يبدو مثقفًا

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

ليس من خلاف بين المفكرين حول وجود علاقة بين الثقافة وسلوك الناس في المجتمع، ومعظم الباحثين في المجال يتفقون مع إدوارد تايلر، على أن المعتقدات والأخلاق والعادات والفنون وغيرها من أشياء، يتعلمها الإنسان بوصفه فردًا في مجتمع هي مركبات ثقافية[1]. لكنهم يختلفون في ما بينهم، أولًا، حول تعريف الثقافة[2]؛ ليس فقط أنه ما من اتفاق حول تعريفها، بل نجد أيضًا مَنْ يقول إنه ليس لها تعريف علمي إلى الآن، وإن التعريفات المتداولة لا يصلح استخدامها لأغراض علمية[3].

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

فئة كبيرة أم نخبة رفيعة؟

وكذلك هو الأمر بالنسبة إلى المثقف، في محاولته للإجابة عن السؤال: هل المثقف فئة كبيرة جدًّا من الناس؟ أم نخبة رفيعة المستوى، وضئيلة العدد إلى أبعد حد؟ يعرض إدوارد سعيد، في "صور المثقف"، وجهتي نظر مختلفتين حد التناقض بالخصوص، تلك الخاصة بأنطونيو غرامشي، وتلك الخاصة بجوليان بِنْدا. يقول سعيد: "فالماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي، وهو المناضل والصحافي والفيلسوف السياسي اللامع، الذي سجنه موسوليني بين عامي 1926 و1937، كتب في ’دفاتر السجن‘ أن بإمكان المرء القول ’إن كل الناس مثقفون، لكن ليس لهم كلهم أن يؤدوا وظيفة المثقفين في المجتمع‘". وتشكل سيرة غرامشي ذاتها نموذجًا للدور الذي عزاه إلى المثقف؛ إذ كان - وهو العالم المتخصص في فقه اللغة - منظمًا لحركة الطبقة العاملة الإيطالية، وكان في كتاباته الصحافية أحد أكثر المحللين الاجتماعيين، المولَعين بالتأمل والتفكير عن وعي وإدراك، ولم يكن هدفه إنشاء حركة اجتماعية فحسب، بل أيضًا تشييد بنية ثقافية كاملة، مرتبطة بهذه الحركة.

هل المثقف فئة كبيرة جدًّا من الناس؟ أم نخبة رفيعة المستوى، وضئيلة العدد إلى أبعد حد؟ يعرض إدوارد سعيد، في "صور المثقف"، وجهتي نظر مختلفتين حد التناقض بالخصوص، تلك الخاصة بأنطونيو غرامشي، وتلك الخاصة بجوليان بِنْدا.

وهناك، على الطرف النقيض، ذلك التعريف الشهير من بِنْدا للمثقفين؛ بأنهم "عصبة صغيرة من الملوك - الفلاسفة، الذين يتحلون بالموهبة الاستثنائية وبالحس الأخلاقي الفذ، ويشكلون ضمير البشرية"[4].

أما سعيد، فيتخذ الموقف الوسط بينهما؛ ليس فقط فلاسفة أو من هم في مرتبتهم، بل طيف واسع من الناس، لكن ليس جميع الناس. يقول: "إن المثقف فرد له في المجتمع دور علني محدد، لا يمكن تصغيره إلى مجرد مهني لا وجه له، أو عضو كفؤ في طبقة ما لا يهتم إلا بأداء عمله؛ فالحقيقة المركزية بالنسبة إلي، كما أعتقد، هي أن المثقف وُهِبَ ملَكة عقلية لتوضيح رسالة، أو وجهة نظر، أو موقف، أو فلسفة، أو رأي، أو تجسيد أيٍّ من هذه، أو تبيانها بألفاظ واضحة، لجمهور ما، وأيضًا نيابة عنه. ولهذا الدور محاذيره، ولا يمكن القيام به من دون شعور المرء، بأنه إنسان مهمته أن يطرح علنًا للمناقشة أسئلة محرجة، ويجابه المعتقد التقليدي والتصلب العقائدي (بدل أن ينتجهما)، ويكون شخصًا ليس من السهل على الحكومات أو الشركات استيعابه"[5].

