مقدسيّون بلا قدس... حاجز قلنديا وكفر عقب

كفر عقب، الجزيرة

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

يتدفّق الجسد الفلسطينيّ يوميًّا من خلال حواجز الاستعمار، دخولًا إلى الضفّة الغربيّة وخروجًا منها إلى القدس والأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1948، محاولةً من المستعمِر تأميم الجسد الفلسطينيّ قدر المستطاع عبر التحكّم في نفاذيّته في الفضاءات المختلفة.

ولعلّ التأمّل في حالة «حاجز قلنديا»، يتيح لنا الوقوف على سيميولوجيا الحاجز عند المقدسيّين وحضوره اليوميّ المعيش، لنطرح أسئلةً: هل نجح المستعمِر بالحاجز في إبعاد المقدسيّين عن فضاء مدينتهم، إشغاله والنفاذ فيه؟ وبماذا يختلف الحاجز في حالة المقدسيّين عن باقي الفلسطينيّين؟

 

حاجز الغيتو

يمثّل «حاجز قلنديا» مادّة إنفاذ قانونيّة استعماريّة ضمن جدار المنع الأمنيّ، وعنده تُخْلَق أزمة مكتظّة، وكذلك في الطرق الموصلة إليه، ويُفَتَّشُ المارّون ويُدَقَّقُ في وثائقهم، وتُخْضَع أجسادهم لمسالك وبوّابات وأقفاص وأبراج مراقبة، وفيه يُدار الوقت المستعمَر، وكلّ ذلك من أجل فرض السلطة وخلق الدولة في خيال الفلسطينيّين النافذين، عبر إذعان ذواتهم وتهيئة أنفسهم للانتقال إلى فضاء آخر؛ فضاء عبر السلطة. بل إنّ الجسد الفلسطينيّ سيُمارسَ ضدّه العنف في الحاجز، حدّ إلغائه تمامًا بتصفيته باستسهال، لذرائع أمنيّة مختلفة.

وليس«حاجز قلنديا» في المخيال المقدسيّ كأيّ حاجز كلاسيكيّ، لارتباطه بغيتوهات الحشر والإزاحة، مثل كفر عقب ومحيطها؛ فهو من مسبّبات جعل حياة كثير من المقدسيّين في أزمة مستمرّة...

وليس«حاجز قلنديا» في المخيال المقدسيّ كأيّ حاجز كلاسيكيّ، لارتباطه بغيتوهات الحشر والإزاحة، مثل كفر عقب ومحيطها؛ فهو من مسبّبات جعل حياة كثير من المقدسيّين في أزمة مستمرّة، وتحديدًا مع اضطرارهم العيش في تجمّعات سكنيّة مثل كفر عقب، تدفعم إلى ذلك سياسات مخالفات البناء والضرائب المرتفعة والهدم في القدس، وكذلك تشديد الاستعمار على إنفاذ توصيات «لجنة غافني» عام 1973، الساعية إلى عدم تجاوز نسبة السكّان العرب في المدينة الـ 26/76 لصالح اليهود[1]؛ ما يجعل الحاجز جزءًا من منظومة صناعة إفقار وتشتيت وتحديد ديموغرافيّ، ومن ضمن هذه المنظومة تعقيدات بطاقة الهويّة وتسجيل العنوان ودفع مخصّصات التأمين الوطنيّ.

 

تحوّلات جيوسياسيّة

يناقش سليم تماري التحوّلات الّتي طرأت على مدينة القدس تاريخيًّا واجتماعيًّا، ارتباطًا بـ «اتّفاق أوسلو» وتبعاته على المدينة 1993-2000؛ إذ حُرِمَ المقدسيّون من بطاقة الهويّة الخضراء - بطاقة السلطة الفلسطينيّة، وأُلزموا ببطاقة هويّة الإقامة، لا هويّة المواطنة الإسرائيليّة، وذلك تبعًا لقرار تقسيم المناطق أ، ب، ج. وقد عُزِلَت القدس من خلال جدار المنع الأمنيّ، وأصبحت زيارة لندن أسهل من زيارتها لكثير من الفلسطينيّين[2]!

وبالتزامن مع بناء جدار المنع الأمنيّ، وحظر دخول فلسطينيّي بطاقة الهويّة الخضراء إلى القدس، وحصر إقامة مقدسيّي الهويّة الزرقاء، بدأ العمل على نقل الحاجز العسكريّ - الّذي يتشابه مع باقي الحواجز العسكريّة - من منطقة «ضاحية البريد» إلى منطقة «قلنديا»، ليصمّموه كأنّه نقطة عبور دوليّة، ويسمّوه «معبر قلنديا».

