وعرقه، مجتاحًا مقاصد المعرفة، حافرًا نقشه عليها، فيشهد التاريخ له غزوات ساحاتها. وعندما ترك قيس الدنيا لم يكن وحيدًا في ساحات ميدانها، فقد أحاطه العديد من أصحابه المؤمنين بمصداقيّته ونزاهته الأكاديميّة.

 

حوار بين الكاتب ومصادره

"دروز في زمن الغفلة - من المحراث الفلسطينيّ إلى البندقيّة الإسرائيليّة"، كتاب قائم على الحوار بين الكاتب ومصادره، مليء بالتحليل والمقاربات واستخدام القرائن، وفي بعض الأحيان يلجأ إلى المصدر الشفهيّ، من أجل المقاربة مع مادّة أرشيفيّة، وكلّ هذا مستوحًى من تحليل الكاتب وعمق تجربته ودقّة ملاحظته؛ وهذا ما ولّد منتوجًا متجانس العناصر وشائقًا، يشدّ القارئ إلى استكمال القراءة بشغف عظيم، ويُشعره بوجود السارد، كأنّه يقف أمامه وهو يروي ماضي حالة بشريّة مؤلمة: تاريخ شعب وطائفة وقرية.

كان يعي أنّ المؤرّخ المهنيّ لا يزعم أنّه يصف الأحداث كما حصلت في الماضي، لكنّه اجتهد لكي يطرح رواية تُشكّل بديلًا صادقًا عن الماضي، وكتب التاريخ وهو متحرّر من سطوة الخطابات

من خلال فهمه العميق لطبيعة المادّة الأرشيفيّة الّتي لا تختلف عن أيّ مادّة أخرى، سواء كانت مكتوبة أو شفويّة، فكلّ مادّة قابلة للتأويل، ومن خلال فهمه لطبيعة عمل المؤرّخ عند الكتابة التاريخيّة؛ لم يتعامل قيس مع مصادره بشكل مجرّد، دون استنباط معانيها، ودون مقاربتها بالحيثيّة الاجتماعيّة والاقتصاديّة، المقرونة بأفعال وتوجّهات الفئات والأشخاص الّذين ذكرتهم مصادره.

كان قيس يفهم الماضي والحاضر وتطوّرات الأحداث فيهما، على النحو الّذي يتفاعل معه وعيه وإدراكه؛ فقد كان يعي أنّ المؤرّخ المهنيّ لا يزعم أنّه يصف الأحداث كما حصلت في الماضي، لكنّه اجتهد لكي يطرح رواية تُشكّل بديلًا صادقًا عن الماضي، وكتب التاريخ وهو متحرّر من سطوة الخطابات والقوى الموجودة على الساحة، ولم يجعل من زمنه الحاضر اللاعب المتحكّم في كتابته، بخلاف معظم الّذين كتبوا في السابق عن الماضي المتخيَّل عند الدروز، طبقًا لتصوّرهم لحاضرهم، وطبقًا لإرادة صاحب السطوة؛ وهذا ما يجعل كتابه هذا مميّزًا عن كتب معظم المؤرّخين الّذين كتبوا تاريخ الدروز بشكل نمطيّ.

 

رواية تاريخيّة يملكها القارئ

لقد طرح قيس أمام القارئ رواية تاريخيّة متجانسة سلسة قائمة بذاتها، يتفاعل معها القارئ، وهذا ما جعلها ملكًا لقارئيها؛ تجعل القارئ مشاركًا فيها، ومتلقّيًا تمنحه فرصة المقاربة والتأويل، لتكتمل المعادلة بين الكاتب والقارئ والرواية في قالب واحد. وقد أراد في هذا الكتاب أن يلبّي حاجات جمهور القرّاء العريض، كي يتسنّى لكلّ طالب معرفة قراءته بسلاسة، وهو ما يميّز هذا الكتاب عن كتبه السابقة الموجّهة إلى جمهور ضيّق من المختصّين.

أراد قيس أيضًا أن يقدّم للعالم تاريخًا يليق بأبناء الطائفة الدرزيّة؛ فالكتابة التاريخيّة الصهيونيّة وغيرها لم تُنصف الدروز، وتعاملت معهم بشكل وظيفيّ، كأنّهم أدوات للنخب والقوى المهيمنة

أراد قيس أيضًا أن يقدّم للعالم تاريخًا يليق بأبناء الطائفة الدرزيّة؛ فالكتابة التاريخيّة الصهيونيّة وغيرها لم تُنصف الدروز، وتعاملت معهم بشكل وظيفيّ، كأنّهم أدوات للنخب والقوى المهيمنة، وُضعوا في قالب واحد؛ فعدم الإنصاف التاريخيّ نحو الدروز لا يستثني عمل بعض المؤرّخين العرب، الّذين تغاضوا عن إسهامات الدروز. ومن خلال تغيّب الدروز عن مشهد الرواية الفلسطينيّة ودورهم الوطنيّ، أسهم المغيّبون في بناء صيغة نمطيّة لا تعبّر عن طبيعة الدروز، وتصبّ في خندق الرواية الصهيونيّة.

والدي، كم هي عجيبة هذه الحياة! كيف استدارت بنا وبك، وجعلت بيننا وبينك جدارًا من سراب وخيال، تعلوه الحسرة ويُزنّرهالشوق؟ ذلك في الوقت الّذي كنتَ تطمح فيه دومًا إلى مناطحة السحاب، وتنشر بيننا العزيمة والإرادة والأمل.

 

 

 د. طارق قيس فرّو: محاضر في كلّيّة "عيمق يرزاعيل"، في موضوع الدراسات الإسلاميّة والشرق أوسطيّة.