 

المعرفة والصلة مع الواقع

الآن، إذا ما نظرنا إلى ثلاثة المواقف هذه، فسنجد أنها تجتمع في أمرين اثنين: الأول، أنها ثلاثتها لا توافق بأن المثقف يكون منعزلًا عن الواقع، فحتى بِنْدا، الذي يبدو للوهلة الأولى وكأنه لا يشترط، أو لنقل: لا يفترض، وجود علاقة بين المثقف والواقع، إلا أن الشخصيات التي يذكرها، مثل فولتير ونيتشه ورينان، ليس أنها لم تكن منفصلة عن الواقع، بل كانت شديدة الارتباط به؛ وقد كان لكلّ منهم موقف مما يدور من حوله[6]، وهو الأمر الذي يُظهر بوضوح "أنه لا يوافق على الفكرة القائلة بوجود مثقفين منفصلين كليًّا عن العالم الواقعي، منصرفين بكليتهم إلى الاهتمامات الخيالية، مقيمين في أبراج عاجية، يعيشون في عزلة شديدة، ويكرسون حياتهم للموضوعات المبهمة، وربما حتى للمسائل الباطنية"[7].

المعرفة شرط ضروري، من دونها لا يكون الإنسان مثقفًا، لا يكون ولا أحد يعتبره كذلك. وقول غرامشي الشهير "إنه بإمكان المرء أن يقول إنّ كل الناس مثقفون، لكن ليس لهم كلهم أن يؤدوا وظيفة المثقفين في المجتمع"، لا يعني أنه يرى إمكانية لأن يكون الإنسان مثقفًا من دون معرفة

الثاني، أنها ثلاثتها ترى أن المعرفة شرط ضروري، من دونها لا يكون الإنسان مثقفًا، لا يكون ولا أحد يعتبره كذلك. وقول غرامشي الشهير "إنه بإمكان المرء أن يقول إنّ كل الناس مثقفون، لكن ليس لهم كلهم أن يؤدوا وظيفة المثقفين في المجتمع"[8]، لا يعني أنه يرى إمكانية لأن يكون الإنسان مثقفًا من دون معرفة؛ ففي "تشكل المثقف"، حيث يبحث غرامشي في ماهية المثقف ويقول جملته الشهيرة هذه، يتساءل فيما إذا كان المثقفون مجموعة مستقلة بذاتها، منفصلة عن الناس، أم أن كل مجموعة مجتمعية لها فئتها المتخصصة، المثقفة، الخاصة بها؟ وقد كانت إجابته بأن كل مجموعة، تأتي للوجود لأداء وظيفة أساسية في عالم الإنتاج الاقتصادي، تخلق معها واحدًا أو غير واحد من المثقفين الذين يجعلونها مجموعة متجانسة، ويمنحونها وعيًا لوظيفتها، ليس فقط في مجال الاقتصاد، بل في المجال الاجتماعي والسياسي أيضًا[9].   

 

المهارة

بل إذا ما التفتنا إلى الاسم "مثقف" في اللغة العربية، كما في اللغات الأخرى، نرى أنه يتضمن في معناه ما يشير إلى ارتباط المثقف بالمركب العقلي؛ المعرفة والموهبة:

ثقف: ثَقِفَ الشيء ثَقْفًا وَثِقافًا وَثُقوفَة: حَذَقَهُ. ورَجُلٌ ثَقْفٌ وثَقِفٌ وثَقُفٌ: حاذِقٌ فَهمٌ. ويقال: ثَقِفَ الشيء وهو سرعة التعلم. ثَقِفَ أيضًا ثَقَفًا مثل تَعِبَ تَعَبًا؛ أي: صار حاذِقًا فَطِنًا فهو ثَقِفٌ. وفي حديث الهجرة: وهو غلام ثَقِفٌ؛ أي: ذو فِطْنَة وذَكاء، والمراد أنه ثابِتُ المعرفة بما يحتاج إليه[10].