بالتزامن مع هذه التحوّلات الجيوسياسيّة في مدينة القدس ومحيطها، كانت تنشأ فضاءات وأحياز فقر وعشوائيّات وتجمّعات سكّانيّة لامدينيّة، في محيط الحاجز، من بينها كفر عقب شرق الجدار. ويسمح المستعمِر بالنفاذ «الطبيعيّ» نحو كفر عقب ومحيطها والإقامة هناك، ليكون هذا الحيّز وليد سياسات الاستعمار وخادمًا لها!

 

«حاجز قلنديا»، أ ف ب

 

فضاء عموميّ مشوّه وسيطرة مُسْتَبْطَنَة

يرى هابرماس أنّ الفضاء العموميّ، الّذي تتموضع فيه عمليّة إنتاج السلع وتبادلها، وحيث تنشأ جميع العلاقات الاقتصاديّة ومختلف العلاقات الأخرى، ويخضع المجتمع المدنيّ للقوانين الاقتصاديّة[3]، يرى أنّ تطوّره السياسيّ ارتبط بالمجال الأدبيّ، بسبب ما تميّزت به المدينة من أحياز مثل الصالون والمقهى؛ فقد أصبحت الدولة من خلال الرأي العامّ تتواصل مع احتياجات المجتمع[4].

ويُعْتَبَر الفضاء العموميّ كلّ ما ينفذ الجسد إليه فيزيائيًّا ولا فيزيائيًّا؛ فالنفاذيّة أهمّ المحدّدات للعموميّة. إنّ العموميّة بالضرورة هي الّتي تكفل حرّيّة تنقّل الأفراد والسلع، ومن ثَمّ التمثّلات الاجتماعيّة الّتي تخلق صورة المدينة، ومن هذا المنطلق فإنّ العموميّة تحتمل الحرّيّة في الحديث، ديمقراطيًّا، وحملها الآخر يكون في الحركة، أي ممارسة الحقّ في المدينة[5].

انطلاقًا من الواقع الاستعماريّ في فلسطين ومدينة القدس تحديدًا، نطرح تساؤلاتنا: ما واقع الفضاء العموميّ في مدينة القدس؟ وهل يشكّل الحاجز وحضوره كمعبر في المخيال المقدسيّ آلة زمكانيّة لتحديد هذا الفضاء وتعريفه؟ وهل تشكّل كفر عقب حالة مشوّهة من العموميّة، الناتجة عن الإبعاد القسريّ للفلسطينيّين عن فضاء القدس؟

ويرى فوكو أنّ التغييرات الطبوغرافيّة والعمرانيّة تساهم في صناعة استبطان السيطرة؛ إذ يعمل المُسَيْطَر عليهم على تشكيل فضائهم العموميّ وإعادة الإنتاج الاجتماعيّ من خلال تمثّلات سلطويّة. وإنّ كفر عقب كحيّز أدّت إليه سياسات الاستعمار، يمثّل نموذجًا لصناعة استبطان سيطرة استعماريّ لدى الساكنين فيها

ويرى فوكو أنّ التغييرات الطبوغرافيّة والعمرانيّة تساهم في صناعة استبطان السيطرة؛ إذ يعمل المُسَيْطَر عليهم على تشكيل فضائهم العموميّ وإعادة الإنتاج الاجتماعيّ من خلال تمثّلات سلطويّة. وإنّ كفر عقب كحيّز أدّت إليه سياسات الاستعمار، يمثّل نموذجًا لصناعة استبطان سيطرة استعماريّ لدى الساكنين فيها، وتحديدًا المقدسيّين.