إذا أخذنا بعين الاعتبار أن معنى "حذق" هو المهارة في العمل، فسيكون المثقف، بالإضافة إلى مَنْ لديه القدرة على سرعة التعلم وضبط المعارف، هو الماهر في عمله، في كل عمل

ارتباط الاسم "مثقف" بالمعرفة، يجعله قريبًا من معنى الثقافة اليوم، ومن رأي سعيد بأن مجموعة من الناس، وليس جميعهم، مثقفون؛ فالسرعة في التعلم ليست خاصية للناس أجمعهم، ولا أنهم جميعهم ذو فطنة وذكاء. ورغم أن الاسم "مثقف" في اللغة العربية، يُحدد ما يجعل من شخص ما مثقفًا، إلا أنه لا يشير إلى فئة/ طبقة/ مجموعة أناس متجانسة، أي من ذات الجنس، بل إلى أفراد متفرقين، أو للدقة، يشير إلى مجموعة أناس مختلفين، يشتركون في صفة أنهم قادرون على سرعة التعلم وضبط معارفهم. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن معنى "حذق" هو المهارة في العمل، فسيكون المثقف، بالإضافة إلى مَنْ لديه القدرة على سرعة التعلم وضبط المعارف، هو الماهر في عمله، في كل عمل. للتأكيد، مجموعة متجانسة مثل أن نعرِّف الثقافة على أنها "مجموعة من الصفات الخلقية، والقيم الاجتماعية، التي تؤثر في الفرد منذ ولادته، وتصبح لاشعوريًّا العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي وُلد فيه"[11].

 

التصنيف وإنشاء الفئات

إن موضوع الاهتمام هنا، ليس تعامل العرب واشتغالهم المعرفي، ولا هو تبيين أنه ليس من نقيصة في كيفية وضعهم تعريفًا للمثقف. إلا أن التوقف عندهم، ولو قليلًا، وإظهار أن تحديدهم هذا لمعنى المثقف، كان من بين الطرق التي اتخذوها في تصنيف الظواهر وإنشاء الفئات، من شأنه أن يرفع عنهم شيئًا من الغموض، والأهمّ من هذا، من شأنه أن يسهل تحقيق الغاية من المقال هذا؛ التعرف على المثقف بين الناس من حولنا. للتأكيد؛ لقد اتبع العرب طرقًا مختلفة في التصنيف وإنشاء الفئات، ليس واحدة، إحداها تلك التي اتبعوها في تحديد المثقف.

لئلّا أطيل، وليس من متسع للإطالة، أقدم مثالًا يفيد بما أرمي إليه، من دون حاجة إلى كثير من التنظير: 

"كل ما عَلاك فأظلك فهو سماء ` كل أرض مستوية فهي صَعيد ` كل حاجز بين الشيئين فهو مَوْبِق ` كل بناء مربع فهو كعْبَة ` كل بناء عالٍ فهو صَرْح ` كل شيء دَبّ على وجه الأرض فهو دابة ` كل ما غاب عن العيون وكان مُحَصّلًا في القلوب فهو غَيْب ` كل ما يُسْتحيا من كَشْفِه من أعضاء الإنسان فهو عَوْرة ` كل ما امْتِيرَ عليه من الإبل والخيل والحمير فهو عِير ` كل ما يُستعار من قَدُومٍ أو شَفْرَةٍ أو قِدْرٍ أو قَصْعَةٍ فهو مَاعُون ` كل حرام قبيح الذكر يلزَمُ منه العار كثمن الكلب والخنزير والخمر فهو سُحْت ` كل شيء من مَتاع الدنيا فهو عَرَض ` كل أمر لا يكون موافقًا للحق فهو فاحشة ` كل شيء تصير عاقبته إلى الهلاك فهو تَهْلُكة ` كل ما هَيَجت به النار إذا أَوْقَدْتَها فهو حطب ` كل نازلة شديدة بالإنسان فهي قارعة ` كل ما كان على ساق من نبات الأرض فهو شَجَرٌ ` كل شيء من النخل سوى العَجْوَة فهو اللينُ واحدتُه لِينَة ` كل بستان عليه حائط فهو حديقة والجمع حدائق ` كل ما يصيد من السباع والطير فهو جارح والجمع جوارِح"[12].

الكلمة "ثقافة" عند العرب، لم تكن كما يقول زكي ميلاد وغيره "مجرد كلمة لغوية، ولم تتجاوز نطاق دائرة الكلمة الضيق والمحدود، كما يتحدد بدقة وصرامة في معاجم اللغة"، بل هي نتاج نظر وإعمال فكري ضمن عملية إنتاج معرفي

يعتمد التصنيف المتبع في إنشاء الفئات هذه، على استخلاص صفة تجمع بين أشياء مختلفة؛ فقد تكون الأرض، في "كل أرض مستوية فهي صعيد"، رملية وقد تكون ترابية وقد تكون صخرية، وجميعها عندما تكون مستوية فهي صعيد؛ وقد يكون الحاجز من خشب، وقد يكون من حديد، وقد يكون من مادة أخرى، وجميعها عندما تكون حاجزًا بين شيئين فهي مَوْبِق. تصنيف من النوع هذا، يتطلب تقسيم العالم إلى فئتين اثنتين لا ثالث لهما، إما وإما؛ إما أن الأرض مستوية وإما أنها ليست مستوية، فإن كانت مستوية فهي صعيد، وإن لم تكن فهي ليست صعيدًا. كذلك هو الأمر بالنسبة إلى سائر الفئات في هذا المثال، وكذلك هو الأمر بالنسبة إلى المثقف في "كل مَنْ لديه القدرة على سرعة التعلم وضبط معارفه، وكل ماهر في عمله فهو مثقف". فحينما نرغب في تصنيف الناس بين مثقف وغير مثقف، اعتمادًا على هذا التعريف، ستنشأ فئة من الناس، يختلفون من حيث أعمالهم ومجالات اهتمامهم، يشتركون جميعهم في صفة أنهم لديهم القدرة على سرعة التعلم وضبط المعارف، وصفة أنهم ماهرون في عملهم، وسيكون خارجها كل مَنْ لا يحمل هذه الصفات؛ وهو الأمر الذي يعني أن الكلمة "ثقافة" عند العرب، لم تكن كما يقول زكي ميلاد وغيره "مجرد كلمة لغوية، ولم تتجاوز نطاق دائرة الكلمة الضيق والمحدود، كما يتحدد بدقة وصرامة في معاجم اللغة"[13]، بل هي نتاج نظر وإعمال فكري ضمن عملية إنتاج معرفي، لها بنيانها وقواعدها المنطقية الخاصة، أهمها مبدأ عدم التناقض، الذي ينص على أنه من غير الممكن لشيء أن يحمل وألّا يحمل صفة بعينها، وفي الآن ذاته.

 

الصورة/ الشكل

المعرفة، والقدرة على التعلم، والمهارة في العمل، واتخاذ المواقف، جميعها مركبات يدرك الناس مدى أهميتها في تحديد صورة المثقف؛ فترى أن الذين يرغبون في أن يكونوا جزءًا من المشهد الثقافي، يحاولون قدر إمكانهم أن يتصفوا بها. وثمّة الصورة، أي كيف يبدو المثقف، وهو مركب في غاية الأهمية لمَنْ يرغب في الظهور على أنه كذلك؛ فتراه – فضلًا عن اكتساب المعرفة واتخاذ المواقف وتطوير المهارات، يحاول قدر إمكانه أن يأخذها لنفسه، مثل أن يترك لحيته تنبت على سجيتها، وأن يجعل من شعره جديلة، ولا ضير في ذلك.