 

حيّز لإثبات الوجود

كفر عقب البلدة، فلسطينيّة إداريًّا، ولها مجلس قرويّ، دون أيّ دلالة سميواجتماعيّة لقروّيتها أو مدنيّتها، أمّا الطفرة العمرانيّة شبه الحضريّة غير المنظّمة في محيطها، فهي ترتبط بعوامل عدّة، أهمّها عدم ممارسة سلطة إداريّة في هذا المحيط، إن كان من السلطة الفلسطينيّة أو الاستعمار الإسرائيليّ[6]. خلوّ هذه المنطقة من أدوار السلطات عليها، يعفيها من الضرائب والالتزامات للمجالس القرويّة والبلديّة، ومن أهمّها أذونات البناء وما يرافقها؛ فيغدو البناء في هذه المنطقة حالة استثماريّة رخيصة، مقارنة بمناطق أخرى، ما يجعل المقاولين والمعماريّين يبنون أبنية ذات طوابق عالية، تحقيقًا لأكبر قدر من الربح؛ ولذلك فإنّ كثيرًا من المقدسيّين يفضّلون الإقامة فيها، خاصّة أنّها تتبع لنفوذ بلديّة الاستعمار في القدس قانونيًّا، وإن كانت البلديّة لا تقدّم لها خدماتها، ما يسمح للمقدسيّين بالسكن فيها دون خسارة الإقامة الّتي تتيح لهم البقاء على صلة مع القدس والنفاذد إليها.

يعمل الاستعمار على ترك هذا الفضاء دون سلطة إداريّة أو تقديم أيّ خدمات، عدا مراقبة السكّان؛ فعلى مَنْ يحمل هويّة الإقامة الدائمة في القدس، أن يثبت - وبشكل دائم - وجوده ضمن منطقة تابعة للمدينة وضريبتها، ولذلك فإنّ موظّفي التأمين الوطنيّ والضرائب يلاحقون الجسد الفلسطينيّ بكاميراتهم وغير ذلك من أدوات مراقبة في هذه المنطقة، هذه هي الخدمة الوحيدة[7]!

ومع هذه الإرهاصات جميعها، تتحوّل كفر عقب إلى فضاء للمبيت والنفاذيّة عبر الحاجز يوميًّا، وحيّز لإثبات الوجود بعيدًا عن أزمة الحياة الاقتصاديّة والسياسيّة في القدس.

 

 

ومن جانب آخر، فإنّ الضوابط الاجتماعيّة في كفر عقب لا تنبثق عن النظام العائليّ المسيطر في باقي المدن والقرى الفلسطينيّة، فهذا النظام ليس الضابط في هذه المنطقة؛ فهي تجمّع سكّانيّ ناتج عن المعاناة والبحث عن ديمومة الإقامة، تحكمه "الخاوة" واستفحال رأس المال غير المراقب.

يصرّ المقدسيّون على التمسّك بوضعيّة الإقامة الدائمة، الّتي تسمح بنفاذيّتهم للقدس مكانًا، مدينتهم، على الرغم من كلّ عمليّات الإزاحة؛ يحاولون بمختلف الوسائل الصمود أمام سجن الجدار وسجن الحاجز وسجن الأزمة والفوضى، وإن كان الثمن عدم القدرة على الاستقرار في الزمان أو المكان، والانتقال الاضطراريّ عبر فضاءات شوّهها المستعمِر.

..........

إحالات:

[1] سليم تماري، "مستقبل القدس: مدينة مقدّسة أم مدينة مفتوحة"، مجلّة شبكة السياسات الفلسطينيّة، 17/07/2011، شوهد في 24/10/2020، في: https://bit.ly/3mno9PN

[2] المرجع نفسه.

[3] نوار ثابت، "الفضاء العامّ عند هابيرماس: في المفهوم والتحوّلات التاريخيّة"، مجلّة جامعة النجاح للأبحاث، العدد 3 (2019)، ص 5-12.

[4] المرجع نفسه.

[5] ستيفان تونيلا، "سسيولوجيا الفضاءات الحضريّة العامّيّة"، مجلّة إضافات، العدد 46 (2019)، ص 2-7.

[6] أباهر السقّا وجميل هلال، قراءة في بعض التغيّرات السسيوحضريّة في رام الله وكفر عقب (رام الله: مركز دراسات التنمية - جامعة بير زيت، 2015).

[7] دعاء حمودة وآخرون، "ما وراء الحيّز المكانيّ: القدس الشرقيّة، كفر عقب، وسياسات المعاناة اليوميّة"، مجلّة الدراسات الفلسطينيّة، عدد 65 (2016)، ص 4-10.

 

 

* تُنْشَر هذه المادّة ضمن ملفّ «العاصمة»، الّذي تخصّصه فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لتسليط الضوء على الفعل الثقافيّ في مدينة القدس، والمتعلّق بها، وذلك بالتزامن مع الذكرى العشرين «لانتفاضة القدس والأقصى»، وفي ظلّ السياسات الحثيثة والمتزايدة لنزع فلسطينيّة وعروبة المدينة.

 

 

إيهاب بزاري

 

 

خرّيج علم نفس وعلم اجتماع في جامعة بيرزيت. يعمل في مؤسّسة «تامر للتعليم المحتمعيّ» منسّقا للشباب والحملات، يهتمّ بحقل العلوم الاجتماعيّة.

 

 

 

مواد الملف

"العاصمة"... القدس والفعل الثقافيّ | ملفّ

لا أحبّ الكتابة عن القدس

لا أحبّ الكتابة عن القدس

المقدسيّون وقضاياهم في الرواية العربيّة

المقدسيّون وقضاياهم في الرواية العربيّة

الوقف في القدس... المكانة والتحدّيات القانونيّة

الوقف في القدس... المكانة والتحدّيات القانونيّة

الرباط والمرابطات: تحوّلات النضال الشعبيّ في القدس

الرباط والمرابطات: تحوّلات النضال الشعبيّ في القدس

"زفّة وزغرودة يا بنات" ... أغانٍ تراثيّة بمزاجٍ مقدسيّ

مركز جماهيريّ في القدس... لماذا يوزّع حاويات نفايات على الفلسطينيّين؟

مركز جماهيريّ في القدس... لماذا يوزّع حاويات نفايات على الفلسطينيّين؟

تطييف يهود القدس... سياسات الاختراق المبكر

تطييف يهود القدس... سياسات الاختراق المبكر

سهيل خوري: فلسطينيّ يعزف بيتهوفن... يهدّد إسرائيل | حوار

سهيل خوري: فلسطينيّ يعزف بيتهوفن... يهدّد إسرائيل | حوار

يحصل في القدس... يشجّعون التشجير ويقلعون الأشجار!

يحصل في القدس... يشجّعون التشجير ويقلعون الأشجار!

أداء فلسطين – مقاومة الاحتلال وإعادة إنعاش هويّة القدس الاجتماعيّة والثقافيّة عبر الموسيقى والفنون

أداء فلسطين – مقاومة الاحتلال وإعادة إنعاش هويّة القدس الاجتماعيّة والثقافيّة عبر الموسيقى والفنون

نادرة شلهوب كيفوركيان: ذهاب عبير إلى المدرسة فعل مقاوم | حوار

نادرة شلهوب كيفوركيان: ذهاب عبير إلى المدرسة فعل مقاوم | حوار

بالشمع الأحمر... هكذا أغلقت إسرائيل أكثر من مئة مؤسّسة مقدسيّة

بالشمع الأحمر... هكذا أغلقت إسرائيل أكثر من مئة مؤسّسة مقدسيّة

القدس في الأغنية العربيّة... حنين للحنٍ حرّ

القدس في الأغنية العربيّة... حنين للحنٍ حرّ

«إيليا للأفلام القصيرة»... وُلد في القدس ويحلم بالعالميّة | حوار

«إيليا للأفلام القصيرة»... وُلد في القدس ويحلم بالعالميّة | حوار

تقسيم الأقصى... توفيق بين الخلافات اليهوديّة على القدسيّة

تقسيم الأقصى... توفيق بين الخلافات اليهوديّة على القدسيّة

القدس في أدب الطفل... أيّ مستوًى مطلوب؟

القدس في أدب الطفل... أيّ مستوًى مطلوب؟

رند طه... أن تكوني راقصةً من القدس وفيها | حوار

رند طه... أن تكوني راقصةً من القدس وفيها | حوار

مناهج «المعارف»... هل يستطيع المقدسيّون مقاومة الأسرلة وحدهم؟

مناهج «المعارف»... هل يستطيع المقدسيّون مقاومة الأسرلة وحدهم؟

القدس في الأرشيفات الفرنسيّة

القدس في الأرشيفات الفرنسيّة

"باب الأسباط": قراءة سوسيولوجيّة للهبّة وانتصارها

سياحتان في القدس... محوًا وتحرّرًا

سياحتان في القدس... محوًا وتحرّرًا

يصنعون أفراحًا في القدس

يصنعون أفراحًا في القدس

هكذا تسيطر إسرائيل على تعليم المقدسيّين

هكذا تسيطر إسرائيل على تعليم المقدسيّين

أوجاع القدس... من «رامي ليفي» حتّى الإمارات والبحرين

أوجاع القدس... من «رامي ليفي» حتّى الإمارات والبحرين