غير أن ثمّة مَنْ يواجه بعض الصعوبات في الطريق، مثل أن الأمر يحتاج إلى الكثير من الوقت والجَلَد، وعليه أن يتحلى بالصبر ريثما يراكم بعض المعارف، أو أن يجد في القراءة شيئًا مملًّا، ويحتاج إلى جهد لا رغبة عنده في أن يبذله؛ فيقع هؤلاء في معضلة، في مأزق يصعب الخروج منه. من ناحية، إنه لشيء خاص، ويحظى بقدر كبير من الاحترام، في أن يكون الإنسان مثقفًا، ومن ناحية أخرى، يحتاج الأمر إلى بذل مجهود عظيم، وإلى كثير من الأشياء الأخرى.

وصل الأمر عند البعض إلى أن نفى مجرد إمكانية وضع تعريف للمصطلحات، للحداثة مثلًا، غير مدرك أنه بهذا يمنع منه مجرد إمكانية استخدام المصطلح، وأنه لولا وجود المعاني والتعريفات والاصطلاح عليها

لا يجد هؤلاء سوى اللجوء إلى الشكل وأشياء أخرى من مثله؛ فترى لحاهم نابتة، وشعورهم شعثاء في بعض الأحيان، وفي بعض الأحيان ترى لحاهم طويلة وشعورهم جديلة. وتراهم يكثرون من استعمال اللغة غير المفهومة، ومن استخدام مصطلحات لا يعرفون شيئًا عنها، لا تعريفه ولا مصدره ولا أسباب وجوده، مثل: ما بعد الكولونيالية، والحداثة، والتفكيكية، والبنيوية، بل ثمّة مَنْ يعتقد أنه بإضافته "ية" إلى آخر الكلمة، إلى أي كلمة، يجعلها مصطلحًا؛ فتكثر مفرداتهم وتتكاثر كما الفئران، ولا يعود ثمّة متسع لها، فنسمع: تقعيدية وتجليسية وتعقيدية وتدويرية، على وزن "تكعيبية" بيكاسو. وحين نسأل الواحد منهم عن المعاني وتعريف المصطلحات، نراه يلجأ إلى النسبية وأنه ليس من تعريف واحد محدد، وأن الأمر يتعلق بالأفراد وبزاوية النظر، من دون أن يعرض فهمه. وقد وصل الأمر عند البعض إلى أن نفى مجرد إمكانية وضع تعريف للمصطلحات، للحداثة مثلًا، غير مدرك أنه بهذا يمنع منه مجرد إمكانية استخدام المصطلح، وأنه لولا وجود المعاني والتعريفات والاصطلاح عليها، ما كان من الممكن أن نقول شيئًا حتى لأنفسنا، لا جميلًا ولا قبيحًا. بل إن الاجتماع أن يَسْكُن الناس جماعات جماعات، مشروط بتحديد المعاني والتعريفات، وبالاصطلاح عليها.

 

الاستسهال

ثقافة الاستسهال هذه، لا يقتصر انتشارها على وسائل التواصل الاجتماعي، ولا على فئة واحدة من الناس؛ فجملة غرامشي الشهيرة تلك، "أن كل الناس مثقفون، لكن ليس لهم كلهم أن يؤدوا وظيفة المثقفين في المجتمع"، لا يكاد كتاب يبحث في موضوع الثقافة يخلو منها، لكنّ المؤلفين، جميع هؤلاء الذين صادفتهم ومن دون استثناء، أخذوا قول غرامشي هذا من كتاب "صور المثقف" لسعيد؛ وهو ما يفيد بأنهم لم يقرؤوا غرامشي، بالطبع لم يقرؤوا الفصل المُعَنْوَن بـ "تشكل المثقف" في مؤلفه "دفاتر السجن"، حيث يذكر جملته هذه؛ فلو أنهم قرؤوه ما احتاجوا إلى اقتباسه عن سعيد.

ليس من اختلاف بين مَنْ يستخدم مصطلحًا لا يعرف شيئًا عنه، ومن يتحدث أو يكتب عن مفكر أو فيلسوف لم يقرأه.

الاستسهال، في بعض الأحيان، تشتد خطورته، ليصل حدود إبداء الرأي وإطلاق الأحكام، بالاعتماد على بعض المعطيات المجزوءة، مثل الحكم على العرب، أقصد عرب ما قبل الدعوة الإسلامية، بأنهم أنتجوا الكثير من الشعر وبعض الخطب، أما العلوم وسائر المعارف، فلم يعرفوا شيئًا منها

لكنّ الاستسهال، في بعض الأحيان، تشتد خطورته، ليصل حدود إبداء الرأي وإطلاق الأحكام، بالاعتماد على بعض المعطيات المجزوءة، مثل الحكم على العرب، أقصد عرب ما قبل الدعوة الإسلامية، بأنهم أنتجوا الكثير من الشعر وبعض الخطب، أما العلوم وسائر المعارف، فلم يعرفوا شيئًا منها. هذا الرأي هو السائد بين الباحثين بخصوصهم، ومن نوعه، الرأي في أن كلمة "ثقافة" عند العرب كانت مجرد كلمة لغوية.

الآن، إذا أخذنا بتعريف المثقف، الخطوط العريضة التي أشرت إليها، فسنجد صعوبة في اعتبار هؤلاء - وقد أخذوا الأسهل طريقًا لهم - من المثقفين، بل إنهم لا يقتربون، ولو قليلًا، من أيٍّ من التعريفات التي ذكرناها؛ فلا هم مثقفون حسب أنطونيو غرامشي ولا حسب جوليان بندا، ولا هم مثقفون كما يرى إدوارد سعيد أنه المثقف، ولا كما رأى العرب.

 ..........

إحالات:

[1] Edward Tylor, Primitive culture: researches into the development of mythology, philosophy, religion, language, art, and custom, Vol. 1 (London: John Murray, 1920), pp. 1.

[2] Tim Edensor, National Identity, Popular Culture and Everyday Life (Oxford: Berge, 2002), pp. 12.

[3] Albert Blumenthal, A New Definition of Culture, American Anthropologist, Vol. 42, No. 4, Part 1 (New Series, 1940), pp. 571-586.   

[4] إدوارد سعيد، صور المثقف، ترجمة غسان غصن (بيروت: دار النهار، 1996)، ص 21-22.

[5] المرجع نفسه، 27-28.

[6] Julien Benda, The Treason of the intellectuals, trans. Richard Aldington (London: Transaction Publishers, 2009), pp. 52

[7] إدوارد سعيد، المرجع نفسه، ص 23.

[8] Antonio Gramsci, Selections From The Prison Notebooks, edited and translated by Quintin Hoare and Geoffrey Nowell Smith (New York: International Publishers, 1992), pp. 9.

[9]  المرجع نفسه، 5.

[10] ابن منظور، لسان العرب، مادة: ث ق ف.

[11] مالك بن نبي، مشكلة الثقافة (دمشق: دار الفكر، 1984)، ص 74.

[12] أبو منصور عبد الملك بن محمد الثعالبي، فقه اللغة وأسرار العربية، تحقيق ياسين الأيوبي، (بيروت: المكتبة العصرية، 2000)، ص 43.

[13] زكي ميلاد، المسألة الثقافية: من أجل بناء نظرية في الثقافة (بيروت: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، 2010)، ص 23.

 

 

جمال ضاهر

 

روائيّ وباحث في مجال المنطق وعرب ما قبل الدعوة الإسلاميّة. رئيس دائرة الفلسفة والدراسات الثقافيّة في جامعة بير زيت، ومدير برنامج ماجستير الدراسات العربيّة فيها. ممّا صدر له: "‘عند حضور المكان" (رواية، 2000)، "وأضحى الليل أقصر" (رواية، 2005)، "مفاهيم في المنطق، أسس وقواعد" (2010)، "قواعد في المنطق: أسس ومفاهيم" (2012)، "العدم" (رواية، 2013).